يتم التحميل...

سادة قريش وكبراؤهم والموقف من دعوة "التوحيد"

ثقافة إسلامية

سادة قريش وكبراؤهم والموقف من دعوة "التوحيد"

عدد الزوار: 78

عقيدة التوحيد رؤية عامة للكون والإنسان ومنهج للحياة. الإمام خامنئي

سادة قريش وكبراؤهم والموقف من دعوة "التوحيد"
يوم نهض نبيّ الإسلام لحمل رسالة تحرير الإنسان، وأعلن شعار "لا إله إلّا الله"، واجه معارضة حادّة ومقاومة عنيفة. وكان في مقدّمة هذه الجبهة المضادّة رؤساء القبائل ووجهاؤها. وكان بقيّة المعارضين تابعين ومطيعين لهؤلاء السادة والكبراء.

في البداية، واجه هؤلاء الرسول والفئة المؤمنة بأبسط الأسلحة العدوانيّة: الهمز واللّمز والاستهزاء. ثمّ عمدوا إلى أسلحة أشدّ وأفتك كلّما ازدادت الحركة التوحيديّة قوّة وبلورة. وهكذا كرّرت هذه الجبهة المضادّة خلال الأعوام الثلاثة عشر قبل الهجرة تلك المشاهد المخزية في تاريخ الصراع بين الحقّ والباطل.

هذه الحقيقة التاريخيّة تستحقّ مزيدًا من الدقّة والإمعان، لأنّها تشكّل مؤشّرًا هامًّا للتعمّق في فهم الإسلام، وفي فهم التوحيد الذي يشكّل العمود الفقريّ للإسلام.

حصر "التوحيد" في الاطار الذهني مفهوم معاصر خاطيء
إنّه لمؤسف جدًّا، بل إنّها لمأساة لكلّ دعاة تحرير الإنسان أن نشهد انحراف مفهوم التوحيد في عصرنا. فهذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتّجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشريّة المعذّبة على مسرح التاريخ.

وقد عملت الرسالات الإلهيّة عامّة خلال التاريخ، على ما نعلم، على تغيير المجتمع، ودفعه في اتّجاه يخدم مصالح الإنسان وينقذ المستضعفين والمسحوقين، ويقضي على كلّ مظاهر الظلم والتمييز والعدوان. فالمحتوى الأخلاقيّ لكلّ الأديان الكبرى – كما يقول أريش فروم – يتكوّن من التطلّع نحو العلم، والحبّ الأخويّ، والتخفيف من الآلام، والاستقلال، والشعور بالمسؤوليّة. وهناك طبعًا تطلّعات سامية شريفة أخرى لا نتوقّع من باحثٍ مادّيٍّ أن يدركها.

كلّ هذه التطلّعات والآمال تتلخّص في مبدأ التوحيد. والأنبياء كانوا يطرحون كلّ أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحقّقون تلك الأهداف أو يمهّدون لتحقيقها في أعقاب كفاحٍ ينشب تحت راية هذا الشعار.

وإنه لمؤسف حقًّا لا للموحّدين فحسب، بل لكلّ المتبنّين لهذه الآمال والأحداث، أن يبقى محتوى التوحيد مجهولًا أو محرّفًا أو سطحيًّا لا يتجاوز الإطار الذهنيّ، خاصّة في عصر تتصاعد فيه ضرورة الاتّجاه نحو تلك الأهداف أكثر من أي وقت مضى.

معرفة واقع الخصوم الإجتماعي تبين حقيقة "التوحيد"
ذكرنا أنّ المجابهات التي شهدها عصر فجر الإسلام تستطيع أن توضّح حقيقة هامّة بشأن مفهوم التوحيد. هذه الحقيقة هي: إنّ شعار "لا إله إلّا الله" اتّجه أوّلًا لمقارعة أولئك الذين حاربوه وعادوه، وهم أفراد الطبقة المسيطرة المقتدرة في المجتمع.

كما أنّ ردّة الفعل التي يبديه خصوم كلّ حركة في المجتمع تعبّر دومًا بوضوح عن الاتّجاهات الاجتماعيّة لتلك الحركة، ومدى عمق تأثير هذه الاتّجاهات. ويمكن فهم الاتّجاه الطبقيّ والاجتماعيّ للحركة من خلال دراسة طبيعة أعدائها وانتماءاتهم الطبقيّة، وقياس عمق تأثيرها عن طريق فهم مدى تصلّب الأعداء تجاهها.

