يتم التحميل...

روح التوحيد - رفض عبوديّة غير الله

ثقافة إسلامية

روح التوحيد - رفض عبوديّة غير الله

عدد الزوار: 106

روح التوحيد - رفض عبوديّة غير الله

أ ــ التوحيد "الذهني" توحيد متلبس بالشرك ومهادن للطاغوت
كان هناك على مرّ التاريخ طبعًا أفراد، مع إيمانهم بالله وبالتوحيد، غفلوا أو تغافلوا عن المحتوى العينيّ والعمليّ – وخاصّة الاجتماعيّ – لهذه العقيدة. هؤلاء وطّنوا أنفسهم على المعيشة في كلّ زمان ومع كلّ الظروف بحيث لا تكاد تميّزهم عن الكافر بالتوحيد. أي إنّ هذه العقيدة لم تبعث فيهم شعور التعارض مع الوضع غير التوحيديّ القائم، ولم يثقل كاهلهم عبء الشرك المستفحل في مجتمعهم.

في مطلع الإسلام، كان هناك مجموعة من الحنفاء يعيشون في مكّة، مركز الوثنيّة وعاصمة أصنام العرب الكبرى. لكنّ وجودهم لم يكن له أدنى تأثير على الجوّ الفكريّ والاجتماعيّ، لأنّ مفهوم هؤلاء الحنفاء عن التوحيد لم يتعدَّ أذهانهم وقلوبهم وإطار حياتهم الخاصّة، ولم يكن له أدنى تواجد في تلك المتاهات الجاهليّة، ولا أقلّ تأثير على الحياة المؤسفة القائمة هناك. هؤلاء الذين يسمّون بالموحّدين كانوا يعيشون مع غيرهم على ساحة واحدة ويطوون مسيرة تلك الحياة بنفس طريقة غيرهم دون أن يزعجهم شيء. هذا الفهم الذهنيّ للتوحيد يتميّز بهذه الصفة من الخمول والانعزال عن الحياة وخاصّة الحياة الاجتماعيّة.

في مثل هذه الأجواء، أعلن الإسلام مفهوم التوحيد باعتباره عقيدة ملتزمة وتنظيمًا للحياة وأُطروحة جديدة للمجتمع. وبهذا الشكل، أعلن هويّته باعتبار دعوته انقلابيّة لكلّ مخاطبيه، المؤمنين منهم والكافرين. فكلّ مَن سمع نداء الإسلام عِلِم أنّه نظام اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ جديد لا يتلاءم إطلاقًا مع الأوضاع التي كانت قائمة في العالم آنذاك، بل إنّه يستهدف إزالة الوضع القائم وإبداله بوضع آخر.

بسبب هذه الأطروحة، اندفع المؤمنون صوب الدعوة باشتياق ولهفة وولع شديد وأسلموا لها. ولهذا السبب أيضًا هبّ المعارضون والكافرون ليقاوموا نداء التوحيد بوحشيّة وضراوة، وليصعّدوا عداءهم يومًا بعد يوم.

هذه الحقيقة التاريخيّة، بمقدورها أن تكون معيارًا لتقييم صحّة أو عدم صحّة ادّعاء التوحيد في كلّ زمان ومكان. ومن الصعب أن نصدّق وجود التوحيد في نفوس قوم يشبهون موحّدي مكّة قبل ظهور الإسلام.

فالتوحيد المهادن مع كلّ الأنداد والآلهة المزيّفة، الذي لا يعدو أن يكون فرضيّة ذهنيّة، ليس إلّا نسخة ممسوخة لتوحيد الأنبياء، ومن الطبيعيّ أن يخلو مثل هذا التوحيد من ديناميكيّة دعوة الأنبياء.

فمن خلال هذه الرؤية، نستطيع أن نفهم سبب انتشار نور الإسلام وتقدّمه في العصور المتقدّمة، وسبب تراجعه وتقهقره وضعفه في العصور المتأخّرة.

فإسلام رسول الله (ص) كان يضع التوحيد أمام الناس باعتباره طريقًا ومسلكًا. وإسلام العصور التالية طرح التوحيد باعتباره نظريّة يدور حولها البحث والجدل في المجالس والمحافل. الكلام في الأوّل يدور حول تصوّر جديد للعالم ونظريّة جديدة لحركة الحياة، أمّا في الثاني، فيدور حول مسائل كلاميّة فرعيّة خالية من كلّ عطاء حيّ.

