التضحية والإيثار
أخلاقنا الإسلامية
الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية، وهو مرتبة راقية من مراتب البذل، ومنزلة عظيمة من منازل العطاء. ويعدّ الإيثار أحد أبرز الفضائل والقيم الإنسانية
عدد الزوار: 734
تمهيد
الإيثار من محاسن الأخلاق الإسلامية، وهو مرتبة راقية من مراتب البذل، ومنزلة عظيمة
من منازل العطاء. ويعدّ الإيثار أحد أبرز الفضائل والقيم الإنسانية حيث وصفته
الروايات بأوصاف كريمة من قبيل أنّه أعلى مكارم الأخلاق: "الإيثار أعلى المكارم"1،
وأعلى الإحسان: "الإيثار أشرف الإحسان"2، وأعلى مراتب الإيمان: "الإيثار أعلى
الإيمان"3، وأفضل عبادةٍ: "الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"4، و"أعلى مراتب الكرم
الإيثار"5 وهكذا.
تعريف الإيثار
الإيثار لغة: الإيثار من آثر يؤثر إيثاراً بمعنى التقديم والاختيار والاختصاص.
فالإيثار مصدر من الجذر "أثر" بمعنى تقديم الشيء6.
الإيثار اصطلاحاً: الإيثار أن يقدّم غيره على نفسه في النفع له والدفع عنه، وهو
النهاية في الأخوة7.
جاء استعمال لفظ الإيثار ومشتقّاته في النصوص الإسلامية بمعنيين متضادّين، إذ
يُستعمل تارة بمعنى التقديم الإيجابيّ الذي يعدّ بدوره من أعظم القيم الأخلاقية
وأسماها، كما في قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ
خَصَاصَةٌ﴾8. كما يستعمل بمعنى التقديم السلبيّ كما يقول تعالى: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾9.
ومن هنا يفهم أنّه ليس مطلق التقديم هو ما يحقّق الإيثار المطلوب في الآيات
والروايات لأنّ التقديم في غير محلّه لا يعتبر ذا قيمة أخلاقية، بل لا بدّ من أن
يكون تقديم الشيء بحقّه. كما ورد في مصباح الشريعة عن الإمام الصادق عليه السلام
قال: "أصل الإِيثارِ تَقديمُ الشَّيءِ بِحَقِّهِ"10. فأصل الإيثار هو تقديم الآخر
أو الغير على النفس ولكن بشرط أن يكون هذا التقديم في طريق الحقّ لا الباطل وإلّا
يصبح من الإيثار السلبيّ.
أنواع الإيثار
يمكن تقسيم الإيثار بلحاظ متعلّقه إلى قسمين:
1- إيثار متعلّق بالخالق:
وهو أفضل أنواع الإيثار وأعلاها منزلة، وأرفعها قدراً. وهو إيثار رضا الله تعالى
على رضى غيره وإيثار حبّه على حبّ غيره وإيثار خوفه ورجائه على خوف غيره ورجائه
وإيثار الذلّ له والخضوع والاستكانة والضراعة والتملّق على بذل ذلك لغيره. ولهذا
النوع من الإيثار دلائل وعلامات دالة عليه وهي:
أ- أن يفعل المرء كلّ ما يحبّه الله تعالى ويأمر به، وإن كان ما يحبه الله مكروهاً
إلى نفسه، ثقيلاً عليه. كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾11
ب- أن يترك ما يكرهه الله تعالى وينهى عنه، وإن كان محبّباً إليه، تشتهيه نفسه،
وترغب فيه، وأن يكون حبّ الله هو الأساس عنده في علاقاته مع الآخرين، كما قال
تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ﴾12.
2- إيثار متعلّق بالخلق:
إنّ الإيثار كما تقدّم قيمة أخلاقية ومرتبة راقية من البذل، كذلك هو مذهب أخلاقيّ
يرى أنّ الأفراد لديهم التزام أخلاقيّ لمساعدة الآخرين أو خدمتهم أو نفعهم، إذا لزم
الأمر، في التضحية بالمصلحة الذاتية.