من هنا، فإنّ دراسة جبهة أتباع الدعوات الإلهيّة وجبهة أعدائها، واحدة من الطرق الموثوقة في فهم هذه الدعوات بشكل صحيح. فحين نشاهد أنّ الفئات المقتدرة كانت دومًا سبّاقة في محاربة الرسالات الإلهيّة، نفهم بوضوح أنّ هذه الرسالات تعارض بطبيعتها هذه الفئات، تعارض تجبّرها وترفها، بل تعارض أساسًا هذه الطبقيّة التي جعلت هذه الفئات متميّزة عن غيرها.

أبعاد محتوى "التوحيد"
وقبل أن ندرس التوحيد من هذا المنظار؛ منظار مقارعته لكلّ ألوان السيطرة الاجتماعيّة، لا بدّ من الإشارة أوّلًا إلى أنّ التوحيد لا ينحصر في إطار نظرة فلسفيّة ذهنيّة كما هو شائع، بل هو نظريّة أساسيّة حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ للحياة.

ويندر أن نجد في قواميس الألفاظ الدينيّة وغير الدينيّة لفظة مثل لفظة التوحيد في استيعابها للمفاهيم الثوريّة البنّاءة، ولأبعاد الحياة الاجتماعيّة والتاريخيّة للإنسان. فلم يكن من الصدفة أن تبدأ كلّ الدعوات والحركات الإلهيّة في التاريخ بإعلان توحيد الله وحصر الربوبيّة والألوهيّة به.

أمّا أبعاد محتوى التوحيد، فنلخّصها فيما يلي:

أ‌- التوحيد على صعيد التصوّر (النظرة العامّة للكون والحياة)
ما يعني وحدة جميع العالم وانسجامه وائتلاف أجزائه وعناصره، من أنّ مبدأ الخلقة واحد، وجميع المخلوقات من ذلك المبدأ الواحد، وليس هناك آلهة متعدّدة في خلق العالم وإدارته، وهذا يستتبع وحدة جميع أجزاء العالم في التكوين والاتّجاه.

يقول الله تعالى: (مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ)1، (أَوَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى)2.

إنّ العالم المتحرّك – انطلاقًا من هذا التصوّر – قافلة متّصلة الأجزاء، كاتّصال حلقات السلسلة الواحدة، وكارتباط أجزاء الجهاز الواحد العاملة في اتّجاه واحد. وكلّ جزء من هذه الأجزاء، يكتسب معناه الواقعيّ ويتّضح واجبه من خلال فهم مكانته في مجموع هذا التركيب. كلّ الأجزاء، يعاون بعضها الآخر ويكمّل بعضها الآخر في هذا السير التكامليّ الحثيث، وكلّ واحد منها آلة ضروريّة في هذه المجموعة. وكلّ توقّف وفساد وركود وانحراف في أيّ جزء من هذه الأجزاء يؤدّي إلى بطء وفساد وانحراف في جميع الجهاز. وبهذا الشكل، ترتبط جميع الذرّات مع بعضها برباطٍ معنويٍّ عميق.

وهذا يعني أنّ للعالم هدفًا يقوم على أساس حساب وانضباط دقيق، وأنّ لكلّ واحد من الأجزاء روحًا ومعنى؛ فالعالم له خالق حكيم. وبناءً على هذا، فإنّ لأصل الوجود كما لكثير من أجزائه، حكمة وغاية واتّجاه وهدف. يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ)3.

والعالم بمجموعه، انطلاقًا من هذا التصوّر، ليس بالحائر العابث، بل هو مثل ماكينة مصنوعة ومرصودة للعمل من أجل هدف معيّن. فيمكن السؤال عن هدفه، ولا يمكن السؤال عن أصل هذا الهدف. إنّه قصيدة ذات مضمون ينبغي التأمّل والتدبّر فيها لفهم مضمونها، ولا يمكن إطلاقًا اعتبارها صوتًا منطلقًا من حركة عشوائيّة. بل أبعد من ذلك، يمكن اعتبار خضوع كلّ عناصر العالم وكلّ الأشياء لله.

فلا يوجد بين هذه المجموعة عنصر شاذّ متمرّد؛ كلّ قوانين الطبيعة وكلّ ما يخضع لسيطرة هذه القوانين منصاع لله وعبد له. فوجود القوانين التكوينيّة والطبيعيّة على ساحة الكون لا يعني نفي ربوبيّة الله ومبدئيّته. يقول الله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدً)4، (بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)5، وأيضًا (وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)6.

