يتم التحميل...

برنامج أمير المؤمنين التربوي للأمة: حب الدنيا رأس كل خطيئة

ثقافة إسلامية

برنامج أمير المؤمنين التربوي للأمة: حب الدنيا رأس كل خطيئة

عدد الزوار: 122

خطبتا صلاة الجمعة بطهران 19/09/2008
برنامج أمير المؤمنين التربوي للأمة: حب الدنيا رأس كل خطيئة


ليلة القدر مناسبة دعاء وتضرع وتوجه للخالق، وشهر رمضان لا سيما ليالي القدر ربيع توجه القلوب لله والذكر والخشوع والتضرع. وهي ثانياً مناسبة لنعرّف قلوبنا المقام السامق لأمير المؤمنين ومولى المتقين في العالم إلى حد ما ونستلهم منه الدروس. كل ما يمكن قوله في فضائل شهر رمضان وواجبات العباد الصالحين في هذا الشهر؛ كان أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) نموذجه ومثاله الأعلى الأبرز.

أبدأ كلامي في الخطبة الأولى بذكر أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) كي نقترب قليلاً من معرفة هذا الإنسان الكبير. كل ما قالوه وقلناه وسمعناه إنما هو شيء قليل وحقير مقارنةً بعظمة ذلك المقام وتميز تلك الشخصية، فنحن عاجزون عن وصف جهاده، وسعيه للتقرب إلى الله تعالى، ومرارات حياته وآلامها، وعظمة الفعل الذي قام به في عهده.

لأجل أن نستفيد الدروس من أمير المؤمنين اليوم، سأشير إلى بعد واحد من أبعاد النشاط الشامل لأمير المؤمنين وهو بعد التربية الأخلاقية. يوم تولى أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) زمام الأمور في المجتمع الإسلامي كان وضع الأمة الإسلامية قد اختلف كثيراً عما كان عليه يوم رحل الرسول الأكرم (ص) عن الدنيا. خلال الأعوام الخمسة والعشرين ما بين رحيل الرسول الأكرم وتولي الإمام علي الخلافة وقعت أحداث كثيرة تركت تأثيراتها على ذهنية المجتمع الإسلامي وأفكاره وأخلاقه وسلوكه، وجاء أمير المؤمنين ليستلم هذا النظام والمجتمع.

حكم الإمام علي نحو خمسة أعوام في ذلك البلد الإسلامي الكبير. كل يوم من تلك الأعوام الخمسة كان درساً بليغاً. من الأعمال المتواصلة لأمير المؤمنين العكوف على التربية الأخلاقية للناس. كل الانحرافات التي تحصل في المجتمع مردها وجذورها إلى أخلاقنا. أخلاق الإنسان والخصائص والخصال الأخلاقية للأفراد هي التي توجّه سلوكهم وممارساتهم وترسم ملامحها. إذا كنا نلاحظ بعض السلوكيات المنحرفة في مجتمع ما أو على مستوى العالم فعلينا البحث عن جذورها في الأخلاق الذميمة. هذه الحقيقة دفعت أمير المؤمنين للتعبير عن حقيقة أهم هي أن معظم هذه الخصال الباطلة الضارة في البشر تعود إلى طلب الدنيا وحبها. لذلك يقوم أمير المؤمنين: "حب الدنيا رأس كل خطيئة".. طلب الدنيا أصل وأساس كل أخطائنا التي تؤثر في حياتنا الجماعية والفردية. طيب ما معنى طلب الدنيا؟ وما معنى الدنيا؟

