كلمة الإمام الخامنئي في جامعة خاتم الأنبياء (ص) للدّفاع الجوّي التابعة للجيش
2019
كلمة الإمام الخامنئي في جامعة خاتم الأنبياء (ص) للدّفاع الجوّي التابعة للجيش
عدد الزوار: 157كلمة الإمام الخامنئي في جامعة خاتم الأنبياء (ص) للدّفاع الجوّي التابعة للجيش 30-10-2019
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين المنتجبين، سيما بقيّة الله في الأرضين.
أولًا، أبارك لكم جميعًا أيها الشباب الأعزاء، نور العيون الأحباء، سواء الشباب الذين حصلوا على رتبهم اليوم وتخرجوا ودخلوا في عِداد الضباط الشباب في جيش الجمهورية الإسلامية، أو الشباب الذين أخذوا اليوم كتفيّاتهم وانطلقوا ليبلغوا مرحلة الفعالية نسأل الله أن يوفّقكم جميعًا. أنتم الذين أخذتم الكتفية يوم أمس، وتسلّمتم اليوم الرتبة العسكرية، ودخلتم في مجموعة الضباط الشباب في جيش الجمهورية الإسلامية، وغدًا بإذن الله وتوفيقه ومنّه، ستغدون من قادة القوات المسلحة ومسؤوليها ومدرائها القديرين في بلدكم. ولقد أحسنتم تنظيم الساحة، فنشكر المنظّمين والمنفّذين لهذا العرض.
سأطرح عليكم أوّلًا نقطة أساسيّة أيها الشباب الأعزّاء. ومن بعدها عدة نقاط أخرى.
حضوركم في الجيش مسؤوليةٌ مقدّسة
النقطة الأساسيّة هي أنّ الحضور في جيش الجمهورية الإسلامية ليس مجرّد مهنة كغيرها من المِهَن التي يفتّش الإنسان عنها ويشغلها، إنما هو تقبّلٌ لمسؤولية مقدّسة. ما هي تلك المسؤولية المقدسة؟ إنها حفظ الأمن.
يشكّل الأمن واحدًا من أهم العوامل المطلوبة لدى المجتمع وأكثرها تأثيرًا. فإن فُقد الأمن فيه، لن يبقى ممكنًا القيام بأي عمل معتبر إيجابي في ذلك المجتمع. وإن انعدم الأمن في مجتمعٍ وتعرّض البلد لتهديد من الأعداء، لن يبقى ممكنًا القيام بأي عمل علمي بحثي في ذلك البلد، ولن يبقى مجال للفعالية الاقتصادية، ولا للعمل الفكري الثقافي. ففي المحيط غير الآمن، ينصرف كل شخص للحفاظ على حياته.
إنّكم في منظومة القوات المسلحة وجيش الجمهورية الإسلامية تحفظون أمن هذا البلد. وهذه لمسؤولية مهمة للغاية، حساسة، مقدّسة وقيّمة،. عليكم أن تقدّروا قيمتها جيّدًا. لذلك، فلو نويتم، أيها الشباب –يا أصحاب القلوب الطاهرة النقية- من الآن نية القربة في عملكم هذا، صار جلّ عملكم عبادة.. أي إنّ نفس هذه التدريبات التي تقومون بها والدروس التي تتلقّونها والمهام التي تنفّذونها والإنجازات الكبرى التي تُنجزونها كلّها تعتبر عبادة. لأنّ العمل إذا كان مقدّسًا، ونوى الإنسان فيه القربة، كان عبادة. وهذه هي الميزة الأساسية.
