يتم التحميل...

البعثة النبوية دعوة تربوية أخلاقية عقلانية

تربية دينية (مناسبات)

البعثة النبوية دعوة تربوية أخلاقية عقلانية

عدد الزوار: 92

كلمة الإمام الخامنئيّ بمناسبة ذكرى المبعث النبويّ الشريف 20/07/2009
البعثة النبوية دعوة تربوية أخلاقية عقلانية

أبعاد البعثة
إنّ قضيّة بعثة النبي المكرّم التي قالت ألسنتنا وأذهاننا القاصرة حولها الكثير -وقال الجميع حولها ما قالوا- هي في الحقيقة، ميدانٌ عظيمٌ ليس بالإمكان بيان أبعاده في القريب العاجل. كلّما تقدَّم الزمن ومرَّت الأيّام، وأدركت البشريّة بتجاربها المختلفة نواقصَ حياتها والآفات التي تهدّدها [كلّما حصل ذلك] تجلّت لها الأبعاد المختلفة لبعثة النبي الكريم (ص). هذه البعثة في واقع الأمر هي دعوة الناس إلى ميدان التربية العقلانيّة والتربية الأخلاقيّة والتربية القانونيّة. هذه هي الأمور التي تحتاجها الحياة البشريّة الهادئة والمتّجهة نحو الكمال.

1-التربية العقلائيّة
التربية العقلانيّة بالدرجة الأولى؛ بمعنى استخراج قوى العقل الإنساني وجعلها سائدة على أفكار الإنسان وأعماله، وحمل الإنسان لمشعل العقل البشري كي يمكنه بهذا المشعل تشخيص الطريق والسير فيه. هذه هي المسألة الأولى وهي المسألة الأهم. إضافةً إلى أنّ قضيّة العقل مطروحة بالدرجة الأولى في بعثة الرسول، وكذا قضيّة العلم فإنّه كلّما نظرتم في كلّ القرآن الكريم والتعاليم النبويّة غير القرآنيّة وجدتم التشديد على العقل والتأمّل والتدبّر والتفكّر وما شابه. وحتّى في يوم القيامة يقول القرآن عن لسان المجرمين: {لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير}1؛ السبب في إلقائنا في نار الجحيم هو أنّنا لم نراجع عقولنا ولم نسمع ولم نوجِّه قلوبنا؛ لذلك ابتلينا اليوم - يوم القيامة - بمصيرٍ مريرٍ أبديّ.

الدعوة إلى العقل بالدرجة الأولى مشهودة في سير جميع الأنبياء وفي حيوات كل الرسل، فهي غير مختصَّة بالرسول الخاتم. وهي طبعًا دعوة برزت بصورة أقوى وأوضح في الإسلام. من هنا يقول الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في تعليله بعثة الأنبياء: "وليستأدوهم ميثاق فطرته".. إلى أن يقول: "ويثيروا لهم دفائن العقول"2؛ يستخرجون كنوز العقل. كنوز العقل هذه موجودة في دواخلنا أنا وأنتم. مشكلتنا هي أنّ مثلنا مثل ذلك الشخص النائم على كنـز وهو لا يدري به ولا ينتفع منه فيموت من الجوع. هكذا هو حالنا. حينما لا نرجع إلى العقل ولا نحكّمه ولا نربّيه وننضجه ولا نسلِّمه زمام النفس، فسيكون هذا هو حالنا.

إنّه كنـزٌ موجود لدينا لكنّنا لا ننتفع منه. وعندما نعاني من كثيرٍ من المشكلات في حياتنا الدنيا وفي حياتنا الآخرة فهذا نتيجة لا عقلانيّتنا ونتيجة جهلنا وتبعاته العديدة. لهذا يقول نبيّ الإسلام الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديثٍ له: "إنّ العقل عقال من الجهل".. العقل عقال الجهل. العقال هو الحبل الذي يشدونه على أرجل الحيوانات -من إبل أو غيرها- لكي لا تتحرّك ولتكون تحت السيطرة. يقول: العقل عقال الجهل. ثم يقول: «والنّفس كمثل أخبث الدوابّ».. نفس الإنسان كأسوء الحيوانات وأخطرها؛ هكذا هي النفس. "فإن لم تعقل حارت"2، حينما لا تعقلون النفس ولا تمسكون زمامها بأيديكم للسيطرة عليها فستحتار وتضيع كالحيوان الوحشي الذي لا يدري أين يذهب. وهذا الضياع هو الذي يفرز المشكلات في حياته الشخصيّة وحياته الاجتماعيّة وفي المجتمع البشري؛ هذا هو العقل.

إنّ أُولى مهامّ الرسول الكريم هو إثارة العقل؛ تحفيز القدرة على التفكّر [التفكير] وتعزيزها في المجتمع. هذا هو حلّال المشكلات. العقل هو الذي يهدي الإنسان إلى الدين ويدفعه نحو الدين، وهو الذي يحضّ الإنسان على عبودية الله. العقل هو الذي يصدّ الإنسان عن الأعمال السفيهة والجاهلية والتكالب على الدنيا؛ هذا هو العقل. لذلك كانت المهمّة الأولى هي تعزيز قوة العقل وتكريسها في المجتمع، وهذا هو واجبنا.

