فلسفة البلاء وآثاره
تهذيب النفس
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ في كتاب علي عليه السلام: إنّ أشدّ الناس بلاء النبيّون، ثم الوصيّون، ثم الأمثل فالأمثل1. وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر أعماله الحسنة.
عدد الزوار: 1530
حديث عن البلاء
عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إنّ في كتاب علي عليه السلام: إنّ أشدّ الناس
بلاء النبيّون، ثم الوصيّون، ثم الأمثل فالأمثل1. وإنّما يُبتلى المؤمن على قدر
أعماله الحسنة. فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه، وذلك أنّ الله تعالى لم يجعل
الدنيا ثواباً لمؤمن، ولا عقوبة لكافر. ومن سخف2 دينه وضعف عقله قلّ بلاؤه، وإنّ
البلاء أسرع إلى المؤمن التقيّ من المطر إلى قرار3 الأرض"4.
معنى البلاء
البلاء هو الاختبار والامتحان في الحسن والقبح، كما صرّح بذلك أهل اللغة. يقول
الجوهري في الصحاح: "والبلاء الاختبار يكون بالخير والشر، يُقال أبلاه بلاءً حسناً
وابتلاه معروفاً، ويقول الحقّ تعالى: ﴿بَلاء حَسَن﴾".
على أيّة حال، إنّ كلّ ما يمتحن به الحقّ جلّ جلاله عباده، يُدعى بلاء أو ابتلاء،
سواء كان بالأمراض والأسقام، والفقر والذلّ، وإدبار الدنيا، وغيرها من قبيل هذه
الأمور أو كأن يختبرهم بكثرة الجاه والاقتدار، والمال والمنال، وبالزعامة والعزّة
والعظمة.
ومعنى امتحان الحقّ تعالى للناس واختبارهم، هو فصل الناس بعضهم عن البعض الآخر،
لمعرفة السعيد وتمييزه عن الشقيّ. وليس الهدف أن يعرف الحقّ تعالى من سيسعد ومن
سيشقى، أو من سيكتب له النجاح ومن سيسقط. لأنّ علم الحقّ تعالى أزليّ ومتعلّق بكلّ
شيء ومحيط به قبل إيجاده.
لماذا يبتلي الله تعالى الإنسان؟
كلّ عمل يصدر عن الإنسان، بل كلّ ما يقع منه في عالم الدنيا وكان مدركاً من قِبَل
النفس، يترك أثراً لدى هذه النفوس، من دون فرق بين الأعمال الحسنة أو السيئة. ومن
دون فرق بين أن يكون العمل من نوع الأفراح أو نوع الأتراح.
مثلاً: إنّ كلّ لذّة ممّا يتلذّذ الإنسان به من المطعومات أو المشروبات أو
المنكوحات أو غيرها، تترك أثراً في النفس، ويحصل تعلّق ومحبّة في عمق النفس تجاهه،
ويزداد توجّه النفس إليه.
وكلّما توغّل الإنسان في اللذائذ والمشتهيات أكثر، ازداد تعلّق النفس وحبّها لهذا
العالَم أكثر. وغدا ركونه واعتماده على هذا العالَم أكبر فتتربّى النفس وترتاض على
التعلّق بالدنيا.
وكلّما كانت المتع في ذائقته أحلى، كانت جذور محبّة الدنيا في قلبه أكثر. وكلّما
توفّرت وسائل العيش والعِشرة والراحة بشكل أوفى، أصبحت دوحة التعلّق بالدنيا أقوى.
وكلّما أقبلت النفس إلى الدنيا أكثر كلّما كانت غفلتها عن الحقّ وعالم الآخرة أكثر.
فإنّ نفس الإنسان إذا ركنت إلى الدنيا كلّياً وصار توجّهها مادّياً ودنيوياً،
انصرفت عن الحقّ المتعال ودار الكرامة نهائياً: ﴿أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾5.
فالانهماك في بحر اللذائذ والمشتهيات يصرف الإنسان إلى حبّ الدنيا من دون اختيار.
وحبّ الدنيا يوجب النفور من غيرها. والإقبال على عالم الملكوت6 يُسبّب الغفلة عن
عالم المُلك7، وكذلك العكس.
فلو استاء الإنسان من شيء وشعر ببشاعته، استدعت صورة ذلك الشيء الكراهية والنفور.
وكلّما كانت تلك الصورة في النفس أقوى، كان النفور والانزجار أكثر.
فمثلاً: إذا دخل شخص إلى بلد وابتُلي فيه بأسقام وآلام، وعانى من ورائه مشاكل
داخلية وخارجية، فإنّه سيكره هذا البلد وسينفر منه. وكلّما كانت معاناته أكثر كان
هروبه ونفوره منه أكثر، وإذا وجد مدينة أفضل فسيقبل عليها.
فالإنسان إذا عاش هموم الدنيا وآلامها وأسقامها ومشاكلها وعناءها، وشعر بأنّ أمواج
الفتن والمحن تزحف نحوه، نقصَ تعلّقه بها، وقلّ ركونه إليها، ونفر قلبه منها.
