قِوامُ الدِّينِ والدُّنْيا
ربيع الثاني
«يا جَابِرُ، قِوَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ، عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَه، وجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وجَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِه، وفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه، فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَه، اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِه، بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه».
عدد الزوار: 418
عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ الأنصاريِّ (رضيَ اللهُ عنهُ) قال: مرِضْتُ فعادَني أميرُ المؤمنينَ عليٌّ (عليه السلام)، فلمّا جلس قالَ (عليه السلام): «يا جَابِرُ، قِوَامُ الدِّينِ والدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ، عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَه، وجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وجَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِه، وفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه، فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَه، اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ، وإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِه، بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَه بِدُنْيَاه».
الدنيا في صورتِها المشرِقةِ، والتي تكونُ بالفعلِ معبراً للآخرة، هي الدنيا التي تجتمعُ فيها هذه العناصرُ الأربعة، فكُلُّ واحدٍ رُكنٌ يَسُدُّ باباً مِن أبوابِ المنكَرِ في هذه الدنيا، واجتماعُهُم يُعطي الصورةَ المتكاملة.
1- عالمٌ مستعمِلٌ: فالعِلْمُ حاجةٌ للإنسانِ، والمجتمَعاتُ قائمةٌ على العِلْمِ، والتطوُّرِ البشريِّ، والحضاراتِ، وموتُ الحضاراتِ بموتِ العِلْمِ فيها، واستعمالُ العلمِ بمعنى العملِ به، ومِن مظاهرِ ذلك تعليمُهُ الناسَ ونشرُهُ بينهم، ففي الروايةِ عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «الْعِلْمُ مَقْرُونٌ بِالْعَمَلِ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ. وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ عَنْه».
بل إنَّ الرِّفعةَ والمكانةَ والمنزلةَ التي جعلها اللهُ -عزَّ وجلَّ- للعلم هي بالعمل، فعنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وَقَفَ عَلَى اللِّسَانِ، وَأَرْفَعُهُ مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ وَالْأَرْكَان».
2- جاهلٌ متعلِّمٌ: أن يُقدِمَ الجاهلُ على التعلُّمِ، وذلك من خلالِ التواضعِ لطلبِ العلمِ، وعدمِ اعتبارِ ذلك مَنقَصةً. كما أنَّ العِلمَ يحتاجُ إلى صبرٍ مِن قِبَلِ المتعلِّمِ، وإلى ذلك أشار الإمامُ عليٌّ (عليه السلام): «وَلَا يَسْتَحِيَنَّ أَحَدٌ إِذَا لَمْ يَعْلَمِ الشَّيْءَ أَنْ يَتَعَلَّمَهُ، وَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ».
3- غنيٌّ جوادٌ: فاللهُ -عزَّ وجلَّ- جعلَ المالَ وسيلةً لقضاءِ حاجاتِ الخَلْقِ، فإذا جاد الغنيُّ سارَ الخَلْقُ إلى غايتِهِم بما توافَرَ لهم مِن نِعَمِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-. والجودُ يدُلُّ على كرمِ طبيعةِ هذا الإنسانِ، ويجعلُ له منزلةً بين الناسِ، وذلك خلافاً للبخلِ؛ فإنّهُ موجِبٌ للمَذَلَّةِ، فقد وَرَدَ عنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام): «جُودُ الْفَقِيرِ يُجِلُّهُ، وَبُخْلُ الْغَنِيِّ يُذِلُّه».
4- فقيرٌ لا يبيعُ آخرتَهُ: فبلاءُ الفقرِ لا يجعلُهُ ناسياً ولا غافلاً عن حقيقةِ الدنيا، وأنّها طريقٌ للآخرةِ، فقد وَرَدَ عن أبي ذَرٍّ (رحمه اللهُ) أنهُ قالَ: «ثَلَاثَةٌ يُبْغِضُهَا النَّاسُ وَأَنَا أُحِبُّهَا: أُحِبُّ الْمَوْتَ، وَأُحِبُّ الْفَقْرَ، وَأُحِبُّ الْبَلَاءَ». قال أبو عبدِ اللهِ (عليه السلام): «إِنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى مَا يَرَوْنَ، إِنَّمَا عَنَى: الْمَوْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْحَيَاةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْفَقْرُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الْغِنَى فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَالْبَلَاءُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الصِّحَّةِ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ».
وفي تتمَّةِ الروايةِ بيانٌ للصورةِ المعاكِسةِ لِما سبقَ، حيث ورد فيها عنهُ (عليه السلام): «فَإِذَا كَتَمَ الْعَالِمُ (الْعِلْمَ أَهْلَهُ)، وَزَهَا الْجَاهِلُ فِي تَعَلُّمِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَبَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ، وَبَاعَ الْفَقِيرُ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، حَلَّ الْبَلَاءُ، وَعَظُمَ الْعِقَاب».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين