التفكُّر
إنّ أول شروط مجاهدة النفس والسير باتّجاه الحقّ تعالى، هو التفكّر. والتفكّر في
هذا المقام أن يُفكّر الإنسان بعض الوقت كيف أنّ مولاه خلقه في هذه الدنيا، وهيّأ
له كلّ أسباب الدعة والراحة، ووهبه جسماً سليماً وقوى سالمة، لكلّ واحدة منها منافع
تُحيّر الألباب، ورعاه وهيّأ له كلّ هذه السعة وأسباب النعمة والرحمة.
ومن جهة أخرى، أرسل له جميع هؤلاء الأنبياء، وأنزل كلّ هذه الكتب والرسالات، وأرشد
ودعا إلى الهدى... فما هو واجبنا تجاه هذا المولى مالك الملوك؟!
هل أنّ وجود جميع هذه النعم، هو فقط لأجل هذه الحياة الحيوانية وإشباع الشهوات التي
نشترك فيها مع الحيوانات، أم هناك هدف وغاية أخرى؟
هل أنّ الأنبياء الكرام، والأولياء العظام، والحكماء الكبار، وعلماء الأمّة الذين
يدعون الناس إلى حكم العقل والشرع ويُحذّرونهم من الشهوات الحيوانية ومن هذه الدنيا
البالية، لديهم عداءٌ ضدّ الناس أم أنهم كانوا مثلنا لا يعلمون طريق صلاحنا نحن
المساكين المنغمسين في الشهوات؟!
إنّ الإنسان إذا فكّر للحظة واحدة، عرف أنّ الهدف من هذه النعم هو شيء آخر، وأنّ
الغاية من هذا الخلق، أسمى وأعظم، وأنّ هذه الحياة الحيوانية ليست هي الغاية بحدّ
ذاتها، وأنّ على الإنسان العاقل أن يفكّر بنفسه، وأن يترحّم على حاله ونفسه
المسكينة، ويُخاطبها: أيّتها النفس الشقيّة التي قضيت سنيّ عمرك الطويلة في الشهوات
ولم يكن نصيبك سوى الحسرة والندامة، ابحثي عن الرحمة، واستحي من مالك الملوك، وسيري
قليلاً في طريق الهدف الأساس المؤدّي إلى حياة الخلد والسعادة السرمدية، ولا تبيعي
تلك السعادة بشهوات أيّام قليلة فانية، والتي لا تتحصّل حتّى مع الصعوبات المضنية
الشاقّة.
فكّري قليلاً في أحوال الدنيا، والسابقين، وتأمّلي متاعبهم وآلامهم كم هي أكبر
بكثير من هنائهم، في نفس الوقت الذي لا يوجد فيه هناء وراحة لأيّ شخص.
إنّ ذلك الذي يكون على صورة إنسان ولكنّه من جنود الشيطان وأعوانه، والذي يدعوك إلى
الشهوات، ويقول: يجب ضمان الحياة المادّية، تأمّل قليلاً في حاله واستنطقه، انظر هل
هو راضٍ عن ظروفه، أم أنّه مبتلىً ويُريد أن يبلي مسكيناً آخر؟!
وعلى أيّ حال، فادعُ ربّك بعجز وتضرّع أن يُعينك على أداء واجباتك التي ينبغي أن
تكون أساس العلاقة فيما بينك وبينه تعالى، والأمل أن يهديك هذا التفكير المقترن
بنيّة مجاهدة الشيطان والنفس الأمّارة، إلى طريق آخر، وتوفّق للترقّي إلى منزلة
أخرى من منازل المجاهدة.
العزم
وهناك مقام آخر يواجه الإنسان المجاهد بعد التفكّر، وهو مقام العزم.
يقول أحد مشايخنا أطال الله عمره: "إنّ العزم هو جوهرة الإنسانية، ومعيار ميزة
الإنسان، وإنّ اختلاف درجات الإنسان باختلاف درجات عزمه".
