يتم التحميل...

مكانة جهاد النفس في الإسلام

تهذيب النفس

لو خُلّي الإنسان ونفسه، دون أن يكبح جماح هذه النفس، فإنّه سوف يُصبح أكثر افتراساً من الحيوانات. وما نُشاهده من جرائم ومجازر تُرتَكب بحقّ البشريّة

عدد الزوار: 264

التربية طريق الكمال
لو خُلّي الإنسان ونفسه، دون أن يكبح جماح هذه النفس، فإنّه سوف يُصبح أكثر افتراساً من الحيوانات. وما نُشاهده من جرائم ومجازر تُرتَكب بحقّ البشريّة من قِبل قِوىً عظمى تدّعي تحلّيها بالتربية، هو خير دليل على ذلك؛ فالحيوان المفترس يُطارد الفريسة، فإذا نال منها ما يُشبع جوعه، توقّفت عنده حالة الافتراس والهيمنة تجاه حيوان آخر، أمّا جرائم هذه الحكومات فإنّه لا حدّ لها ولا نهاية.

ولو أُعطي الإنسان دولةً كاملةً، فإنّ أهواءه النفسيّة غير المحدودة سوف تدفعه للتطلّع إلى دولة أخرى يبسط عليها نفوذه وهيمنته، فتطلّعاته لا حدّ لها، ويسعى دائماً نحو السيطرة والنفوذ. وإن تُرِك دون رادع، فإنّ آماله تكون في الشهوات اللامتناهية، وفي الغضب اللامحدود، وفي نوازع الهيمنة التي لا تنتهي...

مهما بلغ عِظم السيطرة ومكان نفوذها، يبقى الطمع حاكماً على النفوس البشريّة، فلو سيطر الإنسان على منظومة شمسيّة كاملة، فإنّه سيسعى لمنظومة أخرى، ولو سيطر على كوكبٍ ما، فإنّه سيتطلّع إلى كوكبٍ آخر. لقد خُلِق الإنسان على هذه الشاكلة، لا حدّ لغضبه، ولا لشهوته، ولا لأنانيّته!

فقط هي التربية التي تسدّ هذا النهم والجشع، فمن خلالها يصل الإنسان إلى الغاية التي يُريدها من الأشياء، من خلالها يصل إلى الكمال المطلق، الذي يبعث الطمأنينة في نفسه، فتهدأ. ولا سبيل إلى هذه الطمأنينة، طمأنينة القلوب، إلّا في الوصول إلى الله.

النفس دائماً تتطلّع إلى الكمال المطلق، والخطأ يقع في تشخيص هذا الكمال، فهناك من يرى أنّ الكمال في العلم، فيقتفي أثره؛ وآخر يراه في السلطة، فيلهث خلفها... فكلّ الساعين في الدنيا، إنّما يطلبون الكمال المطلق، وهو الله تبارك وتعالى، ولكن دون أن يلتفتوا.

فطمأنينة القلوب هي في الوصول إلى الله. وبغيره لا تهدأ القلوب مطلقاً. إنّ هذه النفس تتطلّع إلى الكمال المطلق، فيتيهون عن الكمال في نهاية المطاف. إنّ نفس الإنسان تُريد الوصول إلى الكمال المطلق. والخطأ يقع في تشخيص ما إذا كان هذا أو ذاك هو الكمال. يرى أحدهم الكمال في العلم فيقتفي أثر العلم. ويرى آخر الكمال في السلطة فيلهث خلفها. وكلّ هؤلاء الساعين في الدنيا إنّما يطلبون الكمال المطلق, وبعبارة أخرى الجميع يسعون للقاء الله، ولكنّهم غير ملتفتين1.

الأنبياء أرباب التربية والتعليم
العالم مدرسة، معلّموها الأنبياء والأوصياء، والله معلّمهم ومربّيهم؛ فقد اصطفاهم الله وعلّمهم وربّاهم لهذا الهدف، ألا وهو تربية الناس كافة وتعليمهم. فبعد أن تربُّوا وتعلَّموا الأحكام الإلهية أُمِروا بتربية البشر وتعليمهم.

