المفارقة الكبرى واللافتة في قضية التحكيم بين موقف أمير المؤمنين وخصومه، هي تكرار
ما حدث مع الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يوم الحديبية مع قريش، فقد اختلف
الناس في تسمية علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين أو في تقديم اسمه، بين مصر على
ذكرها وهم أصحابه، وبين أهل الشام الذين رفضوا ذلك وتضاربوا بالأيدي، وقال الأشِعث
امح هذا الاسم، فلما رأى أمير المؤمنين اختلافهم قال: الله أكبر!
قد كتب رسول الله يوم الحديبية لسهيل بن عمرو هذا ما صالح عليه رسول الله، فقال
سهيل: لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك.
فمحا رسول الله اسمه بيده وأمرني فكتبت: من محمد بن عبد الله.
وقال: إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي، ثم قال (عليه السلام): وإن اسمي واسم أبي
لا يذهبان بإمرتي، وأمرهم فكتبوا: من علي بن أبي طالب..([1]).
وقد ذكرت مجمل المصادر التاريخية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له يوم
الحديبية: إنك ستدعى إلى مثلها، وكان هذا الإخبار من جملة معجزات النبي (صلى الله
عليه وآله) وإخباراته الغيبية، إضافة إلى ما يتضمنه من دلالات شبه صريحة، على شبه
موقف علي (عليه السلام) بموقفه ذاك، وموقف قريش مع علي كموقفها معه.
هل خدع أبو موسى:
يسود الاعتقاد بين المؤرخين ان عمرو بن العاص استطاع ان يخدع ابا موسى الأشعري في
قضية التحكيم، بعدما اتفقا على خلع علي (عليه السلام) ومعاوية من الحكم ـ بإشارة من
أبي موسى نفسه، وجعل الأمر شورى بين المسلمين، فقدمه عمرو فخلع علياً (عليه السلام)
من الخلافة، ثم صعدا المنبر فثبت عمرو معاوية كما يثبت الخاتم في اصبعه.
وفي هذا السياق تفتقت القرائح في وصف حال الرجلين، بحيث اظهرت أبا موسى على أنه رجل
مغفل، لا يمكنه مجاراة عمرو بن العاص في دهائه ومكره، فوقع في مكيدته، ظنا منه أنه
أراد دفع الفتنة عن المسلمين([2]).
إلا أن هذا الإستنتاج مجانب للحقيقة والواقع جملة وتفصيلا، تدل عليه جملة من
القرائن العامة والخاصة، فإن أبا موسى لم يكن مرضيا عند علي (عليه السلام)، وقد
احتج أمير المؤمنين على الذين فرضوه طرفا للتحكيم أنه كان يخذل الناس عنه (عليه
السلام)، ويحاول إقناعهم بعدم قبول ولايته.
وفي واقعة التحكيم نفسها واجهه ابن عباس بحقيقة مرة، لا يتوقع ان ينساها أبو موسى،
لأنه مهما كان مغفلا فإن ابن عباس قد واجهه بها حين التحكيم، بحيث لا يصح فرض
نسيانه لها، حيث ذكر المسعودي: أنه لما دنا وفد علي (عليه السلام) من موضع الإجتماع
قال له ابن عباس: ان علياً لم يرض بك حكما لفضل على غيرك، والمتقدمون عليك كثيرون،
وان الناس أبوا غيرك، واني لأظن ذلك لشر يراد بهم([3]).
ولعل هذه الحادثة وحدها، كافية في إثارة غضبه ضد علي (عليه السلام)، فيعمل بكافة
السبل المتاحة على إبعاد علي (عليه السلام) عن سدة الخلافة، ذلك أنه لا طمع له في
أي منصب من قبل علي، بعدما كشف له ابن عباس هذه الحقيقة، ما دام باحثا عن منصب
يشغله.
كما أنه كان من المتأثرين والغاضبين على مقتل عثمان، مما جعل كونه طرفا في التحكيم،
موضع رضا من قبل أهل الشام، ومن معاوية بالخصوص، كما صرح له بذلك عمرو بن العاص
نفسه أثناء عملية التحكيم([4])، وهذا بنفسه يشكل قرينة إضافية، على تعاطفه مع
معاوية والأمويين، وفي الصف المقابل لعلي (عليه السلام)، وفي أقل الفروض فإنه يريد
إزاحة علي (عليه السلام) من الخلافة، لو لم يكن متعاطفا مع معاوية بالفعل، أو كان
له موقف ما منه.
