إنّ مرافقة سالكي الصراط المستقيم مع المُنعَم عليهم: (وهم الأنبياء والصدّيقون والشهداء والصالحون) لاتقتصر علىٰ الكون معهم في الجنّة ومرافقتهم في المضيّ علىٰ الطريق، بل انّ السالك علىٰ الصراط يستطيع أن يتوقَ إلىٰ ما هو أعلىٰ من ذلك فينال مقام الصدق والشهادة والصلاح، فيدخل في سِلكهم وجمعهم ويرتفع من درجة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾[1] أي (معهم) إلىٰ درجة (منهم).
طبعاً انّ المقام الرفيع للرسالة مغلق إلىٰ الأبد في وجه السالكين، ومن طمع فيه فهو خائب إلىٰ النهاية، لكنّ طريق (الصدق والشهادة والصلاح مفتوح دائماً أمام السائرين علىٰ الصراط المستقيم.
والسالكون علىٰ الصراط الّذين يواصلون مسيرة سلوكهم، لايدخلون في جمع الصدّيقين والشهداء والصالحين فحسب، بل يمكنهم إذا امتثلوا أوامر القرآن بالمسارعة والإستباق أن يصبحوا من الطلائع في هذه المكرمات والفضائل والقيم.
بيان ذلك: انّ القرآن في البداية يأمر سالكي الصراط المستقيم بـ: (المسارعة)[2]: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماوَاتُ وَالأَرْض﴾.[3] وبعد ذلك يأتي الأمر بـ(الاستباق). فالأمر الأوّل يتعلّق بالسالك نفسه، والأمر الثاني يرتبط بعلاقة السالك مع الآخرين: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات﴾.[4] فالسالك الّذي يسارع في المسير يستطيع أن يَسبقَ الآخرين دون أن يعترض سلوك الآخرين أو يصطدم بهم وأن ينازعهم، لانّ الصراط المستقيم طريق خال من النزاع والزحام. فإذا كان الآخرون علماءَ وعدولاً وشجعاناً فهو يستطيع أن يكون أعلم وأعدل وأشجع منهم.
والّذي يحوز علىٰ قصب السبق ويتقدّم علىٰ الآخرين فهو جدير بإمامة الآخرين وقيادتهم. ولهذا فإنّ دعاءَ السابقين كما يعلّمنا القرآن هو: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَام﴾[5] وثمرة هذه الإمامة هي قيادة الآخرين من السائرين علىٰ الصراط المستقيم كي يبدأوا أيضاً بالمسارعة ثمّ يكونوا من أهل الإستباق وبالنتيجة يصلون إلىٰ مقام إمامة المتّقين الآخرين.
وعلىٰ هذا، فالسالكون في الصراط المستقيم يتمكّنون من بعد إجتيازهم مرتبة الكون (مع) الصدّيقين والشهداء والصالحين أن يكونوا (منهم). ويبقىٰ طريق الرسالة والنبوّة مسدوداً في وجه الآخرين، لانّها مقام إلٰهيّ يتمّ بجعل من الله سبحانه لمن يراهم أهلاً له: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه﴾[6]، لكنّ طريق الولاية وامامة المتّقين والإيمان والعمل الصالح مفتوح دائماً أمام السالكين الصالحين. ولهذا فإنّ أفراداً (كسلمان الفارسي) قد اجتازوا مرتبة المعيّة وبلغوا مقاماً شامخاً فأصبح يقال في حقّهم «منّا أهل البيت»[7] ومثل (الخادمة فضّة) الّتي شاركت أهل البيت في فضيلة نزول سورة (هل أتىٰ) في حقّهم.[8]
والنتيجة هي انّ الإنسان بالمعرفة والعمل واجتياز مراحل المسارعة والإستباق والإمامة يتمكّن من أن يرتفع من رتبة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ إلىٰ رتبة (من الذين...).
وأهمّ عامل في رقيّ السالكين في الصراط المستقيم من المعيّة والمصاحبة إلىٰ الصيرورة في سلك (المنعم عليهم) هو العلم والعمل، وفي هذا الطريق لايكفي توفّر أحدهما دون الآخر، لكنْ أيّهما أكثر أهميّة من الآخر؟ هنا ينبغي أن يقال انّ جميع الناس متساوون في شكل العمل، سواء كانوا من الأولياء أو من متوسّطي الإيمان، لكنّ الّذي يرفع قيمة عمل أولياء الله هو المعرفة والمحبّة. كما انّ في العبادة أيضاً يكون شكل العمل وظاهره متساوياً بين جميع العابدين، واختلاف درجات العبادة يكون بالمعرفة والنيّة، لانّ البعض يعبدون الله خوفاً من عذابه وهي عبادة (العبيد)، والبعض يعبدون الله شوقاً إلىٰ جنّته وهي عبادة (التجّار)، وهناك فئة يعبدون الله حبّاً له لا خوفاً من النار ولا شوقاً الىٰ الجنّة، وهذه هي عبادة (المشتاقين والمحبّين).
فاُولئك الّذين عرفوا الله بدرجة عالية وأخذت محبّة الله بمجامع قلوبهم فعبادتهم ليست خوفاً من جهنّم ولا شوقاً إلىٰ الجنّة، حيث انّهم عارفون بكرم الله ويعلمون انّه لايعذّب أحبّاءه بل يفيض عليهم عطاياه ومواهبه. لكنّ الّذين لم يبلغوا هذا المستوىٰ من المعرفة، ولا يعرفون سوىٰ غضب الله وكرمه فاُولئك يعبدون خوفاً من النار أو طمعاً بدخول الجنّة.
إذن فوسيلة العبور من مرحلة ﴿مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم﴾ إلىٰ رتبة (من الذين...) هو بلوغ الإنسان درجة المعرفة والعلم الكامل بالله سبحانه وأسمائه الحسنىٰ والعمل الصالح طبقاً لتلك المعرفة. طبعاً يوجد بين المعرفة والعمل ارتباط وثيق ومتبادل، لانّ المعرفة وسيلة للعبادة الخالصة والعبادة الخالصة عامل لزيادة المعرفة وتنميتها، فكلّ درجة من العلم تتبعها مرتبة من العبادة وكلّ عبادة ترفع الإنسان درجة في مراتب العلم والمعرفة، إذن فروح وحياة العمل في المعرفة، وعلىٰ هذا الأساس فإنّ رفع درجة المؤمن يتمّ في ظلّ معرفته. فالمؤمن له درجة والمؤمن العالم له درجات كما قال تعالىٰ: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات﴾.[9]
آية الله الشيخ جوادي آملي
[1] . سورة النساء، الآية 69.
[2] . المسارعة أمر مطلوب وهي صفة للحركة، والعجلة أمر غير مرغوب وهي صفة للمتحرك.
[3] . سورة آل عمران، الآية 133.
[4] . سورة المائدة، الآية 48.
[5] . سورة الفرقان، الآية 74.
[6] . سورة الانعام، الآية 124.
[7] . البحار، ج22، ص374.
[8] . مجمع البيان، ج9 ـ 10، ص611.
[9] . سورة المجادلة، الآية 11. في القسم الأوّل من هذه الآية حين ذكر المؤمن، حذفت كلمة (درجة) الّتي هي مفعول أو تمييز، ولكن في القسم الثاني حيث ذكر المؤمن العالم فانّها ذكرت ولم تحذف وتقدير الآية يكون هكذا: (يرفع الله الّذين آمنوا منكم [درجةً] والّذين اُوتوا العلم درجات).