وإذا اعتقد بوجود عالم آخر، وفضاء رحب فارغ من جميع أنواع الشقاء والتعاسة، ارتحل
إليه. وإذا لم يتمكّن من السفر بجسمه لذهب بروحه وبعث بقلبه إلى ذلك العالَم. ومن
المعلوم، أنّ المفاسد الروحية والخلقية والسلوكية بأسرها تنجم عن حبّ الدنيا
والغفلة عن الله سبحانه وعالم الآخرة، وأنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة. في حين أنّ
الصلاح الروحيّ والخلقيّ والسلوكيّ، ينبعث من التوجّه نحو الحقّ، ودار الكرامة8،
ومن اللامبالاة بالدنيا وعدم الانبهار بزخارفها.
من فوائد وثمار البلاء
1- الإعراض عن الدنيا:
إذاً، علمنا من هذا التمهيد بأنّ لطف الحقّ تبارك وتعالى وعنايته كلّما شملت شخصاً
أكثر، ووسعته رحمة الذّات المقدّسة بصورة أوفى، أبعده سبحانه عن هذا العالَم
وزخارفه أكثر، ودفع به نحو أمواج المحن والفتن أكثر، حتى تنقلع رغبته بالدنيا،
فيوجّه وجهه حسب مستوى إيمانه إلى عالم الآخرة وترتبط روحه بذلك العالَم. وإن لم
يكن من جدوى في احتمال شدائد المحن إلا هذه الجهة، وهي الانزجار والإعراض عن الدنيا
والإقبال نحو الآخرة لوحدها لكفى.
وفي الحديث الشريف إشارة إلى هذا المعنى: عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "إنّ
الله تعالى ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية في الغيبة،
ويحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض"9.
ونقل هذا المعنى في حديث آخر. ولا يحسبنّ أحد أنّ محبّة الحقّ وشدّة عناية ذاته
الأقدس، لبعض عباده جزاف ومن دون جهة ـ والعياذ بالله ـ بل كلّ خطوة يخطوها مؤمن
وعبد من عباده، غمرته رحمة الحقّ المتعالي وأقبل على عبده قدر ذراع10.
إنّ مَثَلَ الإيمان وتوفير بواعث التوفيق، مَثَلُ إنسان قد حمل مصباحاً وسلك طريقاً
مظلماً فكلّما تقدّم خطوة، أضاء أمامه واهتدى للخطوة اللاحقة. فكلّما رفع الإنسان
قدماً نحو عالم الآخرة، اتّضح السبيل أكثر، وغمرته عنايات الحقّ بصورة أكبر،
وتوفّرت عوامل التوجّه إلى عالم القرب ـ الآخرة ـ والانزعاج عن عالم البعد ـ
الدنياـ والعنايات الأزلية للحقّ المتعالي إنّما تسع الأنبياء والأولياء لعلمه ـ
سبحانه ـ الأزليّ بطاعتهم أيّام التكليف. كما أنّكم لو علمتم أيام طفولة ولديكم
بأنّ أحدهما سيُطيعكم ويسعى في تأمين رضاكم وثانيهما يبعث على سخطكم وامتعاضكم، فمن
المعلوم أنّ ألطافكم ستشمل المطيع أكثر من الثاني منذ الأيّام الأولى.
2- الإكثار من ذكر الله والانقطاع إليه:
ومن فوائد شدّة ابتلاء الخواصّ من العباد، أنّ هؤلاء من خلال المحن والمعاناة،
يذكرون الحقّ ويناجونه ويتضرّعون على أعتابه المقدّسة، في ساحة ذاته الأقدس،
ويعيشون مع ذكره وفكره. ومن الطبيعيّ أنّ نوع بني الإنسان يتشبّث حين الشدّة بكلّ
ما يرجو فيه النجاة، وعند الرخاء والراحة يغفل عنه. ولّما كان الخواصّ من العباد،
لا يعرفون ملجأً إلاّ الحقّ، توجّهوا نحوه، وانقطعوا إلى مقامه المقدّس، وإنّ الحقّ
المتعال يوفّر لهم سبب الانقطاع إليه من خلال عنايته الخاصة بهم.
ولا تُستساغ هذه الفائدة ـ من الابتلاء ـ وحتّى الفائدة السابقة، لدى الأنبياء
والأولياء الكُمَّلين، لتنزّه مقامهم الشامخ عن ذلك، وعدم انعطاف قلوبهم تجاه
الدنيا، ولا تتبدّل في الانقطاع إلى الحقّ من جرّاء تغيّر الأحوال. ويُمكن أن يكون
إيثار الأنبياء والأولياء للفقر على الغنى، والابتلاء على الراحة، والمعاناة على
غيرها نتيجة أنّهم وقفوا من خلال النور الباطنيّ والمكاشفات الروحانية على أنّ
الحقّ المتعالي لا ينظر بعين اللطف إلى هذا العالَم ولا إلى زخارفه، ولا يكون
للدنيا وما فيها موقع أمام ساحته المقدّسة إلّا الذلّ والهوان.