كان التوحيد يشكّل الهيكل العظميّ للنظام القائم، والمحور لكلّ العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، بينما في العصر التالي، فيتمثّل في لوحة فنيّة جميلة معلّقة في صالة؛ الهدف منها إكمال مظاهر الزينة فيها، فأيّ دور فعّال يمكن أن نتوقّعه من مثل هذه الظاهرة الكماليّة؟

ممّا تقدّم يتّضح أنّ التوحيد من منظار عمليّ أُطروحة للمجتمع ومنهج للحياة وقاعدة للنظام الذي اعتبره الإسلام متناسبًا مع طبيعة الإنسان ونموّه وسموّه. وهو من منظار نظريّ يشكّل القاعدة الفكريّة الفلسفيّة لذلك النظام.

ب ــ التوحيد الأصيل يحارب المستكبرين أدعياء الألوهية
بعد هذه التمهيدات، نستطيع أن نعود إلى بداية المقال، وندرس المسألة من الزاوية الخاصّة التي استهدفناها فيه.

قلنا: إنّ المجابهات الأولى التي واجهها نداء التوحيد انطلقت من ذوي القدرة والسلطة في المجتمع. وهذا مؤشّر يُثبت أنّ الضربة التي وجّهها هذا الشعار اتّجهت أوّل وأكثر ما اتّجهت نحو تلك الفئة المقتدرة المسلّطة، أو نحو الفئة المستكبرة على حدّ التعبير القرآنيّ.

وقلنا أيضًا: إنّ الدعوات التوحيديّة في مختلف عصور التاريخ، ما إن انطلقت في المجتمع حتّى اتّخذت موقفها الواضح من المستكبرين. وعلى أثر هذا الموقف، انقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين: الفئة المعارضة المستكبرة، والفئة المؤمنة المستضعفة.

وأخيرًا: إنّ ردّ الفعل الذي تبديه هاتان الفئتان تجاه رسالة التوحيد هي الخاصّية التي تميّز التوحيد الحقيقيّ الأصيل. أي إنّ التوحيد – متى ما أُعلن بمفهومه الأصيل وبشكله الصحيح – يواجه هذه المجابهات وردود الفعل الاجتماعيّة.

والآن علينا أن نتفحّص أبعاد التوحيد لنرى أيّ بُعد من هذه الأبعاد يتعارض مباشرة مع مصالح الطبقة المستكبرة ويصطدم مع وجودها. بعبارة أخرى، علينا أن نفهم تلك النظرة التوحيديّة التي تستثير المستكبرين وتدفعهم إلى اتّخاذ موقف المجابهة الحادّة. إذ إنّ تفهّمُ شخصيّة المستكبر في القرآن الكريم تعيننا كثيرًا على فهم هذا الموضوع.

شخصيّة المستكبر في القرآن
يعطي القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعًا صورة عن المستكبر وخصائصه النفسيّة ومكانته الاجتماعيّة وأهدافه وأطماعه التوسعيّة الاستئثاريّة. وبشكل عام، يحدّد للمستكبر الخصائص التالية:

أ ــ يرفض مالكية وحاكمية الله المطلقة
يرفض الله بالمفهوم الذي تعبّر عنه عبارة: "لا إله إلا الله" (أي حصر الحاكميّة والمالكيّة المطلقة به تعالى)، وإن لم يرفض الله كحقيقة ذهنيّة تشريفاتيّة محدودة الإطار: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ)1، (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً)2، (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)3.

ب ــ يجحد أهلية النبي لما آتاهم الله
ويتّخذ موقف الجاحد والمكذّب تجاه دعوة النبيّ التغييريّة التحرّريّة، ويجابهها بحجّة أنّه أقدر من غيره على فهم الطريق الصحيح، وبحجّة أنّ الله ينبغي أن يخاطبه مباشرة: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)4، (وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ)5.

ج ــ يتهم النبي بالسعي إلى الجاة
كما ويتّهم المستكبرون صاحب الدعوة بأنّه يستهدف الحصول على الجاه والمنزلة، كما يتذرّعون بالتقاليد البالية السائدة لنظامهم المسيطر للحدّ من انتشار الدعوة في المجتمع؛ (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ)6.