ب- التوحيد على صعيد فهم الإنسان
ما يعني وحدة أبناء البشر وتساويهم في ارتباطهم بالله. إنه ربّ جميع الناس. وليس لأحدٍ – بسبب طبيعته الإنسانيّة – علاقة خاصّة متميّزة به. ولا لأحدٍ معه قرابة. ليس إله شعب خاصّ أو قبيلة معيّنة، ولم يختر شعبًا معيّنًا ليكون ذلك الشعب سيّدًا والباقي عبيد. كلّ الناس أمام الله سواسية، وليس لأحدٍ عند الله كرامة خاصّة إلّا بالعمل الصالح، أي بالسعي والمثابرة على طريق خدمة الناس والعمل بأحكام الله المؤدّية إلى سمّو الإنسان.

يقول تعالى:(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)7، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ)8، كذا (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)9.

ويعني أيضًا وحدة أبناء البشر وتساويهم في الخلقة والتكوين الإنسانيّ. فالإنسانيّة عنصر واحد يسري في جميع أفراد النوع البشريّ، بشكل متساوٍ؛ ليس هناك آلهة متعدّدة خلقت فئات بشريّة متعدّدة. ولذلك، فلا توجد ثمّة اختلافات وفواصل منيعة في الخلقة، كما إنّ إله الطبقة الاجتماعيّة العليا ليس بأقوى من إله الطبقة الاجتماعيّة السفلى. كلّ الناس مخلوقات الإله الواحد الأحد، وكلّهم متشابهون في جوهر خلقتهم؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)10.

كما يعني تساوي أبناء البشر في الإمكانات المتاحة لهم من أجل السموّ والتكامل. فالبشر متشابهون في جوهرهم الإنسانيّ وطبيعتهم الإنسانيّة، وهذه الطبيعة الإنسانيّة جُبلت بيد بارئ حكيم. فليس هناك إذن عاجز ذاتيًّا عن ارتقاء مدارج الصراط المستقيم نحو السموّ والتكامل. من هنا، فدعوة الله دعوة عامّة، لا تختصّ بشعب معيّن أو فئة خاصّة. والظروف المختلفة لها آثارها المختلفة على الإنسان، لكنّ هذه الظروف الطارئة لم تستطع أن تصنع من الإنسان بشكل دائم شيطانًا أو مَلَكًا وتغلّ يديه وتسلب اختياره وتسدّ الطريق أمام انتخابه وتغيّره.

يقول الله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَ كَافَّةً لِلنَّاسِ)11، (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولً)12،(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمً)13.

ويعني أيضًا حرّيّة جميع الناس من قيود الأسر، ومن قيود العبوديّة لغير الله، وهو تعبير آخر عن ضرورة العبوديّة لله. فأفراد البشر الراضخون بشكلٍ من الأشكال تحت سيطرة غير الله كالسيطرة الفكريّة والثقافيّة، أو الاقتصاديّة، أو السياسيّة؛ وهم مستعبدون لعباد من أمثالهم بالمفهوم الواسع للعبادة. هؤلاء قد اتّخذوا للهِ أندادًا. والتوحيد يرفض هذا الشكل من الحياة، ويعتبر الإنسان عبدًا لله فقط، ويحرّره من العبوديّة والرضوخ لكلّ نظام، بل لكلّ عامل مسيطر يضع نفسه مكان الله.

فالتوحيد يعني التسليم لله وحده، ويستتبع ذلك رفضَ كلّ سلطة غير سلطة الله مهما كان شكلها ونوعها؛ (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَ للهِ أَمَرَ أَلّاَ تَعْبُدُوا إِلّاَ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)14، (وَقَضَى رَبُّكَ أَلّاَ تَعْبُدُوا إِلّاَ إِيَّاهُ)15.

والتوحيد بالمعنى المتقدّم يعني تكريم الإنسان وتثمينه. فالعنصر الإنسانيّ السامي أعظم من أن يخضع ويرضخ لأحد غير الله. والوجود المطلق والجمال المطلق هو وحده الذي يستحقّ عبادةَ الإنسان وثناءه وعشقه. وهذا النزوع المتسامي هو درجة من درجات السموّ.