مصاديق الإيثار المتعلّق بالخلق
الإيثار المتعلّق بالخلق له صور ومصاديق متعدّدة أهمّها:
1- الإيثار في المال:
قال أبو عبد الله عليه السلام: "امْتَحِنُوا شِيعَتَنَا عِنْدَ مَوَاقِيتِ
الصَّلَاةِ كَيْفَ مُحَافَظَتُهُمْ عَلَيْهَا، وَإِلَى أَسْرَارِنَا كَيْفَ
حِفْظُهُمْ لَهَا عَنْ عَدُوِّنَا، وَإِلَى أَمْوَالِهِمْ كَيْفَ مُوَاسَاتُهُمْ
لِإِخْوَانِهِمْ فِيهَا"13.
إنّ موادّ الامتحان التي حدّدها الإمام عليه السلام لشيعته ثلاث:
المادة الأولى: المحافظة على أوقات الصلاة.
المادة الثانية: حفظ الأسرار.
المادة الثالثة: المواساة بالأموال.
إنّ هذه المادة الثالثة في الامتحان تعني كيفية تعامل الشيعة مع أخوانهم المحتاجين.
هل يشاركونهم ويقاسمونهم أموالهم؟ هل يفتحون قلوبهم وأيديهم للمحتاجين؟ إنّ هذا ما
أراده الإمام بالمواساة في المال. فهل يستطيع الإنسان أن يضع ماله وممتلكاته في
تصرّف إخوانه حتّى يستوفوا منها حاجتهم؟ هل تحبّ لأخيك ما تحبّه لنفسك؟ وعليه إنّ
من صفات الشيعة مواساة الآخرين بأموالهم.
2- الإيثار في النفس:
قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ
وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾14.
إذا تأملنا في الآيات التي سبقت هذه الآية الشريفة وهي من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ
عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾15 إلى الآية مورد البحث يظهر
لنا حُسن التقابل بين رجلين أحدهما مفسد ومضمر للنفاق إلى آخر أوصافه، والآخر هو
أهل الإيثار بالنفس. وقد ورد في الروايات أنّ هذا الرجل هو الإمام أمير المؤمنين
عليه السلام. ومن هذه الروايات ما نُقل عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: أمّا
قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ
رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ فإنّها أنزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام حين بذل نفسه
لله ولرسوله ليلة اضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا طلبته
كفّار قريش16.
وخلاصة التفسير أنّ قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ﴾، بيان أنّ هناك
رجلاً معتزاً بإثمه معجباً بنفسه متظاهراً بالإصلاح مضمراً للنفاق17، لا يعود منه
إلى حال الدين والإنسانية إلّا الفساد والهلاك. يقابله قوله تعالى: ﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾، وهو بيان أن هناك رجلاً آخر باع نفسه لله سبحانه
لا يريد إلّا ما أراده الله تعالى لا هوى له في نفسه ولا اعتزاز له إلّا بربّه ولا
ابتغاء له إلّا مرضاة الله تعالى، فيصلح به أمر الدين والدنيا، ويحيا به الحقّ،
ويطيب به عيش الإنسانية.
وبذلك يظهر ارتباط ذيل الآية بصدرها أي قوله تعالى: ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ
بِالْعِبَادِ﴾، بقوله ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ﴾، فإنّ وجود إنسان هذه
صفته من رأفة الله سبحانه بعباده إذ لولا رجال هذه صفاتهم بين الناس في مقابل رجال
آخرين صفتهم ما ذكر من النفاق والإفساد لانهدمت أركان الدين، ولم تستقرّ من بناء
الصلاح والرشاد لبنة على لبنة.
لكنّ الله سبحانه لا يزال يزهق ذاك الباطل بهذا الحقّ ويتدارك إفساد أعدائه بإصلاح
أوليائه كما قال تعالى: ﴿وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾18، وقال
تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ
كَثِيرً﴾19، وقال تعالى: ﴿فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا
قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ﴾20. فالفساد الطارىء على الدين والدنيا ممّن
اتّبع هواه وغرائزه، لا يمكن سدّ ثلمته إلّا بالصلاح الفائض من قبل آخرين ممّن باع
نفسه لله سبحانه، ولا هوى له ولا هم إلّا في ربه، وإصلاح الأرض ومن عليها. فمن أبرز
مصاديق الإيثار بالنفس الجهاد في سبيل الله, وما يتبع ذلك من تعريض النفس إلى
مخاطرٍ عدة كالإصابة في أرض المعركة, فضلاً عن الوقوع في الأسر, وصولاً إلى القتل
في سبيل الله. فأمثال هؤلاء يؤثرون بأنفسهم ويقدّمون أسمى وأرقى مصاديق الإيثار في
دفاعهم عن بيضة الإسلام.