والعزم الذي يتناسب وهذا المقام، هو أن يوطّن الإنسان نفسه ويتّخذ قراراً بترك
المعاصي وبأداء الواجبات، وتدارك ما فاته في أيّام حياته، وبالتّالي أن يعمل على أن
يجعل من ظاهره إنساناً عاقلاً وشرعياً، بحيث يحكم الشرع والعقل - بحسب الظاهر -
بأنّ هذا الشخص إنسان.
والإنسان الشرعيّ هو الذي يُنظّم سلوكه وفق ما يتطلّبه الشرع، وأن يكون ظاهره كظاهر
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتدي بالنبيّ العظيم صلى الله عليه
وآله وسلم ويتأسّى به في جميع حركاته وسكناته، وفي جميع ما يفعل وما يترك. وهذا أمر
ممكن، لأنّ جعل الظاهر مثل ظاهر هذا القائد أمرٌ مقدور لأيّ فرد من عباد الله.
واعلم... أنّ طيّ أيّ طريق في المعارف الإلهية، لا يُمكن إلاّ بالبدء بظاهر
الشريعة، وما لم يتأدّب الإنسان بآداب الشريعة الحقّة، لا يحصل له شيء من حقيقة
الأخلاق الحسنة، كما لا يُمكن أن يتجلّى في قلبه نور المعرفة ولن تنكشف له العلوم
الباطنية وأسرار الشريعة.
وبعد انكشاف الحقيقة، وظهور أنوار المعارف في قلبه، سيستمرّ في تأدّبه بالآداب
الشرعية الظاهرية. ومن هنا بطلان دعوى من يقول: إنّ الوصول إلى العلم الباطن يكون
بترك الظاهر.
أو أنّه وبعد الوصول إلى العلم الباطن ينتفي الاحتياج إلى الآداب الظاهرية. وهذه
الدعوى ترجع إلى جهل من يقول بها، وجهله بمقامات العبادة ودرجات الإنسانية.
أيّها العزيز.. اجتهد لتُصبح ذا عزم وإرادة، فإنّك إذا رحلت من هذه الدنيا دون أن
يتحقّق فيك العزم على ترك المحرّمات فأنت إنسان صوريّ، بلا لبّ، ولن تُحشر في ذلك
العالَم على هيئة إنسان، لأنّ ذلك العالَم هو محلّ كشف الباطن وظهور السريرة.
وإنّ التجرّؤ على المعاصي يفقد الإنسان تدريجياً العزم ويختطف منه هذا الجوهر
الشريف. يقول الأستاذ المعظّم1 قدس سره: "إنّ أكثر ما يبعث على فقد الإنسان للعزم
والإرادة هو الاستماع للغناء".
إذاً تجنّب يا أخي المعاصي، واعزم على الهجرة إلى الحقّ تعالى، واجعل ظاهرك ظاهراً
إنسانياً، وادخل في سلك أرباب الشرائع، واطلب من الله تعالى في الخلوات أن يكون معك
في الطريق إلى هذا الهدف، واستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته
حتّى يفيض عليك ربّك التوفيق، ويُمسك بيدك في المزالق التي تعترضك، لأنّ هناك مزالق
كثيرة تعترض الإنسان أيّام حياته، ومن الممكن في لحظة واحدة أن يسقط هذا الإنسان في
مزلق مهلك، يعجز بعده عن إنقاذ نفسه، بل قد لا يهتمّ بذلك، وربما لا تشمله حتى
شفاعة الشافعين نعوذ بالله منها.
المشارطة والمراقبة والمحاسبة
ومن الأمور الضرورية للمجاهد: "المشارطة والمراقبة والمحاسبة".
1- المشارطة:
فالمشارطة هي أن يُشارط نفسه في أول يومه على أن لا يرتكب اليوم أيّ عمل
يُخالف أوامر الله، ويتّخذ قراراً بذلك ويعزم عليه.