مضافا إلى أن تاريخه الحافل كاشف عن مدى قدرة الرجل، وعن مدى بعده عن علي (عليه
السلام) وخطه، الأمر الذي جعله موضع ثقة عند عمر بن الخطاب، ولم يكن لعمر أن
يستعمله لو كان كما يصورونه، بل >ان عمر استخلفه على البصرة وهو فقههم وعلمهم، وولي
الكوفة زمن عثمان، وقال مجاهد عن الشعبي: كتب عمر في وصيته ان لا يقر لي عامل أكثر
من سنة وأقروا الأشعري أربع سنين، ومناقبه كثيرة،....، وقال الشعبي: خذوا العلم عن
ستة وذكره فيهم، وقال ابن المديني: قضاة الأمة أربعة عمر وعلي وابو موسى وزيد بن
ثابت<([5])، وقد صرح بعضهم بأنه كان ثقة عند أهل الشام([6])، فمن غير المحتمل اذن
ان يكون كما وصفه بعض المؤرخين.
وذكر اليعقوبي انه لما تقدم ابو موسى إلى المنبر، ساعة إعلان التحكيم، ورآه ابن
عباس قام إلى عبد الله بن قيس، فدنا منه، فقال: ان كان عمرو فارقك على شيء فقدمه
قبلك، فإنه عذر. فقال: لا، قد اتفقنا على أمر، فصعد المنبر وخلع علياً (عليه السلام)
ثم قام عمرو فثبت معاوية([7]).
وهذا النص يشير إلى أمر مبيت عند أبي موسى، وهو محاولة ابعاد علي (عليه السلام) من
موقع الخلافة بأي سبيل، بعد أن لم يتم له ذلك من خلال دعوة الناس إلى عدم مبايعة
علي(عليه السلام) في الكوفة، خصوصا وأنه لم يصرح لابن عباس عما كان قد اتفق عليه مع
عمرو بن العاص.
وأما اتهامه لعمرو بعد ذلك بالخيانة والغدر لا يعدو كونه اخراجا ظاهرياً امام الناس،
محاولا تبرئة نفسه أمام علي (عليه السلام) وأصحابه، ويمكن أن يكون له موقف سلبي من
معاوية كذلك، فيكون اتهامه عمروا بالغدر ناظرا إلى هذه الجهة بالخصوص، خصوصا وان
الشرط الذي تقيدا به قبل اعلان التحكيم كان الالتزام بكتاب الله من أوله إلى آخره،
وهو ما لم يتم الإلتزام به من كلا الطرفين، إذ ما من شك بأن التزامهما بكتاب الله
تعالى لا يجيز لهما خلع علي من الخلافة، بأي ميزان من الموازين، التي يعتمدونها في
إثبات الخلافة، فكيف إذا كان القرآن قد دل على إمامته (عليه السلام) وخلافته، سواء
بايعه الناس أم لم يبايعوه، وهو أمر لا يمكن أن يخفى على كل من أبي موسى وعمرو بن
العاص.
هذا يضاف إلى أن نفس بنائه على خلع علي (عليه السلام) من الخلافة بزعمه، وترك الأمر
شورى للمسلمين لا يخلو من غرابة في نفسه، ذلك أن المسلمين أنفسهم هم الذين أرادوا
علياً للخلافة، بل فرضوها عليه فرضا كما تقدم.
نتيجة التحكيم:
رغم أن التحكيم كان فاقدا للشرعية من أصله، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد قبل
به مكرها كما تقدم، إلا أنه قد فقد فاعليته وأثره، على المستوى الميداني كذلك،
بعدما تبين أن الحكمين لم يلتزما بما شرط عليهما العمل بمقتضاه، وهو ما ظهر جليا
امام الناس، حين تنادى الناس بأنهما حكما بغير ما في الكتاب كما تقدم في رواية
اليعقوبي، ولكن نتائجه كانت عكسية، تماما كما توقعها أمير المؤمنين (عليه السلام)
وحذر منها، الأمر الذي أدى إلى انشقاق اتباع علي (عليه السلام) واختلاف كلمتهم.