الدنيا هي هذه الطبيعة الهائلة التي خلقها الله تعالى ومنحها للبشر.. هذه هي الدنيا. كل هذه المواهب التي خلقها الله تعالى في ساحة الكون تشكل بمجموعها الدنيا. وأولها أعمارنا. والعائدات الدنيوية وحصائل المساعي الدنيوية.. هذه كلها دنيا. الأولاد دنيا، والمال دنيا، والعلم دنيا، والمصادر الطبيعية دنيا.. هذه المياه والمناجم وكل ما يلاحظه الإنسان في عالم الطبيعة هو دنيا. أي الأشياء التي تكون حياتنا في هذا العالم. طيب ما هو السيئ في هذا؟ ثمة مأثورات ومعارف شرعية وإسلامية تقول لنا عمّروا الدنيا: "خلق لكم ما في الأرض جميعاً".. اذهبوا حققوا الدنيا وعمّروها واستثمروا النعم الطبيعية لكم وللناس. من الروايات ما تقول: "الدنيا مزرعة الآخرة "؛ "الدنيا متجر عباد الله". ثمة تعابير من هذا القبيل تدل كلها على رؤية إيجابية تجاه الدنيا.
وهناك مجموعة من المأثورات والمعارف الإسلامية تعتبر الدنيا رأس الخطايا وأصل المعاصي. هذه هي حصيلة هاتين المجموعتين من المعارف، وهو كلام واضح. طبعاً لابد من دراسات تحليلية عميقة لهذه الأمور فهي دراسات ضرورية وقد تم إنجازها فهنالك بحوث جيدة في هذا الباب. لكن خلاصة الفكرة هي أن الله تعالى مد مائدة الطبيعة هذه للبشر وأوصى كل واحد منهم وأمره بأن يجعلوها أكثر فاعلية واستعداداً وألواناً ويقدمونها للناس ولأنفسهم. غير أن هناك حدوداً وضوابط وقواعد تقيد هذه الممارسة. ثمة مساحات محظورة. الدنيا المحمودة هي أن ينتفع الإنسان من هذه المائدة الطبيعية الإلهية والمواهب الإلهية كما أمرت الضوابط والقواعد الإلهية ويتعامل ويسلك طبقاً لها ولا يتخطى الحدود والضوابط ولا يدخل المساحات الممنوعة. الدنيا الذميمة هي أن يطلب الإنسان لنفسه هذا المتاع الذي وضعه الله تعالى للناس، وأن يريد لنفسه سهماً أكثر من الآخرين، ويتطاول على حصص الآخرين وأن يحب الدنيا - وحب الشيء يعمي ويصم - إلى درجة أنه لا يعود يحترم أية خطوط حمراء ولا أية حدود وضوابط في سبيل الحصول على الشيء الذي يحبه ويعشقه.. هذه ستكون دنيا ذميمة. حب الدنيا، وطلب نصيب أكثر من الحق، والتطاول على نصيب الآخرين، والتعدي على حقوقهم هذه هي الدنيا الذميمة. المال دنيا، المنصب دنيا، السلطة دنيا، الشعبية دنيا، النعم والملذات الطبيعية هذه كلها دنيا. اعتبر الإسلام والأديان الإلهية الانتفاع من هذه الدنيا مباحاً للإنسان. لكن التطاول على حقوق الآخرين والإخلال في قواعد وقوانين عالم الطبيعة، وظلم الآخرين، وإغراق النفس في متاع هذه الدنيا، والغفلة عن الهدف الأصلي والنهائي كلها ممارسات ممنوعة وذميمة. هذه الدنيا وسيلة للسمو والتكامل، وينبغي أن لا تعد هدفاً. إذا لم تؤخذ هذه الأمور بنظر الاعتبار كانت الدنيا ذميمة.

كانت هذه البلية موجودة في العالم الإسلامي خلال الفترة التي حكمها أمير المؤمنين، بحيث أدت إلى التشكيك في حق صريح كالإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ومناقشته، وأن يتجاهل البعض مقامه، ودرجته المعنوية، وسابقته، وصلاحياته الفذة لإدارة المجتمع الإسلامي، والاتجاه نحو معارضته ومحاربته. كان هذا نتيجة طلب الدنيا. طلب الدنيا هو سر الانحراف الذي وجده الإمام أمير المؤمنين يومذاك أمامه ، ونهج البلاغة ملئ بالتعبير عن هذه الانحرافات. انظروا إلى العالم اليوم وستلاحظون نفس هذه الحالة. حين يمسك طلاب الدنيا والانتهازيون والمعتدون زمام الأمور على مستوى العالم فستكون الحصيلة ما تلاحظونه. أولاً ستظلم حقوق البشر، وثانياً سيتم تجاهل حقوق وأسهم الأفراد على هذه المائدة العظيمة الطبيعية الإلهية والمواهب الإلهية. وثالثاً سيخلق طلاب الدنيا الفتن في المجتمع كي يبلغوا مقاصدهم..الحروب، والدعايات الكاذبة، والألاعيب السياسية الخسيسة.. هذه ناتجة عن طلب الدنيا.

