يتم التحميل...

حينما قدم وفد نجران إلى المدينة..

إضاءات إسلامية

حينما قدم وفد نجران إلى المدينة..

عدد الزوار: 102


 
تقع «نجران» بقراها السبعين التابعة لها، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية([1]) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران([2]) «أبو حارثة» يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب:
«بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم الله إله إبراهيم واسحاق([3]) ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد، فان أبيتم فالجزية، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام».

واضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب([4]) والتي تدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار.
 
قدم سفير رسول الله (صلى الله عليه وآله) نجران وسلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية، وكان أحد أعضاء هذه المجموعة «شرحبيل» الذي عرف بعقله ونبله، وتدبيره وحكمته، فقال في معرض الاجابة على استشارة الاسقف اياه: قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل، ليس لي في النبوة رأي، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ودراسة دلائل نبوته، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران وأعقلهم، وكان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم:
1 ـ «أبو حارثة بن علقمة» اسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.
2 ـ «عبد المسيح» رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه، وتدبيره.
3 ـ «الأيهم» وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران([5])

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة ودخلوا المسجد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يلبسون أزياءهم الكنسيّة ويرتدون الديباج والحرير، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في اعناقهم، فأزعج منظرهم هذا وخاصة في المسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك، فسألوا «عثمان بن عفان» و«عبد الرحمن بن عوف» وكانت بينهم صداقة قديمة، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟
قال: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.
 ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله) فسلّموا عليه فرد، واحترمهم، وقبل بعض هداياهم التي أهدوها إليه (صلى الله عليه وآله)، ثم إن الوفد ـ قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي (صلى الله عليه وآله) قالوا: إن وقت صلاتهم قدحان واستأذنوه في أدائها، فأراد الناس منعهم ولكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذن لهم وقال للمسلمين: دعوهم، فاستقبلوا المشرق، فصلّوا صلاتهم ([6]).
وبذلك اعطى النبي (صلى الله عليه وآله) درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين.
 
مفاوضات وفد نجران مع النبي:
لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة، والمحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ واكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين والمؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني([7]). وكتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل([8])، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب، ولهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواة الحلبي في سيرته([9]).

عرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) على وفد نجران وتلا عليهم القرآن، فامتنعوا وقالوا: قد كنّا مسلمين قبلك.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كذبتم، يمنعكم من الإسلام ثلاث: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أنّ لله ولدا.
فقالوا: المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى، وأخبر عن الغيوب، وأبرأ من الأدواء كلها، وخلق من الطين طيرا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) هو عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم.
فقال أحدهم: المسيح ابن الله لأنّه لا أب له.
فسكت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى:
«إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب»([10]).
فقال وفد نجران: إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تباينا، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة الله على الكاذبين([11]).
فانزل الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ»([12]).
فدعاهم إلى المباهلة، فقبلوا، واتفق الطرفان على ان يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.
 
 خروج النبي للمباهلة:
تعتبر قصة مباهلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرخين في رواية تفاصيلها، وتحليلها، إلاّ أنّ ثلة كبيرة، من العلماء كالزمخشري في الكشاف([13]) والإمام الفخر الرازي في تفسيره([14]) وابن الاثير في الكامل([15]) أعطوا حق الكلام في هذا المجال وها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال:
حان وقت المباهلة... وكان النبي (صلى الله عليه وآله) ووفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة، في الصحراء... فاختار رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم، وهؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالب (عليه السلام) وفاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسن والحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا، ولا أقوى وأعمق إيمانا.
طوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسافة بين منزله، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة، فقد غدا محتضنا الحسين([16]) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها، وهو يقول: إذا دعوت فأمّنوا.
كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض ـ قبل أن يغدو رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المباهلة: انظروا محمّدا في غد، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنه ليس على شيء. وهم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بأبهة مادية، وقوة ظاهرية، تحف به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه، وإذا أتى بولده وأبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية وتوجه إلى الله بهم وتضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه، حيث استجرأ على تعريض أعزته، وأفلاذ كبده، وأحبّ الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض نفسه له، وعلى ثقته بكذب خصمه.
وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة، كيف خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) بابنته الوحيدة، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة، فأدركوا أن النبي (صلى الله عليه وآله) واثق من نفسه ودعوته وثوقا عميقا، اذ ان المتردد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه وأعزته ويعرضهم للبلاء السماوي.
ولهذا قال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة([17]).
 
إنصراف وفد نجران عن المباهلة:
لما رأى وفد نجران هذا الأمر (وهو خروج النبي بأحبّته وأعزته) وسمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبي (صلى الله عليه وآله)، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، وتقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله):
«أما والّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله».

عن عائشة: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج (أي يوم المباهلة) وعليه مرط ([18]) مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله، ثم فاطمة، ثم عليّ، ثم قال: «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً»([19]).

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام: وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام)، وفيه برهان على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.
 
 سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)، آية الله الشيخ جعفر سبحاني


([1]) ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان: ج 5 ص 266 ـ 277 علل اعتناقهم للمسيحية.
([2]) الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.
([3]) بحار الأنوار: ج 21 ص 285.
([4]) المراد من تلك الآية هو قوله تعالى: « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » (آل عمران: 64. الاقبال: ص 494).
([5]) السيرة الحلبية: ج 3 ص 211 و 212.
([6]) السيرة الحلبية: ج 3 ص 212.
([7]) هو محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبيد الله بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه‍ والمتوفى عام 387 ه‍.
([8]) من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص 496 ـ 513.
([9]) السيرة الحلبية: ج 3 ص 239.
([10]) آل عمران: 59.
([11]) بحار الأنوار: ج 21 ص 320، ولكن آية المباهلة، وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة « تعالوا ندع ابناءنا. .. ».
([12]) آل عمران: 61.
([13]) ج 1 ص 382 و 383.
([14]) مفاتيح الغيب: ج 2 ص 471 و 472.
([15]) ج 2 ص 112.
([16]) جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ (بحار الأنوار: ج 21 ص 338).
([17]) يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال »: أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعاراتهم من راياتهم واحسن شاراتهم وهيئتهم. .. ولبث رسول الله 9 في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على والحسن والحسين أمامه، وفاطمة 3 من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.
([18]) كساء.
([19]) الاحزاب: 33.

 
2020-08-14