أمير المؤمنين(ع) مربيا للأمة: "حب الدنيا رأس كل خطيئة"
يوم تولى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) زمام الأمور في المجتمع الإسلامي كان وضع الأمة الإسلامية قد اختلف كثيراً عما كان عليه يوم رحل الرسول الأكرم (ص) عن الدنيا. خلال الأعوام الخمسة والعشرين ما بين رحيل الرسول الأكرم وتولي الإمام علي الخلافة وقعت أحداث كثيرة تركت تأثيراتها على ذهنية المجتمع الإسلامي وأفكاره وأخلاقه وسلوكه، وجاء أمير المؤمنين ليستلم هذا النظام والمجتمع.
حكم الإمام علي نحو خمسة أعوام في ذلك البلد الإسلامي الكبير. كل يوم من تلك الأعوام الخمسة كان درساً بليغاً. من الأعمال المتواصلة لأمير المؤمنين، العكوف على التربية الأخلاقية للناس. كل الانحرافات التي تحصل في المجتمع مردها وجذورها إلى أخلاقنا. أخلاق الإنسان والخصال الأخلاقية للأفراد هي التي توجّه سلوكهم وممارساتهم وترسم ملامحها. إذا كنا نلاحظ بعض السلوكيات المنحرفة في مجتمع ما أو على مستوى العالم فعلينا البحث عن جذورها في الأخلاق الذميمة. معظم هذه الخصال الباطلة الضارة في البشر تعود إلى طلب الدنيا وحبها. لذلك يقول أمير المؤمنين: "حب الدنيا رأس كل خطيئة".. طلب الدنيا أصل وأساس كل أخطائنا التي تؤثر في حياتنا الجماعية والفردية. طيب؛ ما معنى طلب الدنيا؟ وما معنى الدنيا؟
الدنيا هي هذه الطبيعة الهائلة التي خلقها الله تعالى ومنحها للبشر.. هذه هي الدنيا. وأولها أعمارنا. الأولاد دنيا، والمال دنيا، والعلم دنيا، والمصادر الطبيعية دنيا. هذه المياه والمناجم وكل ما يلاحظه الإنسان في عالم الطبيعة هو دنيا. أي الأشياء التي تكون حياتنا في هذا العالم. طيب ما هو السيئ في هذا؟ ثمة مأثورات ومعارف شرعية وإسلامية تقول لنا عمّروا الدنيا: "خلق لكم ما في الأرض جميعاً".. اذهبوا حققوا الدنيا وعمّروها واستثمروا النعم الطبيعية لكم وللناس. ثمة تعابير من هذا القبيل تدل كلها على رؤية إيجابية تجاه الدنيا.
وهناك مجموعة من المأثورات والمعارف الإسلامية تعتبر الدنيا رأس الخطايا وأصل المعاصي.. لكن خلاصة الفكرة هي أن الله تعالى مد مائدة الطبيعة هذه للبشر وأوصاهم وأمرهم بأن يجعلوها أكثر فاعلية واستعداداً وألواناً ويقدمونها للناس ولأنفسهم. غير أن هناك حدوداً وضوابط وقواعد تقيد هذه الممارسة. ثمة مساحات محظورة.
الدنيا المحمودة هي أن ينتفع الإنسان من هذه المائدة الطبيعية الإلهية والمواهب الإلهية كما أمرت الضوابط والقواعد الإلهية. الدنيا الذميمة هي أن يطلب الإنسان لنفسه هذا المتاع الذي وضعه الله تعالى للناس، وأن يريد لنفسه سهماً أكثر من الآخرين، ويتطاول على حصص الآخرين.
هذه الدنيا وسيلة للسمو والتكامل، وينبغي أن لا تعد هدفاً. إذا لم تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار كانت الدنيا ذميمة.
طلب الدنيا هو سر الانحراف الذي وجده الإمام أمير المؤمنين يومذاك أمامه.
ونهج البلاغة ملئ بالتعبير عن هذه الانحرافات.
لو نظرتم في نهج البلاغة من أوله إلى آخره لوجدتم أن ما قاله أمير المؤمنين حول النهي عن حب الدنيا والرغبة فيها وحول الزهد فيها يفوق حجمه حجم كل ما قاله في نهج البلاغة. وهذا هو السبب. وإلا فالإمام علي لم يكن ممن يعتزل الدنيا. لا؛ كان من أنشط الناس لعمارة الدنيا.. سواء في زمن خلافته أو بعد ذلك. لم يكن أمير المؤمنين ممن لا يعملون ولا يكدّون.
هذا هو وضع أمير المؤمنين وبرنامجه التربوي الأخلاقي. وقد عرض (عليه السلام) علاج عبادة الدنيا في خطبة المتقين: "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم". علاج حب الدنيا والميل إليها هو أن يسلك الإنسان طريق التقوى. وقد كان أمير المؤمنين نفسه المظهر التام للتقوى.
في خطبة "نوف البكالي" المعروفة فقرةً منها يقال إن الإمام وقف على صخرة وعليه ثوب بسيط صوفي قديم زهيد الثمن وفي قدميه نعلان من سعف النخيل أو ما شاكل. حاكم ذلك البلد الإسلامي العظيم ومديره كان له مثل هذا الوضع الفقير الزاهد.. هكذا كان يعيش ويلهج بهذه الكلمات العظيمة وجواهر الحكمة.
* من خطبتي صلاة الجمعة بطهران 19/09/208.