إنّ الأمن، كما ذكرتُ، قضية بالغة الأهمية. وإنّ أكبر ضررٍ يمكن للأعداء أن يلحقوه بأيّ بلد هو أن يسلبوا منه أمنه. الأمر الذي بدأوا به راهنًا في بعض بلدان منطقتنا. وهذا ما تشهدونه حيث راحوا يسلبون الأمن من شعوب تلك البلدان، ومفتعلو هذه الممارسات الخبيثة معروفون أيضًا. فاليوم، أخذت القوى الاستكبارية في العالم، وعلى رأسهم أمريكا والأجهزة الاستخباراتية الغربية، وبدعمٍ ماليٍّ من بعض الدول الرجعية في المنطقة، بافتعال أعمال الشغب في الدول المجاورة لنا والقريبة منّا وفي بلدان هذه المنطقة. ليسلبوا الأمن منها. وهذه أعتى أنواع العِداء وأخطر حالات الحقد والضغينة ضدّ الشعوب.
معالجة انعدام الأمن؛ الأولوية الأولى
ومن هنا أنتهز الفرصة وأخاطب الحريصين في هذه البلدان، كالعراق ولبنان، ممن يعانون من هذه المشاكل. وأوصيهم بأن يجعلوا معالجة انعدام الأمن أولويتهم الأولى. وليعلم شعبيهما أيضًا بأنه على الرغم من حملهم للمطالب المحقة، إلّا أن هذه المطالب لا يمكن تحصيلها إلّا ضمن الأطر القانونية. وما هدف العدو إلّا هدم هذه القوانين. فمتى ما تهدمت هذه البنية القانونية، وحلّ الفراغ في بلدٍ، لن يبقى هناك مجالٌ للقيام بأيّ عمل. فضلًا عن المبادرات الإصلاحية. وهم كانوا قد خططوا لمثل هذا في بلدنا العزيز. ولكن لحسن الحظ، حضر الناس إلى الشارع في الوقت المناسب مقدّمين أعلى مستويات الوعي. وكانت القوات المسلحة حاضرة أيضًا. وأحبطوا ذلك المخطط. إن هذه الوصفة لعلاج لكل البلدان التي تعاني من هذه المشاكل.
هذه هي النقطة الأولى: اِعلموا أنكم أنتم من تحافظون على الأمن؛ أي أنكم تحافظون على أهم مقدّرات الشعب، وهو المفتاح للمقدرات الأخرى.
بين جيش الجمهورية الإسلاميّة والجيوش الاستكباريّة
النقطة التالية هي المقارنة بين جيش الجمهورية الإسلامية في إيران وبين جيوش القوى الاستكبارية. لا شأن لي بكل جيوش العالم، فإني لا أعرفهم جميعًا ولا أريد الحديث بشأنهم، إنما كلامي يدور حول الجيوش الاستبكارية.
فلنقارن بين جيشنا، وأنتم شبابه وبراعمه المتفتحة توًا، وبين الجيوش الاستكبارية، وهناك اختلاف ماهويّ ذاتي عميق بينهما. فجيش الجمهورية الإسلامية، كما ذكرت، يعتبر نفسه حافظًا لأمن البلد، وهذه هي مسؤوليته الرئيسية، بينما نجد مهمة جيوش القوى الاستكبارية في الدرجة الأولى هي الهجوم والاغتصاب وتسديد الضربات للبلدان التي يمكنهم تسديد ضربة لها لأسباب ومصالح معينة.. هذا هو الفرق.
نحن لم نبتدئ بأي حربٍ في عهد الجمهورية الإسلامية على الإطلاق. كان الدفاع بقوة واقتدار في محلّه أما الهجوم والعدوان فأبدًا! إذ لا وجود للعدوان في فلسفة جيش الجمهورية الإسلامية ومنطق القوات المسلحة في نظام الجمهورية الإسلامية. ولكن إذا ما نظرتم إلى جيوش الدول الاستكبارية خلال الأعوام المئة المنصرمة - وإنما ذكرت الأعوام المئة لأني واقف على جزء هام من هذه الفترة وقد شاهدتها عن كثب، بمعنى أنها حدثت في زماننا - لوجدتم آثار جرائمها مشهودة خلال هذه السنوات المئة تقريبًا في جميع أرجاء العالم.