فلا شيء – غير ذات الله تعالى – يتمتّع بمنزلة يستحقّ فيها عبادة الإنسان ودعاءه. كلّ الأصنام الجامدة والمتحرّكة التي فرضت نفسها على فكر الإنسان وقلبه وجسمه، واغتصبت حاكميّة الله في حياة الإنسان هي رجس وأوثان تُبعد الكائن البشريّ عن طُهره ونقائه الفطريّ، وتذلّه وتصدّه عن حركته. ولا بدَّ للإنسان – إنْ أراد استعادة مكانته السامية – أن يجتنب هذه الأوثان ويغسل عن وجوده عار التلوّث بعبوديّتها؛ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)16، (ولاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولً)17، (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورً)18.

وهو كذلك يعني وحدة وانسجام حياة الإنسان ووجوده؛ فهي مركّبة من الذهن والواقع، من الفكر والعمل. وإذا خضع واحد من هذين الجانبين، بأجمعه أو بقسمٍ منه، لأعداء الله، أي إذا أصبح الذهن إلهيًّا والواقع غير إلهيّ، أو أصبح الواقع إلهيًّا والذهن بعيدًا عن الله، حينئذٍ تظهر الازدواجيّة في حياة الإنسان، ويبرز الشرك في عبودية الله.

يكون الإنسان في مثل هذه الحالة مؤشّر مغناطيسيّ ظهر في مجاله المغناطيسيّ عنصر غريب. المؤشر عندئذٍ إمّا أن ينحرف عن اتجاهه الطبيعيّ انحرافًا تامًّا، أو يبقى يتأرجح يَمنةً ويسرة، أي سوف ينحرف الإنسان عن الصراط المستقيم المتناسب مع طبيعته الإنسانيّة، وبالتالي، ينحرف عن الله؛ (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ)19.

ويعني أيضًا انسجام الإنسان مع العالم المحيط به. فالساحة الكونيّة الفسيحة تزخر بقوانين الخليقة، ولا تغرب أدنى ظاهرة طبيعيّة عن إطار هذه القوانين. وبانسجام هذه القوانين وتعاضدها والتقائها ينتظم شكل الكون ويسود في العالم هذا النظام الرائع المشهود. فالإنسان جزء من هذه المجموعة وتتحكّم فيه قوانينها العامّة، إضافةً إلى قوانين خاصّة. غير أنّ هذه القوانين الخاصّة متناسبة ومنسجمة أيضًا مع قوانين الظواهر الأخرى.

أمّا الإنسان، خلافًا لسائر الظواهر الأخرى المسخّرة للحركة على طريقها الطبيعيّ الفطريّ، يتمتّع بقوّة إرادة وقدرة اختيار. وعليه أن يطوي طريقه الفطريّ الطبيعيّ عن اختيار، لأنّه طريق سموّه وكماله. وهذا يعني أنّه قادر على الانحراف عن هذا الطريق الطبيعيّ؛ (فَمَنْ شَاء فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاء فَلْيَكْفُرْ)20.

والتوحيد يدعو الإنسان إلى السير على طريقه الطبيعيّ الفطريّ المنسجم مع كلّ الكون، وبذلك يربط الكائن البشريّ – باعتباره عضوًا أصليًّا من أعضاء هذا الكون – في عمله وسعيه بسائر أجزاء ا لكون، ويخلق بذلك وحدةً وانسجامًا تامّين؛ (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ)21، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)22.

ج- التوحيد على صعيد المناهج الاجتماعيّة (الاقتصاديّة والسياسيّة وغيرها)
يسلب من كلّ مصدر غير الله صلاحيّة الانفراد بوضع مناهج مستقلّة لشؤون الحياة والإنسان.

فالله خالق الإنسان والكون والمصمّم لهذا النظام الكونيّ المنسجم، والعالم بإمكانات الإنسان واحتياجاته. وهو تعالى يعلم ما ينطوي عليه الكائن البشريّ من ذخائر دفينة وطاقات مكنوزة، وما ينطوي عليه الكون من كنوز وإمكانات، ويعلم ميزان وأبعاد استثمار هذه الكنوز والإمكانات، ويعلم كيف تلتقي هذه جميعًا مع بعضها.

من هنا، فهو وحده القادر على وضع منهج لطريقة الحياة، ولعلاقات الإنسان، ومنهج حركته في إطار نظام التكوين. وهو وحده القادر على وضع قوانين الحياة وتعيين شكل النظام الاجتماعيّ. فاختصاص هذا الأمر بالله نتيجة طبيعيّة ومنطقيّة للخالقيّة والألوهيّة. فكلّ تدخّل من الآخرين – إذن – لتعيين المسيرة العمليّة للبشريّة هو تدخّل في حاكميّة الله وادّعاء للألوهيّة وباعث على الشرك؛ (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً)23، (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا مُبِينً)24.