والأحاديث الشريفة شاهدة على ذلك11. ففي الحديث أنّ جبرائيل قد نزل على رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ومعه مفاتيح خزائن الأرض وقال لو اخترتها لما هبط من
درجاتك الأخروية شيء أبداً. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتنع عن
القبول تواضعاً للحقّ سبحانه، فاختار الفقر12. وفي الكافي الشريف في حديث بسنده عن
الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ الكَافِرَ لَيَهُونُ عَلَى اللهِ لَوْ سَأَلَهُ
الدُّنْيَا بِمَا فيها أَعْطَاهُ ذلِكَ"13، وذلك من جرّاء هوان الدنيا في عين الحقّ
الكبير المتعالي. وفي حديث إنّ الحقّ جلّ وعلا منذ أن خلق العالم المادّي لم ينظر
إليه نظرة لطف وعناية.
3- المقام المحمود عند الله:
ومن فوائد شدّة ابتلاء المؤمنين حسب ما أُشير إليه في الأخبار، أنّ لهم درجات لا
ينالونها إلاّ من وراء المصائب والأسقام والآلام. ويُحتمل أن تكون هذه الفوائد صورة
ـ غيبية ـ للإعراض عن الدنيا والإقبال على الحقّ المتعالي.
ويُمكن أن تكون صورة ملكوتية لهذه المحن حيث لا تبلغ إلاّ بعد حصولها ـ البليّات ـ
في عالم المُلك وابتلاء الإنسان بها، كما ورد في الحديث الشريف المأثور في الكافي
بسنده إلى الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّهُ لَيَكُونُ لِلْعَبْدِ
مَنْزِلَةٌ عِنْدَ اللهِ فَمَا يَنالُها إلاّ بِإِحْدَى الخَصْلَتَيْنِ إمّا
بِذَهابِ مالٍ أوْ بِبَلِيَّةٍ في جَسَدِهِ"14.
وفي رواية شهادة الإمام أبي عبد الله الحسين عليه السلام أنّه رأى جدّه رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وأخبره بـ "إنَّ لَكَ دَرَجَةً فِي الجَنَّةِ
لاَ تَنَالُهَا إلاّ بِالشَّهَادَةِ"15.
ومن المعلوم أنّ الصورة الملكوتية للشهادة في سبيل الله لم تحصل إلاّ بعد وقوع
الشهادة في عالَم الملك ـ عالمنا الحاضر ـ كما برهن على ذلك في العلوم العالية.
وورد في الأخبار المذكورة أنّ لكلّ عمل في هذا العالَم صورة في عالَم آخر16. وفي
الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إِنَّ عَظيمَ الأَجْرِ لَمَعَ عَظيمِ
البلاءِ وَما أحَبَّ اللهُ قَوْماً إلاّ ابْتَلاهُمْ"17.
* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الأمثل: بمعنى أفضل وأشرف.
2- سخف: ضعف العقل وخفته.
3- قرار: المستقر والمكان.
4- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 259.
5- سورة الأعراف، الآية 176.
6- عالم الملك: عالم الظاهر والماديات.
7- عالم الملكوت: عالم الغيب والمعنويات.
8- دار الكرامة: عالم الآخرة.
9- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 255.
10- ورد في الحديث القدسي "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" العلّامة
المجلسي، بحار الأنوار, ج3، ص313 "كتاب التوحيد" الباب 14. المتقي الهندي، كنز
العمال ج1, ص225 الحديث 135.
11- نهج البلاغة, خطاب الإمام علي عليه السلام الخطبة 192 ص285 " الخطبة القاصعة
"الشيخ صبحي الصالح".
12- إشارة للحديث "وهبط مع جبريل ملك لم يطأ الأرض قط, معه مفاتيخ خزائن الأرض
فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول هذه مفاتيح خزائن الأرض, فإن شئت فكن
نبياً عبداً وان شئت فكن نبياً ملكاً, فأشار إليه جبرئيل عليه السلام أن تواضع يا
محمدفقال: بل اكون نبياً عبداً ثمّ صعد إلى السماء" آمالي الصدوق, المجلس 69 الحديث
3.
13- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص259.
14- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 257.
15- العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص 313.
16- كما ورد في حديث "المعراج" عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم قال: "فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيب ولحم خبيث, وهم
يأكلون
الخبيث ويدعون الطيب, فسألت جبرئيل من هؤلاء فقال: الذين يأكلون الحرام ويدعون
الحلال منأمتك, قال: ثم مررت بأقوام لهم مشافر كمشافر الابل يقرض اللحم من اجسامهم
ويُلقى في أفواههم, فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هم الهمازون اللمازون، ثم مررت
بأقوام ترضخ وجوههم وصخورهم بالصخر, فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: الذينيتركون
صلاة العشاء.
العلّامة المجلسي، بحار الأنوار , ج6، ص239 "كتاب العدل والمعاد, باب احوال البرزخ
والقبر وعذابه وسؤاله". وكذلك جاء في علم اليقين ج3 ص884 "المقصد الرابع" الباب 3.
17- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 252.