فالجيش البريطاني في شبه القارة الهندية، أي في باكستان والهند وبنغلادش اليوم، وكذلك في بورما ودول المحيط الهندي الصغيرة، قد ارتكب من الجرائم خلال القرن العشرين ما يثير اشمئزاز الإنسان حقًا إذا ما تذكّرها متسائلًا بأن كيف تجرؤوا على مهاجمة هذه الشعوب بقواتهم العسكرية؟ وقد كُتبت كتابات مذهلة عن الإبادات الجماعية التي شهدتها تلك المناطق وهذا كان جزءًا من العمل. فالجيش البريطاني الذي قام بذلك في منطقة الشرق تجده، طيلة هذه السنوات المئة، قد مارس نفس هذه الممارسات في منطقة غرب آسيا وفي جزء من شمال أفريقيا أيضًا، حيث اقترف من الجرائم ما لا يمكن قلعه من ذاكرة الشعوب أبدًا. علمًا بأن السياسيّين -سواء السياسيّين في نفس تلك الدول الضعيفة أو السياسيّين في بريطانيا- قد حاولوا إخفاءها ورميها بنحوٍ من الأنحاء في مطاوي النسيان. ولكن أنّى لهم ذلك! فقد سجّلت في التاريخ ولا يمكن مسحها من صفحاته.
والكلام ذاته ينطبق على الجيش الفرنسي أيضًا. فالفرنسيون، الذين تجد اليوم صوتهم طبّق الخافقين بما يتشدّقونه من حقوق الإنسان والديمقراطية وأمثال ذلك، كانوا قد ارتكبوا جرائم كبيرة في شمال أفريقيا، كالجزائر والمغرب وتونس، وفي شرق آسيا كذلك، كما في فيتنام قبل دخول الأمريكيين إليها، وفي نفس سوريا ولبنان الحاليين، حيث اقترف الجيش الفرنسي جرائم مذهلة وفرض على الناس ضغوطًا كبيرة! هذا كله يعود إلى الأعوام المئة الأخيرة، وهذه هي خصيصة الجيوش الاستكبارية.
وحين يصل الدور إلى أمريكا فلا يخفى الأمر على أحد. ففي شهر أغسطس/آب من سنة 1945، قتلت أمريكا، بإلقائها قنبلة على مدينة هيروشيما، مئة ألف نسمة في لحظة واحدة. حينما سقطت القنبلة على هيروشيما قُتل مئة ألف شخص في اللحظة الأولى، علمًا بأنه قُتل بعد ذلك وأصيب عشرات الآلاف تدريجيًا بسبب السموم الناتجة عن الإشعاعات النووية. وبعد ثلاثة أيام أطلقوا قنبلة أخرى على مدينة ناكازاكي فقتل خمسون ألف شخص فيها أيضًا. وحين سُئلوا: إن كان هدفكم إنهاء الحرب - حيث كانوا يتذرّعون بأنهم أرادوا إنهاء الحرب العالمية بضربتهم تلك - لكانت القنبلة الأولى كافية، فلِمَ أطلقتم قنبلة ثانية على ناكازاكي؟ أجابوا: لأن القنبلة الأولى كانت من اليورانيوم، أما الثانية فمن البلوتونيوم، وكنّا نريد اختبارها!
لاحظوا، يُباد 150 ألف شخص في لحظة من أجل اختبار قنبلة! هذه هي طبيعة الجيش الاستكباري. الجيش المجرّد من الدين، الجيش المجرّد من الله، الجيش الفاقد للأخلاق. وهذا هو الفارق بين الجيوش. علمًا بأنّ هذه أمثلة محدودة. ومن أراد الحديث عن جرائم جيوش القوى الاستكبارية وتخطّي هذه السنوات المئة التي ذكرتها إلى مئتين أو ثلاثمئة عام، لكان بالإمكان تأليف عدة كتب. ولا بد من تأليفها.