وقد ظهر ذلك جليا في اعلان الخوارج تمردهم عليه، واعلانهم كفره، ودعوتهم إياه إلى
التوبة، مع أن الظاهر انهم بيتوا أمر التمرد عليه قبل ذلك، فقد روى اليعقوبي أنه
قيل ان اول من أعلن كفر الحكمين وأنه لا حكم إلا لله هو عروة بن ادية التميمي قبل
أن يجتمع الحكمان([8]).
بل يظهر من ابن قتيبة أنهم كانوا قد شكلوا انفسهم قبل ذلك بزمن، حيث يقول: >وذكروا
أنه لما كان من الحكمين ما كان، لقيت الخوارج بعضها بعضا، فاجتمعوا في منزل عبد
الله بن وهب الراسبي الخ..([9]) وظاهره أنهم كانوا جماعة كثيرة، عرفت باسم الخوارج
قبل ذلك، وأنها كانت قد توافقت على الخروج على علي (عليه السلام)، وان لم تعرف باسم
الخوارج حينها.
وهو ما أدى إلى تفكك جيش الإمام (عليه السلام)، إذ أنه بعدما ظهرت الخدعة، التي
أنجزها الحكمان، أراد >أن يحكم السيف بينه وبين معاوية، وأخذ يستعد للقتال من جديد.
فلما تكامل جيشه واعتزم المسير إلى الشام، جاءته الأخبار أن الخوارج الذين اعتزلوه
قد ساروا نحو المدائن<([10]).
وقد كانت هذه النتيجة، التي كان يتوقعها معاوية، قبل حصول التحكيم ويرجوها، فإنه
قال لعمرو بن العاص، حين بعثه إلى التحكيم: إن أهل العراق أكرهوا علياً على أبي
موسى، وأنا وأهل الشام راضون بك، وأرجو في دفع هذه الحرب خصالا: قوة لأهل الشام
وفرقة لأهل العراق، وإمدادا لأهل اليمن([11]).
وهذا ما دفع علي (عليه السلام)، للرجوع إلى الكوفة، فلما قدمها، قام خطيبا، فحمد
الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن أول وقوع الفتن هوى يتبع، وأحكام تبتدع،
يعظم فيها رجال رجالا، يخالف فيها حكم الله، ولو أن الحق أخلص فعمل به، لم يخف على
ذي حجى، ولكن يؤخذ ضغث من ذا وضغث من ذا، فيخلط فيعمل به، فعند ذلك يستولي الشيطان
على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم منا الحسنى([12]).
ولعل أخطر نتيجة خرج بها الحكمان كانت جعل معاوية ندا لعلي (عليه السلام) في مسألة
الخلافة، ذلك أنه وإن كان يمني نفسه منذ زمن بعيد بذلك، إلا أنه لم يجرؤ على إعلان
هذا الأمر أمام الملأ، فكان اتفاقهما ـ بزعمهما ـ على خلعه وعلياً (عليه السلام)،
بمثابة إعلان خلافته على الملأ، أو صلاحيته لها على الأقل، وإلا فإن الباعث له على
الخروج كان إعلان المطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان، لا أن ينازع علياً (عليه
السلام) على إمرة المسلمين.
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل
([1]) تاريخ اليعقوبي، ج2،
ص189 ـ 190.
([2]) يلاحظ وقعة صفين للمنقري ص544 ـ 545، وتاريخ الإسلام ج1 ص372.
([3]) تاريخ الإسلام ج1 ص372.
([4]) وقعة صفين، للمنقري، ص544.
([5]) تهذيب التهذيب، ابن حجر العسقلاني، ج3 ص234.
([6]) الإمامة والسياسة ج1 ص131.
([7]) تاريخ اليعقوبي ج2 ص190.
([8]) تاريخ اليعقوبي، ج1 ص190.
([9]) الإمامة والسياسة، ج1، ص141.
([10]) تاريخ الإسلام، ج1، ص275.
([11]) الأمامة والسياسة، ج1، ص134.
([12]) تاريخ اليعقوبي، ج2، ص191.