د ــ يتبعون أساليب الخداع والتضليل لتثبيت سيطرتهم
ويستعينون بالقوّة والتزوير وبمختلف سبل الخداع والتضليل لإبقاء الناس تحت سيطرتهم وعبوديّتهم، ويدفعونهم إلى مجابهة كلّ دعوة تحرّريّة: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيل)7، (فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ)8، (قَالَ الْمَلاَ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)9.

هـ ــ يعرضون النبي واتباعه لأشد أنواع الأذى والتنكيل
وأخيرًا، يعرّضون النبيّ وأتباعه الثائرين على النظام المسيطر وعلى الاتّجاه الفكريّ السائد لأقسى الحملات وأشدّ أنواع التعذيب والأذى والتنكيل؛ (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ)10، (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ)11.

هذه هي باختصار الخصائص التي يذكرها القرآن الكريم للمستكبرين. وهناك مواضع أخرى تجاوز فيها القرآن رسم الصورة إلى وضع الإصبع على أفراد مشخّصين ينتمون إلى اتّجاهات معيّنة: (ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)12، (وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ)13.

ففرعون معروف، وهامان مستشار فرعون الخاصّ، والشخصيّة الأولى في جهاز فرعون طبعًا، و"ملأ فرعون" هم علّيّة القوم في هذا الجهاز، والسائرون في ركاب فرعون ومشاوروه ومساعدوه. وقارون هو صاحب الثروات الطائلة والكنوز التي (مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ).

وباستعراض عشرات الآيات من كلام الله العزيز بشأن الاستكبار، نستطيع أن نفهم المستكبر على النحو التالي: الجناح المسيطر في المجتمع الجاهليّ، الماسك – دون استحقاق – بزمام السلطة السياسيّة والاقتصاديّة. واستمرارًا لاستثماره وتسلّطه الجائر؛ يمسك أيضًا بزمام الأفكار والمعتقدات المسيطرة على الأذهان. ويعمل بأساليب متنوّعة على ملء الأذهان بأفكار تدفع الأفراد إلى الاستسلام له وإلى الانسجام مع الأوضاع القائمة. وهذا المستكبر يهبّ لمقارعة كلّ دعوة إلى التوعية، فما بالك إذا كانت الدعوة انقلابيّة تغييريّة؛ حفاظًا على مصالحه بل على وجوده.

والآن نعود إلى موضوعنا الأساسيّ: كيف عرض الأنبياء عقيدة التوحيد؟

الجواب على هذا السؤال يوضح مواضعَ الحساسيّة التي تستثير المستكبر في هذه العقيدة، وسببَ حساسيّته من هذه المواضع، وسببَ عدم قدرة المستكبر على تحمّل عقيدة التوحيد حين تطرح بهذه الكيفيّة. وجدير بالذكر أنّ الجواب على هذا السؤال يوضح لنا من جانب آخر أهميّة التوحيد باعتباره القاعدة الأساس التي تقوم عليها الرسالة.

نحن نعلم أنّ شعار التوحيد هو أوّل نداء يرفعه النبيّ في المجتمع: "قولوا لا إله إلّا الله تُفلحوا"14.

وقد نقل القرآن الكريم عن أنبياء كرام مثل: نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم خطابهم لأممهم، وكان الخطاب يدور حول محور التوحيد: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)15.

هذه الشعارات كما ترى تستند بالدرجة الأولى إلى رفض كلّ عبوديّة لغير الله. يدعو النبيّ بهذه الشعارات الجهلة الغافلين المنغمسين في أوحال النظام الجاهليّ الطاغوتيّ أن يكفّوا عن عبوديّة كلّ قطب وقدرة غير الله. وهذا يعني أنّ النبيّ يبدأ دعوته بإعلان الحرب على كلّ الذين يجعلون من أنفسهم آلهة من دون الله.

مَن هم أدعياء الألوهيّة في المجتمع؟ وما معنى إعلان الحرب على الآلهة المزيّفة؟ وما هو الوضع الذي تريد دعوة الأنبياء أنْ توجده في المجتمع؟

إنّ عبارة "أدعياء الألوهيّة" توحي إلى الأذهان عادة أولئك الذين جعلوا من أنفسهم "إلهًا"، أي أولئك الذين ادّعوا لأنفسهم تلك القدرة الخارقة التي كان البشر يؤمن بها على مرّ التاريخ بشكل من الأشكال؛ وهذا فهم سطحيّ للعبارة.