ولكن على من تتّكئ هذه الجيوش؟ ومن أين تأتي بإمكاناتها؟
تتّكئ هذه الجيوش على الدول المستكبرة؛ وهذا يعني أن المشكلة لم تنبثق من الجيش نفسه، إنما من متكأ الجيش. أي الأنظمة الاستكبارية. التفتوا! هذا هو السرّ الذي يقف وراء إصرارنا وتكرارنا وتأكيدنا أنا وأنتم على أننا نتكئ على القرآن ونريد نظامًا إسلاميًا. فإنّ البشرية متى ما وقعت بأيدي أنظمة مجرّدة عن الأخلاق وعن الدين وعن الاتجاه الصائب، ستكون نتيجتها على هذا الشكل. وعلى هذا الشكل سيكون جيشها.
كانت الركيزة التي ارتكزت عليها هذه الجيوش في ارتكابها كل هذه الجرائم هي القوى السياسية التي حكمت تلك البلدان. وكانت تلك القوى هي من دعم الجيوش، والجيوش بدورها هي التي حافظت على تلك الأنظمة. هكذا كانت طبيعة الحال.
ومن هذا المقلب -مقلب النظام الإسلامي- فإن النظام الإسلامي يثمّن ويقدّر جيشه وقواته المسلحة وحرسه وقواته التعبوية وقواه الأمنية و ويوليهم الأهمية؛ والقوات المسلحة بدورها تمثل جزءًا هامًا ومؤثرًا من منظومة نظام الجمهورية الإسلامية المثير والجميل المتألف من عناصر مختلفة في داخله. وهذه هي النقطة الآتية.
النقطة الثالثة هي الخصائص التي يمتاز بها جيش الجمهورية الإسلامية.
إنّه على مدى أربعين عامًا نذر نفسه لخدمة الثورة الإسلامية بكل كيانه. ونزل إلى الساحة بكل طاقاته وقدراته. حيث وقفت المجموعات في داخل البلد أمام امتحان تأريخي، وكلّ واحد منها خرج من هذا الامتحان بنحوٍ من الأنحاء، والجيش خرج منه شامخًا مرفوع الرأس. هذا ما أستطيع أن أحكم به على جيش الجمهورية الإسلامية؛ من الساعة الأولى من انتصار الثورة، بل وحتى قبل انتصارها بقليل، حيث كانت تأتي الوحدات الثورية في الجيش لإثبات نفسها. كنت مطلعًا على مجريات الأحداث في داخل الجيش وإلى يومنا هذا بعد 41 عامًا، لقد أبلى الجيش في هذا الساحة بلاء حسنًا.
أولًا تمكن عدد كبير ممن حفظوا دينهم وإيمانهم في جيش عهد الطاغوت، من الانخراط في ساحات الثورة. وهم من شكّلوا –في الحقيقة- جيش الجمهورية الإسلامية.، الشهيد صياد (شيرازي) والشهيد ستاري والشهيد بابائي، وأقدم منهم بقليل الشهيد فلاحي والشهيد فكوري والمرحوم ظهير نجاد والمرحوم سليمي، كانوا عناصر في جيش عهد الطاغوت. ولكم أن تنظروا إلى هذه الوجوه اللامعة كيف استطاعت أن ترحّب بنظام الجمهورية الإسلامية وأن تجرّ من خلفها ركب الجيش العظيم. ففي الوقت الذي كان الشهيد بابائي قائدًا في قاعدة أصفهان الجوية، بادرتُ بنفسي إلى زيارة تلك القاعدة، فوجدت أنها كانت تُدار إدارة تعبوية يومذاك بقيادة الشهيد العقيد بابائي. الذي كان رجلًا مؤمنًا ثوريًا. وتفقدّتُ حينها مختلف أنحاء القاعدة. وكذلك الشهيد صياد الذي كان مظهرًا للحراك الثوري والإيمان والاعتقاد الديني.