ويسلب حقّ الولاية على المجتمع وحياة الإنسان مِنْ غير الله. فولاية الإنسان على الإنسان، لو قامت على أساس حقّ مستقلّ وبدون مسؤوليّة، لاستلزمت الظلم والطغيان والعدوان. لأنّ الفرد الحاكم والجهاز الحاكم لا يستطيع أن يتخلّص من الانحراف والطغيان والإفراط إلّا إذا كانت زمام الأمور معطاة بيد هذا الفرد أو هذا الجهاز من قِبل سلطة عُليا ضمن إطار مسؤوليّات متناسبة. وهذه السلطة العُليا في المدرسة الدينيّة هي الله المحيط بكلّ شيء علمًا؛ (لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ)25، (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لاَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ)26.

هذه السلطة العُليا لا تنطلي عليها خدعة كما قد تنطلي على الجماهير، ولا يمكن اتّخاذها وسيلة للسيطرة والتجبّر كما تُتّخذ الأحزاب، ولا يمكن المساومة معها كما يمكن مع علّيّة القوم وزعمائهم.

وبنظرة أعمق: لو استلزم نظم الحياة انتهاء كلّ أجهزة الحياة الاجتماعيّة بنقطة واحدة، وتفرّد قوّة مسيطرة بمسك زمام جميع الأمور، لما كانت تلك القوّة المسيطرة سوى خالق الكون والإنسان.

فالحكم حقّ خاصّ بالله، ينفّذه من عيّنهم الله، أي أولئك الذي تتجسّد فيهم أكثر من غيرهم تلك المعايير والخصال المحدّدة في الأيديولوجيا الإلهيّة. وهؤلاء منفّذون وحفَظَة للقوانين الإلهيّة؛ (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)27، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)28، (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ)29.

ويعني اختصاص الملكيّة المطلقة الأصليّة لكلّ نِعَم الكون وذخائره بالله. فليس لأحدٍ أن يملك ويتصرّف مباشرة ومستقلًّا. كلُّ شيء أمانة بيد الإنسان لاستثماره والاستعانة به على طريق السموّ والتكامل. ليس للإنسان المنعّم أن يفسد ويتلف نِعَم هذا العالم التي هي ثمرة سعي آلاف الظواهر والعناصر في هذا العالم، أو أن يهمل هذه النِعَم أو يستثمرها في طريق غير طريق السموّ الإنسانيّ. ما في يد الإنسان، وإن كان ملكًا له، فهو عطاء إلهيّ. من هنا، ينبغي أن يتّجه استثمار هذا العطاء على الطريق الذي عيّنه الله، أي في طريقه الطبيعيّ الأساسيّ، في الطريق الذي خُلق من أجله في الحقيقة. واستثمار هذا العطاء الإلهيّ في غير هذا الطريق انحراف عن اتّجاهه الطبيعيّ، إنّه الفساد.

كما أنّ دور الإنسان إزاء هذه النعم الإلهيّة المتنوّعة هو استثمارها بشكل صحيح، وفتح مغاليق كنوزها، وقبل ذلك إحياؤها والبلوغ بها إلى درجة الكمال طبعًا؛ (قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ للهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ)30-، )هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعً)31، (اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَ)32، (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ)32
كما يعني أنّ أفراد البشر متساوون في حقّ استثمار نِعَم الحياة. فالإمكانات والفرص متكافئة أمام جميع البشر ليستثمر كلّ منهم هذه النِعَم قدَرَ حاجاته وضمن إطار سعيه وعمله. هذه الساحة الكونيّة لا توجد فيها منطقة خصوصيّة محصورة بفئة معيّنة. والجميع يستطيعون أن يستثمروا نعم الحياة المتنوّعة قدَر همّتهم وإرادتهم، دون تمايز بينهم في العنصر أو الموقع الجغرافيّ والتاريخيّ، بل وحتّى في الانتماء الأيديولوجيّ؛ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعً)، (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ). (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ). (وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ)، (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ)، (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ)،(وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرْضِ)،(لِتَرْكَبُوهَ)، (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ).

وكلّ هذه الآيات من مطلع سورة النحل تخاطب جميع البشر دون أن تتّجه في خطابها إلى فئة خاصّة أو طائفة خاصّة، وهي جاءت في سياق آياتٍ أخرى تخاطب جميع البشر أيضًا مثل: (فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ). (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).