جاء في القرآن الكريم، متحدّثاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ2، فالدافع الأساس من وراء البعث في هذه الآية هو التربية والتعليم، فالله تعالى أرسله واجتباه من بين هؤلاء الأمّيين والجهلة، والذين لا عهد لهم بالتربية والتعليم الإلهيين، حتّى يتلو آياته عليهم، ومن خلال ذلك، وبالتربية التي تلقّاها الرسول من الله تبارك وتعالى، يقوم بتربيتهم ويُزكّيهم ويُعلّمهم الكتاب والحكمة.

وفي الآية نكات كثيرة حول أهمّية التربية والتعليم والتعلّم, ففي قوله ﴿هُوَ الَّذِي دلالة واضحة على مدى أهمّية هذا الأمر وعظمته، حيث نسبه إلى نفسه ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ رسولاً من بين الناس، وهم أمّيون، أمّيون رغم معرفتهم ظاهراً ببعض العلوم والصناعات، ولكنّ العالم أجمع أمّي في قِبال تلك التربية الإلهيّة، التي تتحقّق لهم على أيدي الأنبياء عليهم السلام3.

طريق الكمال
إنّ الطريق الوحيد للتربية والتعليم، هو الطريق الذي بيّنه الحقّ فقط وأوحى به، وهو التهذيب المقترن بالتربية الإلهيّة، والتي يُربّي الأنبياء الناس عليها. فهذا العلم الذي عرضه الأنبياء على البشر، هو وحده طريق الإنسان إلى الكمال المنشود، كما تُبيّن ذلك الآية القرآنية الكريمة: ﴿اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ4.

فالناس قسمان، قسم تربّى على أيدي الأنبياء، فخرجوا من ظلماتهم وغيّهم ومشاكلهم، ودخلوا إلى النور والكمال المطلق، والآخر أولياؤهم الطاغوت. فالآية تضع ميزاناً وملاكاً للإيمان، وتُفصّل بين مدّعي الإيمان وبين المؤمنين، فالمؤمن هو الذي خرج من الظلمات إلى النور، ومن جميع النقائص، وتجاوز جميع الموانع التي تقف في طريق الإنسان، ولا يكون ذلك إلّا بالتربية الإلهيّة، التي يتلقّاها من الأنبياء الذين ربّاهم الله، فهذا هو المؤمن.

أمّا مدّعو الإيمان، وهم كثيرون في قِبال المؤمنين، فوليّهم الطاغوت، يُخرجهم من النور ويوصلهم إلى الظلمات. فالمؤمن الحقيقيّ معلّمه ووليّه الله، وذلك عبر الواسطة، وهي الأنبياء؛ فالله خصّهم بتربيته، فإذا ما تربّينا على أيديهم، ونهلنا من معينهم وعلومهم، وعملنا بتعاليمهم، فإنّا سنسلك الصراط المستقيم، ونهتدي إلى النور، نهتدي إلى الله، الذي هو النور والكمال المطلق5.

هدف الأنبياء صناعة الإنسان وتهذيبه
إنّ البعثة هي بعثة إلهيّة، ودافعها هو هداية جميع الخلق؛ فعلينا التوجّه إلى هذه الغاية، والتنبّه إلى الدافع وراءها، والذي بيّنه الله بقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ6، وعلينا الالتفات إلى عواقب مخالفة هذا الدافع.

إنّ الدافع وراء البعثة هو تزكية النفوس، وهذه التزكية إنّما تكون بانتفاء الأنانيّة، وانتهاء الإنّيّة ولحاظ النفس، والقضاء على طلب الرئاسة، وزوال حبّ الدنيا، ليحلّ الله تبارك وتعالى وحبّه مكان الجميع. إنّ الغاية من البعثة هي أن تحكم حكومة الله في قلوب البشر حتّى تحكم بالتّالي في المجتمعات البشريّة.

ما من موجود يفتن ويعيث فساداً بقدر ما يفعل هذا الإنسان، هذا الحيوان ذو القدمين. وما من حيوان يحتاج إلى التربية بمقدار ما يحتاج إليها. والأنبياء بأسرهم، من آدم عليه السلام حتّى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، جاؤوا لتبديل هذا الحيوان إلى إنسان، هذا هو غرضهم، وهذا هو الهدف. جميع الكتب السماويّة، وأعظمها القرآن، أُنزلت لهذه الغاية، وهي إنقاذ هذا الإنسان الذي وقع في الظلمات، وغرق في بحر الدنيا، الإنسان الأنانيّ الذي لا يهمّه سوى نفسه وملذّاتها، ولا يرى سواه موجوداً. إنّهم الأنبياء يريدون نجاة هذا الإنسان من الظلمات، وإيصاله إلى النور.