كان هناك طبعًا في التاريخ مجرمون تافهون استغلّوا قدرتهم السياسيّة والاجتماعيّة، فأوحوا إلى أفراد أتفه منهم أنّهم آلهة بالمعنى المتقدّم أو أنّهم يحملون جانبًا من روح الإله. ولكن لو ألقينا نظرة على المعنى الواسع لألفاظ "العبادة" و "الربوبيّة" و "الألوهيّة" في القرآن، لاستنتجنا أنّ إطار مفهوم "أدعياء الألوهيّة" أوسع من ذلك الفهم بكثير.

واستعمال مادّة "العبادة" في القرآن الكريم يفيد أنّ العبادة تعني التسليم والطاعة المطلقة تجاه إنسان أو أيّ موجود آخر. حين نستسلم استسلامًا أعمى لشخص، ونتحرّك وفقًا لرغباته وأهوائه وأوامره فقد عبدناه، وكلّ قوّة تستطيع أن تُخضعنا لها، وتسيطر على أجسامنا ونفوسنا، وتسخّر طاقاتنا وفقًا لرغباتها، فإنّها تصيّرنا عبيدًا لها سواء كانت هذه القوّة داخل أنفسنا، أم في محيطنا الخارجيّ. ومن أمثلة هذه الاستعمالات القرآنيّة:

حين يخاطب موسى فرعون في بداية دعوته معاتبًا يقول: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)16. فيردّ فرعون وبطانته فيقولون: (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)17.

وحين يخاطب إبراهيم أباه قائلًا: (يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّ)18.

وفي خطاب ربّ العالمين للبشريّة قوله: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)19.

ويعد الله تعالى عباده الصالحين: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى)20.

وحول أولئك الذين يعيبون على المؤمنين إيمانهم يقول تعالى:(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ)21.

هذه الآيات عبّرت عن الطاعة لفرعون ولبطانته وللطاغوت وللشيطان بكلمة "عبادة". ومن خلال دراسة جميع آيات القرآن في هذا المجال، نخلص إلى أنّ العبادة في المفهوم القرآنيّ: هي الاتّباع والتسليم والطاعة المطلقة أمام قدرة واقعيّة أو وهميّة طوعًا ورغبة أو كُرهًا وإلزامًا، مع الشعور بالتقديس والثناء المعنويّ أو بدونه.. هذه القدرة هي "المعبود" وهذا المطيع هو "العبد" و "العابد".

من خلال الإطار العامّ للمفاهيم المتقدّمة، يتّضح معنى لفظة "الألوهيّة" ولفظة "الله" باعتبارهما تعبيرًا آخر عن كلمة "المعبود".

في النظام الجاهليّ المنحرف المنقسم إلى طبقتين: مستكبرة ومستضعفة، أي المنقسم إلى طبقة مسيطرة ماسكة بزمام جميع الأمور ومترفة طبعًا، وطبقة مهملة مسخّرة ومحرومة لزامًا، تبرز مظاهر الألوهيّة والعبوديّة كعلاقة غير متعادلة بين الطبقتين. ومن العبث أن نبحث وراء موجود مقدّس بشريّ أو حيوانيّ أو جامد، في دراسة آلهة المجتمعات الجاهليّة على مرّ التاريخ. فأبرز مظهر للمعبود والإله في هذه المجتمعات، هو تلك الفئة التي تمارس، اعتمادًا على ارتباطها بالطبقة المستكبرة، عمليةَ إخضاع وإرضاخ الجماهير المستضعفة ودفعها إلى طريق إشباع نهمها وجشعها. فالدين الواقعيّ في هذه المجتمعات هو "الشرك"، لأنّ الآلهة فيها متعدّدة بتعدّد مراكز القوّة المسيطرة التي تستثمر الناس على طريق أهوائها.