وقد وصف الله تعالى أولئك المجاهدين الذين باعوا أنفسهم لله وما ينالونه عند الله
من الكرامة والفضل فقال: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ
وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ
بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾21، إلى
غير ذلك من الآيات22.
3- الإيثار في الدعاء:
أي تقديم الآخرين على أنفسنا كما هو منهج أهل البيت عليهم السلام فقد كانوا يؤثرون
الآخرين على أنفسهم.
فقد كانَت السيدة الزهراء عليها السلام إذا دَعَت تَدعو لِلمُؤمِنينَ وَالمُؤمِناتِ
ولا تَدعو لِنَفسِها، فقد ورد عن الإمام الحسن عليه السلام قال: "رأيت أمّي فاطمه
عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتّضح عمود
الصّبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدّعاء لهم ولا تدعو
لنفسها بشيء فقلت لها: يا أمّاه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا
بنيّ الجار ثمّ الدّار"23.
أسباب الإيثار
هناك أسباب تعين على الإيثار منها:
1- تعظيم الحقوق: فالإنسان إذا عظمت الحقوق عنده، قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها
واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل
إيثاره احتياطاً لأدائها.
2- مقت الشحّ: فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار، فإنّه يرى أنّه لا خلاص له من
هذا المقت البغيض إلّا بالإيثار.
الرغبة في مكارم الأخلاق: وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره، لأنّ الإيثار أفضل درجات
مكارم الأخلاق24. عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الإيثار أعلى المكارم"25،
وقال عليه السلام: "لا تكمل المكارم إلّا بالعفاف والإيثار"26.
يمكن اعتبار هذه الأسباب المتقدمة مبادئ للإيثار بمعنى أنّ هناك شيئاً أساساً
تتولّد منه هذه الأمور المتقدّمة. وعند مراجعة الروايات نجد أنّ الأساس الوحيد الذي
يولّد هذه الخصلة الأخلاقية الحميدة هو الإيمان، فكلّما كان إيمان الإنسان أقوى
وأرسخ وأثبت في النفس كلّما كانت أعماله أصلح، والعكس صحيح، أي كلّما كان إيمانه
بالله تعالى أضعف كانت أعماله ضعيفة وهزيلة بمقدار ضعف إيمانه. فالسعادة الحقيقة
للإنسان تبتني على الإيمان بالله تعالى. وإنّ الأعمال الصالحة والأخلاق الحميدة لا
بدّ أن تكون ناشئة من الإيمان. ومن دون هذا الإيمان لا أثر للأعمال في الآخرة على
الإطلاق، وإن كان لها أثر في الدنيا.
فعن الإمام الإمام الصادق عليه السلام - في وصف الكاملين من المؤمنين -: "هم البررة
بالإخوان في حال العسر واليسر, المؤثرون على أنفسهم في حال العسر كذلك وصفهم الله
فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾27 28.
3- السعي نحو الكمال: فقد روي أنّ سائلاً قال للإمام الصادق عليه السلام إنّنا نخشى
أن لا نكون مؤمنين، فقال عليه السلام: "ولمَ ذاك؟" فقال السائل: وذلك أنّا لا نجد
فينا من يكون أخوه عنده آثر من درهمه وديناره، ونجد الدينار والدرهم آثر عندنا من
أخ قد جمع بيننا وبينه موالاة أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عليه السلام: "كلّا،
إنّكم مؤمنون ولكن لا تكملون إيمانكم حتّى يخرج قائمنا، فعندها يجمع الله أحلامكم
فتكونون مؤمنين كاملين، ولو لم يكن في الأرض مؤمنون كاملون، إذاً لرفعنا الله إليه،
وأنكرتم الأرض وأنكرتم السماء. والذي نفسي بيده، إن في الأرض في أطرافها مؤمنين، ما
قدر الدنيا كلّها عندهم يعدل جناح بعوضة" - إلى أن قال عليه السلام - "هم البررة
بالإخوان في حال اليسر والعسر، والمؤثرون على أنفسهم في حال العسر، كذلك وصفهم الله
فقال: ﴿وَيُؤْثِرُونَ﴾" - إلى أن قال -
"حليتهم طول السكوت بكتمان السرّ، والصلاة،
والزكاة, والحجّ، والصوم، والمواساة للإخوان في حال اليسر والعسر"29.