كانت هذه هي واحدة من الإنجازات التي قام بها جمع غفير من العناصر السابقة، وأنا لم أذكر إلا أسماء البعض منهم. وقد نال عدد كبير منهم درجة الشهادة الرفيعة. وعدد آخر منهم انصرف إلى الخدمات وبذل المساعي والجهود، وقد شاهدنا جهودهم ومساعيهم.
ثانيًا قدّم الجيش التضحيات في جميع الساحات. ففي مواجهة الانفصاليين التابعين للقوى الأجنبية في أوائل الثورة كان الجيش في بعض أنحاء البلد واحدًا من القوات التي خاضت هذا الميدان واجتهدت فيه. وخلال ثمانية أعوام من الدفاع المقدس أيضًا، كان للجيش حضور باهر. وفي المرابطة على الثغور بعد الانتصار في الدفاع المقدس كذلك. كما وفي دعم جبهة المقاومة ومساندتها لعب الجيش دوره. وقد تم تسجيل هذا الدور وسيتبيّن ويتم الكشف عنه وتدوينه وبثّه في المستقبل عندما يأتي أوانه..
ثالثًا حقّق الجيش تطوّرًا في قدراته الداخلية؛ سواء في التنظيم، أو أساليب العمليات ، أو البناء والإعمار، أو الفكر والثقافة لدى جميع أفراده. وهذه الروحية الدينية والإيمانية في أكاديميات ضباط الجيش تعتبر أمرًا بارزًا وهامًا للغاية. وهو أمر لم يُكتسَب بسهولة. إنما تمكّن القادة المؤمنون والمؤهّلون من إيجاد هذه السنن وترسيخها بصورة عميقة وثابتة، بالعمل الدّؤوب على امتداد فترة زمنية طويلة. فتغيّرت التوجّهات الجيش المناوئة للدين إبان عهد الطاغوت 180 درجة. وتبدّلت إلى توجّهات دينية وثقافية وإسلامية.
النقطة التالية تتعلق بالمستقبل. فقد تعرّفنا على طبيعة الجيش الإسلامي، وتحدثنا عن الواقع الحالي للجيش في الجمهورية الإسلامية في بضع كلمات، ولكن هنالك واجبات للمستقبل.
أعزائي! التفتوا، ما هو المراد من مفهوم "الشعب الحرّ"؟ وعلى أيّ شيء ترتكز حريّة الشعب، عندما نعدّ الحرية قيمة من بين القِيَم؟ وأيّ شعبٍ هو الشعب الحرّ؟
الشعب الحرّ هو ذلك الشعب الذي يريد بحرية، يعمل بحرية، ويحدّد مصالحه الحقيقية والوطنية. وبذلك الاستقلال في الإرادة والاستقلال في العمل، يؤمّن تلك المصالح لشعبه وبلده. حاجة الشعب الحرّ هي هكذا حرية. وهذه السمات والخصائص هي التي تحدّد لنا مفهوم الشعب الحرّ.
لو استطاع شعبٌ أن يحمل هذا التشخيص الصائب وأن يتّخذ قراره وألّا يتأثر ببعثرة العدوّ للحسابات، سيجني الثمار. بعثرة الحسابات. التفتوا! واحدة من ممارسات العدوّ هي تغيير حسابات المسؤولين في البلد والمؤثرين فكريًا على البلد وفي الدرجة الثانية تغيير حسابات أبناء الشعب والتأثير عليها ، كما لو أنك استطعت ، فرضًا، إدخال فيروس في حاسوب أحدهم ن بحيث يؤدي ذلك إلى عرض المعلومات له بصورة خاطئة مغلوطة. فإنّ العدوّ أحيانًا ما يتلاعب في النظام الحاسوبي العام لإدارة البلد وفي أفكاره وحساباته. والشعب الحرّ هو ذلك الشعب الذي لا يتأثّر بذلك، ويفكّر بحرية -بكل ما للكلمة من معنى، ويعمل بشجاعة، ويتبع مصالحه الوطنية. وإلى أي شيء يحتاج هذا؟ إلى البصيرة.