لا يتصوّرنّ أحدٌ أنّ الذي كان يمتلك نفساً فرعونيّة هو شخص واحد، أو عدّة أشخاص، بل إنّ في باطن كلّ إنسان نفساً فرعونية، ما لم يخضع للتربية الإسلاميّة، أو تربية المدارس التوحيديّة. وهذه النفس بدون التربية سوف تبقى في باطنه، مضافاً إلى الشيطنة والأنانيّة.

إنّ شرط تلبية الدعوة الإلهية إلى الضيافة هو انسلاخ هذه القلوب عن الدنيا. وهذا ما اهتمّ به أولياء الله، تهذيب النفس وانتزاع القلب ممّا سوى الله، والتوجّه الخالص إليه سبحانه. فكلّ المفاسد في العالم هي وليدة التوجّه إلى النفس في قِبال التوجّه إلى الله. وإنّ كلّ الكمالات التي تحقّقت للأنبياء والأولياء إنّما كانت نتيجة انسلاخ قلوبهم عمّا سواه تعالى، والارتباط به، وتتجلّى علامات هذه الأمور في أعمالنا وسلوكنا7.

قوى النفس لا حدود لها
لو فكّرنا بصورة صحيحة، ولاحظنا أحوال الإنسان، نجد أنّه مهما كان قويّاً، ومهما حقّق من آماله وأمانيه، فإنّه لا يحصل حتّى على واحد من ألف من هذه الآمال. بل إنّ تحقّقها بشكل كامل هو أمر مستحيل في هذا العالَم؛ فإنّ هذا العالَم هو دار التزاحم، وإنّ موادّه تتمرّد على الإرادة، كما إنّ ميولنا وأمنياتنا لا يحدّها حدّ، مثلاً، إنّ القوّة الشهوية في الإنسان تدفعه إلى التوجّه نحو النساء حتّى ولو كانت بيده نساء مدينة كاملة، وإذا أصبحت بلاد بأكملها من نصيبه لسعى نحو بلاد أخرى، ودائماً تراه يطلب ما لا يملك، فمِرجَلُ الشهوة يبقى مشتعلاً، ولا يصل الإنسان إلى أمنيته.

وكذا الأمر بالنسبة إلى القوّة الغضبيّة، فإنّها قد خُلقت في الإنسان بصورة لو أنّه أصبح يملك الرقاب بشكل مطلق في مملكة ما، لذهب إلى مملكة أخرى لم يسيطر عليها بعد، بل إنّ كلّ ما يحصل عليه يزيد من هذه القوّة فيه.

وعلى كلّ منكر لهذه الحقيقة، أن يراجع حاله وحال أهل هذا العالَم، كالسلاطين وأصحاب المال والقوّة والجاه، وحينها سيرى صدق هذا الكلام.

إذاً، فالإنسان عاشق لما لا يملك، ولما ليس في يده، وهذه الفطرة أثبتها المشايخ العظام وحكماء الإسلام الكبار، وأثبتوا فيها الكثير من المعارف الإلهية.

مدّة الاستفادة من القوى الجسمانيّة
لو فرضنا أنّ هذا الإنسان قد وصل إلى أهدافه، وحقّق آماله وأمانيه، فكم يدوم استمتاعه بها واستفادته منها؟ وإلى متى تبقى قوى شبابه؟

عندما ينقضي ربيع العمر، ويأتي خريفه، تبدأ القوّة بالتلاشي من الأعضاء، فتتدنّى حاسّة الذوق، ويضعف البصر والسمع، وكذا حاسّة اللمس وباقي الحواسّ، وتُصبح اللذّات ناقصة بشكل عام، وبعضها يفنى، وتهجم الأمراض المختلفة، فلا تستطيع أجهزة الهضم والجذب والدفع والتنفّس تأدية عملها بشكل سليم وصحيح، ولا يبقى للإنسان سوى أنّات التأوّه الباردة، والقلب المملوء بالألم والحسرة والندم.

فمدّة استفادة الإنسان من هذه القوى الجسمانيّة، لا تتجاوز الثلاثين أو الأربعين عاماً بالنسبة إلى أقوياء البنية والسالمين، وهي فترة ما بعد فهم الإنسان، وتمييزه الحسن من القبيح، إلى زمن تعطيل القوى أو نقصانها، هذا إن لم يصطدم بالأمراض والمشاكل الأخرى التي نراها يوميّاً، ونحن عنها غافلون.

وهنا، أفترض صورة خياليّة، أفترض عمراً معيّناً، مئة وخمسين عاماً مثلاً مع توافر جميع أسباب الشهوة والغضب والشيطنة، بحيث لا يعترض هذا الإنسان شيء غير مرغوب به، ولا يحدث ما يخالف هدفه، مع هذه الفرضيّة، ماذا ستكون عاقبته بعد انقضاء هذه المدّة القصيرة، والتي تمرّ مرّ الرياح؟!

فماذا ادّخرتم من تلك اللذّات لحياتكم الدائمة؟ ليوم عجزكم وفقركم ووحدتكم؟ لأجل برزخكم وقيامتكم؟ لأجل لقائكم بملائكة الله وأوليائه وأنبيائه؟ هل ادّخرتم سوى الأعمال القبيحة المنكرة؟، والتي ستقدّم لكم صورها في البرزخ والقيامة، وهي الصورة التي لا يعلم حقيقتها إلا الله تبارك وتعالى؟

ينبغي المسارعة لتهذيب النفس
إنّ الوهم والغضب والشهوة، من الممكن أن تكون من الجنود الرحمانيّة، وأن تؤدّي إلى سعادة الإنسان وتوفيقه، إذا سلّمتها للعقل السليم والأنبياء العظام. ومن الممكن أن تكون من الجنود الشيطانيّة إذا تركتها وشأنها، وأطلقت العنان للوهم كي يتحكّم في القوّتين الأخريين، الغضب والشهوة.

ولم يقل أحد من الأنبياء العظام عليهم السلام برفض الشهوة والغضب والوهم بصورة مطلقة، ولا يوجد داعٍ إلى الله يقول بأنّ الشهوة يُمكن أن تُقتل بصورة عامّة، وأن تخمد نار أوار الغضب بصورة كاملة، وأن يُترك تدبير الوهم. بل قالوا بوجوب السيطرة والتحكّم بها كي تؤدّي واجبها في ظلّ ميزان العقل والدستور الإلهيّ, لأنّ كلّ واحدة من هذه القوى تُريد أن تُنجز عملها وتنال غايتها، ولو استلزم ذلك الفساد والفوضى.

فمثلاً، النفس البهيميّة المنغمسة في الشهوة الجامحة التي مزّقت عنان هذه النفس، تريد أن تُحقّق هدفها ومقصودها، ولو تمّ ذلك من خلال الزنا بالمحصنات، وفي الكعبة، والعياذ بالله!

والنفس الغضوب، تُريد أن تُنجز ما تُريد حتى لو استلزم ذلك قتل الأنبياء والأولياء!

والنفس ذات الوهم الشيطانيّ تُريد أن تؤدّي عملها، ولو استلزم ذلك فساد الأرض بما فيها.

لقد جاء الأنبياء وأتوا بقوانين وكتب سماويّة، من أجل الحيلولة دون الإطلاق والإفراط في الطبائع، ومن أجل إخضاع النفس الإنسانيّة لقانون العقل والشرع، وترويضها وتأديبها. فإن كيّفت النفس ملكاتها وفق القوانين الإلهيّة والمعايير العقليّة، فهي سعيدة آمنة، ومن أهل النجاة، وإلا فليستعذ الإنسان بالله من ذلك الشقاء وسوء التوفيق، ومن الظلمات والشدائد المقبلة، ومنها تلك الصور المرعبة والمذهلة التي تُصاحب الإنسان في البرزخ والقيامة وجهنّم، والتي كانت نتيجة الملكات والأخلاق الفاسدة التي لازمته.

* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.


1- صحيفة الإمام، ج12، ص504.
2- سورة الجمعة، الآية 2.
3- صحيفة الإمام، ج13، ص503.
4- سورة البقرة، الآية 257.
5- صحيفة الإمام، ج13، ص503.
6- سورة آل عمران، الآية 164.
7- صحيفة الإمام، ج17، ص493.
8- صحيفة الإمام، ج17، ص493.

2017-03-01