في مناخ الفتنة - مناخ الفتنة بمعنى المناخ الضبابي الغائم - وحين تتفشى الفتنة في المجتمع، تتبلبل أذهان الناس ويخيم عليها الغموض إلى درجة أن الإنسان لا يستطيع مشاهدة حتى ما لا يبعد عنه سوى مترين. يحدث مثل هذا الوضع الذي يقع فيه الكثيرون في الأخطاء ويفقدون بصيرتهم، وتنمو العصبيات الفارغة الجاهلية. طلاب الدنيا هم المحور في مثل تلك الأجواء، لكن البعض حتى ممن هم ليسوا من طلاب الدنيا سيسيرون باتجاه أهداف طلاب الدنيا بسبب الفتنة المستشرية.. هكذا سيكون وضع الدنيا. إذن "الدنيا رأس كل خطيئة". حب الدنيا والهيام بها يقف على رأس كل الخطايا والمعاصي. ينبّه أمير المؤمنين إلى هذه النقطة. هذا هو البرنامج التربوي الأخلاقي لأمير المؤمنين.

لو نظرتم في نهج البلاغة من أوله إلى آخره لوجدتم أن ما قاله أمير المؤمنين حول النهي عن حب الدنيا والرغبة فيها وحول الزهد فيها يفوق حجمه حجم كل ما قاله في نهج البلاغة. وهذا هو السبب. وإلا فالإمام علي لم يكن ممن يعتزل الدنيا. لا، كان من أنشط الناس لعمارة الدنيا.. سواء في زمن خلافته أو بعد ذلك. لم يكن أمير المؤمنين ممن لا يعملون ولا يكدّون. معروف انه حين كان يعيش في المدينة قبل خلافته أحيى حقولاً بيديه وأجرى عليها المياه وزرع النخيل. الخوض في شؤون الدنيا والطبيعة التي وضعها الله تحت تصرف الإنسان، وإدارة معيشة الناس وشؤونهم الاقتصادية، وتوفير أسباب الازدهار الاقتصادي كل هذه ممارسات إيجابية لازمة ومن واجبات الفرد المسلم والمدراء الإسلاميين. هكذا كان أمير المؤمنين، لكنه لم يكن هائماً في الدنيا أبداً. هذا هو وضع أمير المؤمنين وبرنامجه التربوي الأخلاقي.

وقد عرض عليه السلام علاج عبادة الدنيا في خطبة المتقين: "عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم". علاج حب الدنيا والميل إليها هو أن يسلك الإنسان طريق التقوى ، ومن خصائص التقوى أنها تعظم الخالق في نفس الإنسان فيكتسب الرب في نفس الإنسان مكانة تجعل كل الأشياء حقيرة في نظره ولا تحظى بأهمية في مقابل عظمة ذكر الله في قلب الإنسان. هذه من خصوصيات التقوى. وقد كان هو نفسه - أمير المؤمنين - المظهر التام لهذا المعنى. في خطبة "نوف البكالي" المعروفة التي سأذكرها لاحقاً فقرةً منها يقال إن الإمام وقف على صخرة وعليه ثوب بسيط صوفي قديم زهيد الثمن وفي قدميه نعلان من سعف النخيل أو ما شاكل. حاكم ذلك البلد الإسلامي العظيم ومديره كان له مثل هذا الوضع الفقير الزاهد.. هكذا كان يعيش ويلهج بهذه الكلمات العظيمة وجواهر الحكمة.

حينما جاء رجل في حرب صفين وسأله عن قضايا السقيفة أجابه بحدة: "يا أخا بني أسد إنك لقلق الوضين ترسل في غير سدد"(1).. لا تعرف مواضع الكلام، ولا تدري ما تقول ومتى تقول.. تأتي الآن في أثناء هذا الحدث العسكري السياسي الكبير تسأل عن الماضي وماذا كانت قضية السقيفة؟! لكنه في الوقت نفسه يجيبه باختصار شديد ويقول له كان السؤال من حقك وعليّ أن أجيبك: "فإنها كانت أثرة شحّت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين".. كانت ميلاً للامتيازات أي للسلطة والجاه والمناصب.. وطلب الدنيا بكل أشكاله وفي كل الأزمنة مدان ومرفوض في نظر أمير المؤمنين. هذه هي روح الإمام علي التي يريد تعليمها لنا وعلينا أن نتعلم هذا الدرس منه. ذكر الله والتوجه إليه ومناجاته أهم علاج يذكره الإمام علي لهذه الحالة.
 

2017-03-16