ثمرة الإيثار
الإيثار صفة تدفع الإنسان إلى معالجة الأنانية النفسية عنده، وإلى القضاء بشكل
تدريجيّ على صفة الاستئثار التي تضرّ بالبنية الاجتماعية، وتدمّر وحدته وانسجامه.
فكلّما شاعت صفة الإيثار ضعفت بمقدار ذلك صفة الاستئثار.
لذا يهدف الإسلام من وراء إشاعة ثقافة الإيثار والمواساة للآخرين إلى التخفيف أو
القضاء على ثقافة الاستئثار والأثرة التي هي وليدة الفكر الماديّ الذي لا يؤمن
بالغيب والماورائيات، بخلاف الإيمان بالله الذي يرتكز على عالم ما وراء المادة
والغيب. والقرآن الكريم أعطى قاعدة لبيان فائدة الإيثار وهي أنّ تربية النفس على
خلق الإيثار تعني أن يبني الإنسان ذاته ويُحسن لنفسه ويُؤمّن مصالحه الحقيقية
الدائمة كما قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ
أَسَأْتُمْ فَلَهَ﴾30. إنّ اللام في ﴿لِأَنفُسِكُمْ﴾ و﴿فَلَهَ﴾ هي للاختصاص، أي
إنّ من إحسانكم وإساءتكم مختصّ بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، وهي سنّة الله الجارية
أنّ العمل يعود أثره وتبعته إلى صاحبه إن خيراً وإن شراً31. لقد أوجز القرآن الكريم
الآثار والثمرات الفردية والاجتماعية للإيثار بقوله ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾32، أي الَّذي يصان عن الشحّ المكنون في نفسه فهو
المفلح.
وهذه الصفة إذا رسخت وثبتت في القلب وغلبت على الأهواء والغرائز، فإنّها ستحصّن
النفس وتحول دون وقوعها في الكثير من الموبقات والآثام33.
آداب الإيثار
تقدّم أنّ أصل الإيثار هو: "تقديم الشيء بحقّه". وهذا التعريف يستبطن جميع مبادئ
آداب الإيثار. ومن هذه الآداب:
1- الإخلاص:
الأدب الأوّل الذي يؤطّر الإيثار هو الإخلاص، فمع غياب الإخلاص عن هذه الممارسة لا
يتحقّق مفهوم "تقديم الآخر". فلو وهب الإنسان إنساناً آخر شيئاً هو بحاجة إليه لكن
بدافع غير إلهيّ فسيكون في الواقع كمن قدّم ذلك الشيء إلى نفسه، إذ هو في حقيقة
الأمر قد استجاب إلى دافعه النفسيّ، وإنّ أنانيته هي التي دفعت به إلى هذه
الممارسة، وهي الحافز الكامن وراءه.
2- الحبّ:
تقدّم في بعض التعاريف أنّ الإيثار بمعنى أن يقدّم غيره على نفسه في النفع له
والدفع عنه، وهو النهاية في الأخوّة. وهذا يعني أنّ هناك حبّاً وعلاقة لما تؤثر به
الآخر. ولذا يتمثّل الأدب الثاني للإيثار بوجود حبّ يشدّ إلى ما يؤثر به، وإلّا فمع
غياب هذه الصلة لا معنى لـ "تقديم الآخرين" ولن يتحقّق هذا المعنى في واقع هذه
الممارسة. والدافع لهذا الحبّ وسببه هو لله تعالى. فعندما يكون الله تعالى هو
المحور والأصل في كلّ معاملة تصبح منطلقات الأعمال وغايتها إلهية. ﴿وَمَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ
الْعَالَمِينَ﴾34.