هذا جانب من المحتوى العميق الواسع للتوحيد. ومن خلال هذا الاستعراض السريع يتّضح بجلاء أنّ التوحيد ليس بالنظريّة الفلسفيّة الذهنيّة غير العمليّة المعزولة عن الحياة وعمّا يرتبط بحركة المجموعات البشريّة وبحركة الفرد ونشاطه. فالتوحيد لا يكتفي باستبدال معتقد بمعتقد آخر. بل إنّه:

من جهة، نظرة عامّة للكون والحياة تشتمل على مفهوم خاصّ للعالم وللإنسان ولمكانة الإنسان بين ظواهر العالم ومكانته في التاريخ، ولإمكاناته واحتياجاته ومتطلّباته الذاتيّة، ولاتّجاهه ومراحل سموّه وكماله.

ومن جهة أخرى، منهج اجتماعيّ شامل متناسب مع طبيعة الإنسان، ويستطيع الكائن البشريّ في إطاره أن يسمو على مدارج كماله بسهولة وسرعة. إنّه أطروحة خاصّة للمجتمع تتّضح فيها الخطوط العامّة والأساسيّة للكيان الاجتماعيّ.

من هنا، حين يرتفع نداء التوحيد في المجتمعات الجاهليّة؛ المجتمعات القائمة على أساس الجهل بحقيقة الإنسان، والمجتمعات الطاغوتيّة القائمة على أساس المعاداة للقيم الإنسانيّة الحقّة، فإنّه يحدث تغييرًا شاملًا ينير القلوب المظلمة ويحيي النفوس الهامدة، ويبعث هزّة في جسد المجتمع الراكد، وينظّم الشؤون المبعثرة المتناقضة لذلك المجتمع. يحدث التوحيد تغييرًا في المحتوى النفسيّ، والمؤسّسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وفي القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة. وبعبارة قصيرة، يهاجم التوحيد الوضع الجاهليّ القائم والسلطة التي تحمي هذا الوضع، والجوّ الذي يغذّي هذا الوضع ويمدّه بالحياة.

التوحيد – إذن – ليس فقط أُطروحة ترتبط بمسألة نظريّة محضة أو مسألة ذات إطار عمليّ محدود، بل إنّه أيضًا طريق جديد أمام الإنسان، يستهدف تقديم أسلوب آخر للعمل والحياة، وإن استند إلى تحليل ذهنيّ ونظريّ.

انطلاقًا من هذا الفهم لمحتوى التوحيد، نعتقد أنّ هذا الأصل يشكّل حجر البناء في صرح الدين، ومحتواه الأساس، والقاعدة التي تقوم عليها. لأنّ فهم التوحيد على أنّه نظرة لما وراء الطبيعة أو أنّه على أحسن الأحوال أُطروحة أخلاقيّة عرفانيّة، لا يتناسب إطلاقًا مع الأيديولوجيا الإسلاميّة الحيّة التي تنطوي على أُطروحة كاملة للحياة الاجتماعيّة.
 


1- سورة الملك، الآية 3.
2- سورة الروم، الآية 8.
3- سورة الأنبياء، الآية 16.
4- سورة مريم، الآية 93.
5- سورة البقرة، الآية 116.
6- سورة الزمر، الآية 67.
7- سورة البقرة، الآية 116.
8- سورة الأنبياء، الآية 94.
9- سورة الحجرات، الآية 13.
10- سورة النساء، الآية 1.
11- سورة سبأ، الآية 28.
12- سورة النساء، الآية 79.
13- سورة النساء، الآيتان 174 و175.
14- سورة يوسف، الآية 40.
15- سورة الإسراء، الآية 23.
16- سورة الحجّ، الآيتان 30- 31.
17- سورة الإسراء، الآية 22.
18- سورة الإسراء، الآية 39.
19- سورة البقرة، الآية 85.
20- سورة الكهف، الآية 29.
21- سورة آل عمران، الآية 83.
22- سورة الحجّ، الآية 18.
23- سورة النساء، الآية 65.
24- سورة الأحزاب، الآية 36.
25- سورة سبأ، الآية 3.
26- سورة الحاقّة، الآيات 44 - 46.
27- سورة الأنعام، الآية 14.
28- سورة المائدة، الآية 55.
29- - سورة الناس، آية 1- 3.
30- سورة المؤمنون، الآيتان 84 و85.
31- سورة البقرة، الآية 29.
32- سورة هود، الآية 61.
33- سورة الرعد، الآية 25.

2017-03-16