فلو لم نمتلك البصيرة ولم نمتلك الرؤية الصائبة والعين الثاقبة واليقظة اللازمة، لما شخّصنا مصالحنا الحقيقية بشكل صحيح، ولما حدّدنا الطريق الموصل إلى هذه المصالح بشكل صحيح، ولما نجحنا بتحديد ذلك الإنسان الذي يجب عليه حمل هذا العبء الثقيل على كاهله بشكل صحيح. وإنّ مَثَل فقدان البصيرة كمَثَل المرء الذي لا عينين له ولا يستطيع رؤية الطريق.. هنا تكمن أهمية البصيرة لدى أي بلد وأي شعب وأي فرد أو أي مجموعة.
فإن توفرت هذه الخصائص في بلدٍ وفي شعبٍ ما، عندئذٍ سيصل ذلك الشعب إلى نتائجه المنشودة. علمًا بأنّ هذه البصيرة تضع على كاهل الجميع بعض المسؤوليات بما فيهم قواتنا المسلحة. فلا يمكننا أن نعتبر بأن في البلد أناسٌ يتّسمون بالبصيرة، وبالتالي على القوات المسلّحة أن تُطبق أعينها وتنصاع لكل ما يقولونه هم. كلا، فالبصيرة أمر عام. وهذا هو المطلوب في النّظام الإسلامي. ففي هذا النظام يجب عليكم فردًا فردًا أن تنظروا وتفكرّوا وتعرفوا وتشخّصوا وتعملوا. وعليكم أن تشعروا بالتّكليف وأن تحذروا من ألّا يترك العدوّ أثره في حساباتكم الفكرية.
ومما ذكرناه في هذه النّقطة الأخيرة تُستَخلص عدة نتائج:
النتيجة الأولى هي أنه لا ينبغي الوثوق بالعدوّ، ولا ينبغي التفاؤل بسذاجة.
والثانية أنه لا ينبغي غضّ الطرف عن تحرّكات العدوّ، ولابد من مراقبة خطواته باستمرار. وواحدة من القطاعات الهامة لقواتنا المسلحة هي الاستخبارات والمعلومات الاستخباراتية. فلا ينبغي التغاضي عن حركات العدو، ويجب دومًا مراقبة برامجه ومخططاته وتحركاته.
والثالثة أنّه لا ينبغي استحقار العدوّ واستصغاره، كما ورد في شعر سعدي، بل يجب علينا أن نعرف العدوّ بحجمه وأن نعدّ أنفسنا للدفاع أمام عدوانه.
والنتيجة التالية يا أعزائي! أنه لا ينبغي الاغترار بالانتصارات، فالنصر أمر ثمين جدير بالبهجة والسرور. ولكن لا ينبغي الاغترار به. فكم من فئة حازت على النصر بادئ ذي بدء ثم وقعت بعد ذلك في ورطة لسبب من الأسباب. والمثال التاريخي المعروف لذلك معركة أحد التي اندلعت في زمن النبي (ص)، فقد كان النبي بنفسه حاضرًا في الميدان، والمسلمون قد انتصروا، ولكنّ غفلة أدت إلى أن يتبدّل النصر هذا إلى هزيمة وأن يُقتل قائد كبير كحمزة سيد الشهداء وأن يسقط عدد كبير من الشهداء وعدد كبير من الجرحى وأن يُهزم جيش الإسلام. فلابد من حفظ الانتصار. وحفظه يكمن في أن نحفظ عوامل النصر، وعوامل النصر هي الإيمان والجهاد المستمر والعمل الدؤوب ورصّ الصفوف وتظافر الجهود، وهذه أمور يجب ألا نفقدها..
أعزائي! لا ينبغي لنا أيضًا الانشغال بالجاذبيات المادية الحقيرة، فكم منّا نحن أبناء البشر من يحمل الحوافز الجيدة، و الهمم العالية، ولكن أحيانًا ما تكبر في أعيننا جاذبيات مادية صغيرة وحقيرة، فيشغلنا اللهاث وراء منصب أو مال أو شهوة. وإن شغلنا أنفسنا سنتلهّى عن الهدف وسيتبدّد النصر الذي أشرنا إلى ضرورة العمل الدؤوب من أجله. فلابد لنا أن نلتفت وأن نحافظ على عوامل النصر وألّا ننشغل بحالات اللهو واللعب.