3- تقديم الأقرباء:
من الآداب الاُخرى للإيثار تقديم أولي الأرحام والأقرباء بشكل عامّ، كما قال تعالى:
﴿وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾35. ومن هنا يجب على الإنسان النهوض بنفقتهم
شرعاً ويتحتّم عليه تأمين احتياجاتهم الحيويّة، فلا يتحقّق الإيثار مع احتياج
الأرحام والأقارب من حوله. ويمكن فهم ذلك من قيد "بحقّه" في التعريف المتقدّم
للإيثار، ذلك أنّ تقديم الآخرين على "الأرحام والأقرباء" لا يصحّ عقلاً ولا شرعاً.
4- تقديم أهل الإيمان:
من الآداب الأُخرى للإيثار تقديم أهل الإيمان. ورد عن الإمام عليّ عليه السلام
قوله: "عامِل سائِرَ النّاسِ بِالإِنصافِ، وعامِلِ المُؤمِنينَ بِالإِيثارِ"36.
5- تقديم الأحوج:
يدخل هذا الأدب كذلك في مقوّمات الإيثار، وإلّا فإنّ تأمين الاحتياجات الثانوية
للآخرين على حساب التضحية بالاحتياجات الأساسية للمؤثِر نفسه والتفريط بها لا يعدّ
حقّا ولا يندرج في عداد القيم. من هنا جاء عن الإمام عليّ عليه السلام في ظلّ آية
الإيثار: "لا تَستَأثِر عَلَيهِ بِما هُوَ أحوَجُ إلَيهِ مِنكَ"37.
* أخلاقنا الإسلامية، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الليثي الواسطي، عيون الحكم
والمواعظ، ص 19.
2- م.ن، ص 33.
3- م.ن، ص 51.
4- م.ن، ص 29.
5- م.ن، ص 118.
6- راجع: أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام محمد هارون،
لا.م، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1404هـ، لا.ط، ج1، ص 53.
7- كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، باب الألف، ص 40.
8- سورة الحشر، الآية 9.
9- سورة الأعلى، الآيتان 16-17.
10- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 68، ص 147.
11- سورة آل عمران، الآية 31.
12- سورة البقرة، الآية 165.
13- الحميري القمي، عبد الله بن جعفر، قرب الإسناد، قم، تحقيق مؤسسة آل البيت
لإحياء التراث، 1413هـ. ط1، ص 78، ح 253.
14- سورة البقرة، الآية 207.
15- سورة البقرة، الآية 204.
16- العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي، طهران،
المكتبة العلمية الإسلامية، 1422هـ. ط 1، ج1، ص 101، ح 292.
17- ورد أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة وذلك حسب روايات
العامة، وفي بعض الروايات عن أئمة أهل البيت أنها من الآيات النازلة في أعدائهم.
18- سورة البقرة، الآية 251.
19- سورة الحج، الآية 40.
20- سورة الأنعام، الآية 89.
21- سورة التوبة، الآية 111.
22- ينظر: العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص 98- 99. بتصرف -.
23- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه، علل الشرائع، قم، نشر مكتبة داوري، 1427
هـ.، ط 1، ج1، ص 182، الباب 145 العلة التي من اجلها كانت فاطمة عليها السلام تدعو
لغيرها ولا تدعو لنفسها، ح1.
24- ينظر: مدارج السالكين، ابن القيم, ج3، ص 303 - 304.
25- التميمي الآمدي، عبد الواحد بن محمد، غرر الحكم ودرر الكلم، تحقيق وتصحيح السيد
مهدي رجائي، قم، نشر دار الكتاب الإسلامي، 1410هـ، ط 2، ص54.
26- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 781.
27- سورة الحشر، الآية9.
28- بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 64، ص 351.
29- الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج7، ص313-314.
30- سورة الإسراء، الآية 7.
31- العلامة الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج13، ص 40.
32- سورة الحشر، الآية 9.
33- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، الشيخ حسن المصطفوي، ج6، ص 22. بتصرف -.
34- سورة الشعراء، الآية 109.
35- سورة الاحزاب، الآية 6.
36- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 467.
37- الكوفي الأهوازي، حسين بن سعيد، المؤمن، قم، مؤسسة الإمام المهدي عجل الله
تعالى فرجه الشريف، 1404 هـ، لا.ط، ص 45، ح 104.