نحن أيضًا في المجتمع الإسلاميّ؛ اليوم حيث أردنا أن يكون مجتمعنا نموذجًا عن ذلك المجتمع الإسلاميّ الذي أطلقه الرسول الأكرم، بكلّ ما نعانيه من ضعف وهوان وصغار [مقارنةً] في قبال تلك العظمة الفذّة للرسول- [حين أردنا ذلك] سرنا بهذه الصورة وأردنا أن نصنع نموذجًا لذلك المجتمع. في هذا المجتمع أيضًا يجب أن يكون العقل هو المعيار والملاك.

2-التربية الأخلاقيّة
التربية الثانية هي التربية الأخلاقية حيث يقول (ص): "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"4. الأخلاق هي الهواء اللّطيف الذي إن توفّر في المجتمع البشري استطاع الناس أن يحيوا باستنشاقه حياةً سليمة. إذا لم تكن هنالك أخلاق وإذا ساد انعدام الخلق، والحرص، وأهواء النفس، والجهل، وطلب الدنيا، والضغائن الشخصيّة، والحسد، والبخل، وسوء الظن؛ حينما تتفشّى هذه الرذائل الأخلاقيّة- فستعود الحياة صعبة وستضيق الأجواء وستسلب من الإنسان القدرة على التنفس السليم. من هنا يقول القرآن الكريم في عدّة مواطن {يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}5 والتزكية هي التربية الأخلاقيّة وهي مقدّمة على التعليم. وفي الرواية نفسها التي ذكرناها عن الرسول الأكرم بخصوص العقل - بعد أن يذكر العقل - يقول إنّ الحلم يأتي من العقل والعلم يأتي من الحلم. ليتنبّه الإنسان إلى ترتيب هذه الأمور: العقل ينتج الحلم أوّلًا، والحلم يعني الصبر والتحمّل. وإذا توفّر الحلم توفرت الأرضية لاكتساب العلم ومضاعفة المعلومات عند الشخص وفي المجتمع. أي إنّ العلم يأتي في مرتبةٍ بعد الحلم. الحلم هو الأخلاق. وفي الآية القرآنية: {يزكّيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}؛ يقدّم التزكية. هذه هي التربية الأخلاقيّة. نحن اليوم بأمس الحاجة إلى هذه التربية الأخلاقية. سواء نحن شعب إيران، المجتمع الإسلاميّ الموجود في هذه المنطقة الجغرافيّة، أو كافّة العالم الإسلاميّ والأمّة الإسلاميّة الكبرى وجميع المجتمعات المسلمة؛ هذه هي حاجياتنا الأولى.

3-التربية القانونيّة
ثمّ تأتي بعد ذلك التربية القانونيّة والانضباط القانوني. كان النبيّ الأكرم بشخصه (ص) أوّل عامل بجميع أحكام الإسلام. يُروى عن أمّ المؤمنين عائشة أنّها قالت حين سُئِلت عن الرسول وأخلاقه وسلوكه [قالت]: "كان خلقه القرآن"6 كانت أخلاقه وسلوكه وحياته تجسيدًا للقرآن. بمعنى أنّه لم يؤمر بشيءٍ7 ويغفل هو عنه. هذه كلّها دروس لنا. وهنا نحن لا نبتغي مقارنة تلك العظمة بصَغَارنا وضِعتنا، فتلك هي قمّة ونحن نسير على الأطراف والسفوح، لكنّنا نسير نحو القمّة، هذا هو المؤشر وهذا هو المعيار.

المبعث عيدٌ.. ومنعطف!
لقد فتحوا لنا الطريق ويجب النظر إلى المبعث من هذه الزاوية. ليس المبعث مجرّد حفل نحتفل فيه ونصفّق ونأكل الحلويات ونوزّعها ونفرح. ليس هذا وحسب؛ المبعث منعطف وعيد. العيد معناه تلك المناسبة التي تشدّ انتباه الإنسان إلى حقيقة معيّنة. إنّه عيد؛ ننظر إلى المبعث، وننظر إلى الرسول، وننظر إلى ذلك الجهاد العظيم، ثم ننظر إلى ذلك التأثير العميق على مدى عشر سنوات -عشر سنوات في عمر الشعب كلحظة واحدة- ما الذي فعله ذلك الرجل العظيم وعظيم العظماء في تلك الأعوام العشرة؟! أين يمكن أن نجد عشر سنوات نقارنها بهذه السنوات العشر المباركة التي حكم فيها الرسول الأكرم (ص)؟! أيّة حركة أطلقها في تاريخ البشريّة وأي طوفان أوجده، وأي ساحل آمن دلَّ عليه البشريّة وراء ذلك الطوفان وكيف أشار إلى الطريق! وقد عمَّر ثلاثًا وستين سنة. ونريد الآن بأعمار طويلة وبهذه التصرّفات الطفوليّة -أينما كان- السير في ذلك الطريق. حينما يحصل مثل ذلك التحرّك بتلك الدرجة من الإخلاص والجهاد والهداية الربّانيّة فستكون النتيجة ذلك الشيء نفسه الذي ترتّب على الأعوام العشرة لحكومة الرسول وأفرز كلّ تلك العظمة.


1- سورة الملك، الآية: 10.
2- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
3- تحف العقول، ص 15.
4- مجمع البيان، ج 10، ص 500.
5- سورة آل عمران، الآية 164، سورة الجمعة، الآية 2.
6- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج 6، ص 340.
7- أو: لم يأمر بشيءٍ ويغفل هو عنه.

2017-03-16