والشرك هو تأليه أفراد إلى جانب الله أو بدلًا منه تعالى. وبتعبير آخر هو: إيكال أمور الحياة إلى غير الله، أو بعبارة أخرى، الاستسلام أمام كلّ قدرة غير الله، والاتّجاه نحو هذه القدرة لدى الحاجة، والسير على طريقها.

بينما التوحيد يقع في النقطة المقابلة للشرك تمامًا؛ يرفض كلّ هذه الآلهة، ويرفض التسليم لها، ويقاوم سيطرتها، ويحصّن القلوب من الركون إليها، ويدفع إلى إزالتها وطردها، ويشدّ الكائن الإنسانيّ بكلّ وجوده إلى الله.

إذ إنّ أوّل شعار رفعه رُسُل الله هو ذلك الرفض وهذا التسليم: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)22، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَ أَنَا فَاعْبُدُونِ)23. والأنبياء، إذن، أعلنوا زوال النظام الجاهليّ الفاسد المنحطّ بهذا الشعار. حيث دعوا إلى كفاح مريرٍ للطواغيت، أي لحماة هذا النظام وللمستهينين بالقيم الإنسانيّة الأصيلة ولأصحاب تلك القيم التافهة المساندة للظلم والظالمين.

إنّ رفض الشرك هو في الواقع رفض لكلّ الكيانات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة المقوّمة للمجتمع الجاهليّ، والمتّخذة من مذهب الشرك غطاءً وتبريرًا لوضع المجتمع المهزوز. ورفض الآلهة المزيّفة، يعني طرد كلّ الذين دأبوا على استضعاف الجماهير، واستغلالها عن طريق القوّة والتزوير، من أجل إشباع غرائزهم وأهوائهم الجامحة.

لقد اتّجه موسى إلى حرب فرعون بهذا الشعار. وقد تردّد على ألسن بطانة فرعون مسألة رفض موسى لآلهتهم التقليديّة: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ)24. غير أنّ فرعون ومَن تبعه كانوا يعلمون جيّدًا أنّ تلك "الآلهة"، أي الأصنام الجامدة، ليست إلّا غطاءً وتبريرًا لألوهيّة فرعون وأتباعه. لقد كان الصنم الجامد في الحقيقة تبريرًا لتأليه الأصنام الحيّة، لذا كان من المنطقيّ تمامًا أن يقف فرعون من دعوة موسى، أي من الدعوة إلى الله الواحد الأحد بارئ السماوات والأرض، موقف المهدّد بالسجن وبقتل مَنْ آمن به وتعذيبهم: (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ)25، (قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)26، (لاَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)27.

كلّ هذا التعنّت والتصلّب أمام اسم "الله" ودعوة التوحيد، يعود إلى أنّ هذا النداء لا يعني إلّا: الإيمان بحاكميّة الله وحدها على الحياة، ورفض الآلهة المزيّفة. كذا الارتباط به وحده وتمزيق كلّ قيود العبوديّة الأخرى. وهذه هي روح التوحيد وأبعاده البنّاءة النابضة بالحياة.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


1- سورة الصافات، الآية 35.
2- سورة فصّلت، الآية 15.
3- سورة لقمان، الآية 7.
4- سورة الأحقاف، الآية 11.
5- سورة الأنعام، الآية 124.
6- سورة يونس، الآية 78.
7- سورة الأحزاب، الآية 67.
8- سورة غافر، الآية 47.
9- سورة الأعراف، الآيتان 109- 110.
10- سورة البروج، الآيات 4-7.
11- سورة غافر، الآية 26.
12- سورة يونس، الآية 75.
13- سورة العنكبوت، الآية 39.
14- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار (بيروت: مؤسّسة الوفاء، الطبعة2 المصحّحة، 1403ه، 1983م)، الجزء 18، الصفحة 203.
15- سورة الأعراف، الآية 59.
16- سورة الشعراء، الآية 22.
17- سورة المؤمنون، الآية 47.
18- سورة مريم، الآية 44.
19- سورة يس، الآية 60.
20- سورة الزمر، الآية 17.
21- سورة المائدة، الآية 60.
22- سورة النحل، الآية 36.
23- سورة الأنبياء، الآية 25.
24- سورة الأعراف، الآية 127.
25- سورة الأعراف، الآية 29.
26- سورة الأعراف، الآية 127.
27- سورة الأعراف، الآية 124.

 

2017-03-16