وواضح أنّ ترك ما يُخالف أوامر الله، ليوم واحد، أمر يسير للغاية، ويُمكن للإنسان
أن يلتزم به بيُسر. فاعزم وشارط وجرّب، وانظر كيف أنّ الأمر سهل يسير. ومن الممكن
أن يُصوّر لك إبليس اللعين وجنده أنّ الأمر صعب وعسير. فاعلم عندها أنّ هذه من
تسويلات هذا اللعين، فالعنه قلباً وواقعاً، وأخرج الأوهام الباطلة من قلبك، وجرّب
ليوم واحد، فعند ذلك ستُصدّق هذا الأمر.
2- المراقبة:
وبعد هذه المشارطة عليك أن تنتقل إلى المراقبة، وكيفيتها أن تنتبه طوال
مدّة المشارطة إلى عملك وفقها، فتعتبر نفسك ملزماً بالعمل وفق ما شارطت.
وإذا حصل لا سمح الله حديث لنفسك بأن ترتكب عملاً مخالفاً لأمر الله، فاعلم أنّ ذلك
من عمل الشيطان وجنده، فهم يريدونك أن تتراجع عمّا اشترطته على نفسك، فالعنهم
واستعذ بالله من شرّهم، وأخرِج تلك الوساوس الباطلة من قلبك، وقل للشيطان: إنّني
اشترطت على نفسي أن لا أقوم في هذا اليوم - وهو يوم واحد - بأيّ عمل يُخالف أمر
الله تعالى، وهو وليّ نعمتي طول عمري، فقد أنعم وتلطّف عليّ بالصحّة والسلامة
والأمن وألطاف أخرى، ولو أنّي بقيت في خدمته إلى الأبد لما أدّيت حقّ واحدة منها،
وعليه فليس من اللائق أن لا أفي بشرط بسيط كهذا. وآمل إن شاء الله تعالى، أن ينصرف
الشيطان عنك ويبتعد، وتنتصر جنود الرحمن.
والمراقبة لا تتعارض مع أيٍّ من أعمالك كالكسب والسفر والدراسة، فكن على هذه الحال
إلى الليل، ريثما يحين وقت المحاسبة.
3- المحاسبة:
أمّا المحاسبة فهي أن تُحاسب نفسك لترى هل أدّيت ما اشترطت على نفسك ولم
تخن وليّ نعمتك في هذه المعاملة الجزئية.
فإذا كنت قد وفّيت حقّاً، فاشكر الله على هذا التوفيق. وإن شاء الله ييسّر لك
سبحانه التقدّم في أمور دنياك وآخرتك، وسيكون عمل الغد أيسر عليك من سابقه، فواظب
على هذا العمل فترة، والمأمول أن يتحوّل إلى ملكة فيك بحيث يُصبح هذا العمل بالنسبة
إليك سهلاً ويسيراً للغاية، وستحسُّ عندها باللذّة والأنس في طاعة الله تعالى وترك
معاصيه، وفي هذا العالَم بالذّات، في حين أنّ هذا العالَم ليس هو عالم الجزاء لكن
الجزاء الإلهيّ يؤثّر ويجعلك مستمتعاً وملتذّاً بطاعتك لله وابتعادك عن المعصية.
واعلم أنّ الله لم يُكلّفك ما يشقّ عليك به، ولم يفرض عليك ما لا طاقة لك به ولا
قدرة لك عليه، لكن الشيطان وجنده يُصوّرون لك الأمر وكأنّه شاقّ وصعب.
وإذا حدث لا سمح الله في أثناء المحاسبة تهاون وفتور تجاه ما اشترطت على نفسك،
فاستغفر الله واطلب العفو منه، واعزم على الوفاء بكلّ شجاعة بالمشارطة غداً، وكُنْ
على هذا الحال كي يفتح الله تعالى أمامك أبواب التوفيق والسعادة، ويوصلك إلى الصراط
المستقيم للإنسانية.
* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الأستاذ المعظّم: هو أستاذ الإمام الخميني في العرفان واسمه الشاه أبادي.
2017-03-16