وما يخصّ القوات المسلّحة والقوى الحافظة للأمن في هذا المجال هو مراقبة الفتنة. فقد ورد في موضعٍ من القرآن: ﴿اَلفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾، وفي موضع آخر: ﴿اَلفِتْنَةُ أَکْبَرُ مِنَ القَتْلِ﴾.. القتل أمرٌ سيّئ غير مطلوب، ولكن الفتنة أسوأ. فإن كان كذلك، فيجب إذًا على القوى الحافظة للأمن أن تأخذ الترتيب المناسب والنظم اللازم لمواجهة الفتنة. وأن تحافظ على جهوزيّتها للوقوف بوجه الفتنة. هذا هو الأمر الذي يجب على الأجهزة أن تلتفت إليه.
والنقطة الأخيرة التي أستعرضها هي التفاؤل بالمستقبل.
فما يشهده المرء من كلمات وحركات لدى شباب البلد من مختلف القطاعات -سواء القوات المسلحة أو الكثير من شباب القطاعات الأخرى- يجد بأنّ شبابنا مترعون بالتفاؤل والأمل بحمد الله. رغمًا عن أنف العدوّ الذي يريد إزالة الأمل من القلوب وإطفاء هذا النور وهذا النبراس في النفوس. فإنّ الأمل كبير في البلد والحمد لله. وهذا ما يجب حفظه، والوثوق بأنّ الله سبحانه وتعالى سيحقّق ما وعد به.
نحن اليوم نشهد أمام أعيننا تحقّق الوعود الإلهية. أيها الأعزاء! من كان يتصوّر بأنّ الكيان الصهيوني الذي لم تتمكّن القوات المسلحة لعدة دول أن تصمد أمامه - حيث استطاع الجيش الإسرائيلي أن يهزم في حربٍ جيوش ثلاثة دول عربية في غضون ستة أيام، وأن يهزمهم في حرب أخرى خلال نحو اثني عشر يومًا - من كان يتصوّر بأنّ هذا الجيش المدجّج بالسلاح، الذي لم تتمكن ثلاثة جيوش لثلاثة دول أن تصمد أمامه، سيُرغم على التراجع ويُهزم بواسطة شباب حزب الله المؤمن ويرفع يديه استسلامًا أمامهم في غضون 33 يومًا! والأهم من ذلك أن يهزم أمام الشباب الفلسطيني الصامد في غزة الصغيرة خلال 22 يومًا مرة. وأن يهزم ويطلب الهدنة خلال سبعة أيام مرة أخرى. من كان يتصوّر ذلك؟ إذا حلّ الثبات والصبر والتوكّل على الله والثقة بوعد الله، سيتحقق ذلك. وهذا ما شاهدناه أمام أعيننا. وكذا سيظلّ الحال في ما سيأتي.
نحن نشهد اليوم فشل الاستكبار في منطقة غرب آسيا - منطقتنا - إلى يومنا هذا رغم كلّ التكاليف الباهظة التي بذلها! وهذا ما هم يعترفون به حيث قالوا: أنفقنا سبعة آلاف مليار دولار دون أن نجني شيئًا. وهذا يدل على أنه يمكن الاتكاء والاتكال على القوة المعنوية الإيمانية والتفاؤل بالمستقبل.
وأقولها لكم: إنّ مسيرات العودة التي تنطلق هذه الأيام في غزة ستنتهي يومًا بعودة الفلسطينيين حقًا إلى أرضهم وستعود هذه الأرض إلى أصحابها إن شاء الله.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنّ عليكم فردًا فردًا وعلى عوائلكم بالتوفيق والنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته