هل من العدل إخلاد المعاندين في النار؟
فكر الشهيد مطهري
إنّنا نتناول هنا الاعتراض المثار تجاه العدل الإلهي فيما يرتبط بكيفية أنواع الجزاء والعقوبات الأخروية، إذ يقال إنّ هذه العقوبات تناقض العدل الإلهي بسبب عدم تناسبها مع طبيعة الجرائم،
عدد الزوار: 262
جزاء الأعمال1
إنّنا نتناول هنا الاعتراض المثار تجاه العدل الإلهي فيما يرتبط بكيفية أنواع
الجزاء والعقوبات الأخروية، إذ يقال إنّ هذه العقوبات تناقض العدل الإلهي بسبب عدم
تناسبها مع طبيعة الجرائم، ولذلك لا تكون العقوبة عادلة. والأساس الذي يستند إليه
هذا الاعتراض هو القول بلزوم رعاية التّناسب بين الجريمة والعقاب، في وضع القوانين
الجزائية، مثلًا فرض عقوبة على من يلقي القمامة في الشّارع، ولكن هذه العقوبة لا
ينبغي أن تكون شديدة كالإعدام أو السّجن المؤبّد، وهذا من الواضحات، ويكفي لمثل هذه
المخالفة فرض عقوبة بسيطة مثل السّجن لمدّة أسبوع، أمّا إذا حوكم من ألقى القمامة
بالشّارع في محكمة ميدانيّة وأُعدم رميًا بالرّصاص، فإنّ هذه المحاكمة ستكون ظالمة.
إذاً، مقتضى العدل أن تفرض عقوبات على الجرائم ولكن شريطة أن تكون متناسبة لها،
وإلا كانت نوعاً من الظلم. والذنوب - مثل الغيبة، الكذب، الزّنا، والقتل- هي جرائم
ولا ريب، ويجب فرض عقوبات عليها ولكن أليست العقوبات الأخروية المحدّدة لها تتجاوز
الحدود المناسبة لتلك الذنوب؟ لقد حدّد القرآن أنّ عقوبة قتل النّفس الخلود في
النّار، كما رُوي بشأن الغيبة: "إيّاكم والغيبة فإنّها إدام كلاب النّار"2، كما
ذُكرت عقوبات مماثلة للذّنوب الأخرى، وهي عقوبات شديدة للغاية ولا تطاق، هذا في
كيفيّتها، أما فيما يرتبط بمددها فهي طويلة جدًّا. فكيف ينسجم هذا التّباين الكبير
بين الذّنب وعقوبته مع القول بالعدل الإلهيّ؟
لهذا من أجل الإجابة عن الاعتراض، لابدّ من التّعرّف إلى طبيعة الحياة الأخرويّة،
لكي نتعرّف من خلال ذلك إلى الفروق بين نظامي الحياة في عالمي الدّنيا والآخرة.
التّمايز بين عالمي الدنيا والآخرة3
هل إنّ القوانين الطّبيعيّة والأصول والنّواميس التي تحكم عالم الآخرة هي نفسها
التي تحكم عالم الدّنيا؟ وهل يوجد فرق أو فروق بين الحياة في هذين العالمين؟ وهل
إنّ النّشأة الآخرة لا تختلف عن النّشأة الدّنيا سوى في كونها تأتي بعدها زمنيًّا؟
لا ريب في وجود عدّة فروق بين هذين العالمين، رغم وجود مجموعة من أوجه التّشابه
بينهما، فهما نشأتان وعالمان متمايزان ونوعان مختلفان من أنماط الحياة، ولكلّ منهما
قوانينه الخاصّة به والتي تختلف عن قوانين العالم الآخر.
يمكن تشبيه الدّنيا والآخرة بعالمي حياة الطّفل في رحم أمّه وما بعد ذلك، وفي هذا
التّشبيه بعض المسامحة، ولكنّنا نلجّأ إليه لتقريب الأمر إلى الأذهان. لا يخفى أنّ
للطّفل نوعًا من الحياة وهو في رحم أمّه، ونوعًا آخر من الحياة بعد ولادته، وبين
النّوعين وجه مشترك هو توفّر التّغذية للطّفل فيهما، ولكن بطريقة خاصّة في كلٍّ
منهما، فهو يتغذّى في رحم أمّه بواسطة حبل المشيمة في طريقةٍ تشبه تغذية النّباتات
بواسطة عروق جذورها، ويعيش مثلها معتمدًا على دم الأم الذي يصله عبر حبل المشيمة،
دون أن يستفيد من رئتيه للتنفّس ولا من معدته لهضم الطّعام. لكن - وبمجرّد خروجه من
الرّحم - يتغيّر نظامه الحياتيّ ويدخل في نشأة أخرى يحكمها نظامٌ آخر، فيتغيّر
بالتّالي عالمه وبصورةٍ تجعله عاجزًا عن الاستمرار في الحياة لحظة واحدة طبق نظامه
الحياتيّ السّابق وهو رحم أمّه، فيجب عليه أن يتنفّس برئتيه ويتناول طعامه عبر فمه،
في حين أنّ دخول الهواء رئتيه ودخول الطّعام معدته وهو في رحم أمّه كان سيؤدّي إلى
موته، على العكس تمامًا ممّا هو عليه حاله بعد خروجه من الرّحم، أي إنّ عدم دخول
الهواء رئتيه للحظات وعدم دخول الطّعام إلى معدته لساعات يؤدّيان إلى موته، ولا
يمكن لأحد أن يحفظ حياة الطّفل بعد ولادته بأسلوب معيشته في الرّحم، كأن يضعه في
محفظةٍ ويوصل أنبوبًا بسرّته يضخّ إليه الدّم عبره ويسدّ في المقابل فمه ومجراه
التّنفّسيّ، والسّبب هو أنّ نظام حياة الطّفل قد تغيّر بصورة توجب الاستفادة من
النّظام الجديد.
وهكذا هو حال عالم الآخرة مقارنةً بعالم الدّنيا، فنمط الحياة الأخروية يختلف عن
الحياة في عالم الدنيا، فالحياة موجودة في كلا العالمين، ولكن ليست بكيفية واحدة،
بل لها في كلّ منهما قوانينها وأحكامها الخاصّة، لهذا يجب الرّجوع إلى النّصوص
الدّينيّة الواردة بهذا الشّأن لمعرفة الفروق بينهما، وها نحن نبيّن عددًا منها
هنا:
1- الثّبات والتغير
توجد في هذا العالم حركة وتغيير، فالطّفل يصبح شابًّا ويتكامل نموّه، ثمّ يشيخ، ثمّ
يموت، كما أنّ الأشياء الجديدة تبلى هنا، والأشياء القديمة تتفسّخ وتزول. أمّا عالم
الآخرة فلا وجود للشّيخوخة والموت والبلى فيه، فهو عالم البقاء والخلود والثّبات
والقرار، أمّا الدّنيا فهي دار الفناء والزّوال.
2- خلوص الحياة وعدم خلوصها
وهذا هو الفارق الثّاني، فالموت ممتزجٌ بالحياة في عالم الدّنيا. أمّا الأمر في
الآخرة فالحال مختلفٌ بالكامل فهي حياة كلّها، بل حتّى ناره تكون مدركة وفعّالة،
يقول تعالى:
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ﴾4. الآخرة موجودٌ
حيٌّ بالكامل، فالأبدان وأعضاؤها فاقدةٌ للفهم والإدراك هنا، لكنّها هناك تحظى
بالفهم والنّطق:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا
أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾5، أي إنّ السّؤال
في الحساب لن يوجّه إلى اللسان لكي يغطّي على جناباته بالكذبّ، كلّا، بل إنّ كل عضو
ينطق ويبيّن ما فعله، والقرآن الكريم ينقل في آيةٍ أخرى:
﴿قَالُوا لِجُلُودِهِمْ
لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ
شَيْءٍ﴾6. إذاً، فحياة عالم الآخرة خالصةً لا يخالطها موت ولا أثر فيه لعنصر البلى
والتّفسّخ والموت والفناء، لأنّ الحاكم فيه هو قانون الخلود.
3- موسما الزراعة والحصاد
الفرق الثّالث بين الدّنيا والآخرة هو أنّ الأولى هي محلّ الزّراعة وبذر البذور،
والثّانية دار الانتفاع من المحصولات وحصدها، فليس فيها عمل ولا تمهيد. لذلك فإنّ
دعوات الأنبياء عليهم السلام تتمحور حول مبادرة النّاس للعمل الصّالح هنا، وإعداد
مقوّمات حياتهم في الدّار الآخرة. يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فإنّ اليوم
عملٌ ولا حساب، وإن ّغدًا حسابٌ ولا عمل"7، "عباد الله، الآن فاعملوا والألسن
مُطلقَةٌ والأبدان صحيحة، والأعضاء لَدْنَةٌ والمُنقلَبُ فسيحٌ"8. وفحوى هذا الخطاب
هو: أنّ البدن وسيلة تحرّكك وعملك، فبادر للاستفادة منه قبل أن يُنتزع منك، واعمل
العمل الذي ينفعك لاحقًا، فإذا انقضت فرصة العمر، ونزعت روحك عن البدن بأمر الله
القادر، حينئذٍ لن ينفعك صراخك ومهما صرخت:
﴿ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ
صَالِحً﴾9، فالجواب الذي ستسمعه هو
﴿كَلَّ﴾10، لأنّ هذا الأمر غير ممكن مثلما أنّ
من غير الممكن إعادة وصل الثّمرة غير النّاضجة بشجرتها بعد قطعها منها، فلا يمكن أن
تنضج هذه الثّمرة بعد أن تنفصل عن شجرتها قبل نضوجها، وهذا هو قانون الخلق. وما
أجمل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "الدّنيا مزرعة الآخرة"11، فهو يشبه
مجموع الدّورة الوجوديّة للإنسان بدورة سنة زراعيّة، تكون فيها الدّنيا بمثابة فصل
الزّراعة وبذر البذور، فيما تمثّل الآخرة فصل الحصاد وجني الثّمار والمحاصيل.
4- وحدة المصير واستقلاليته
الفرق الرّابع الذي نجده بين الدّنيا والآخرة هو أنّ مصائر النّاس مشتركة في
الدّنيا بدرجةٍ معيّنة، أمّا في الآخرة فلكلٍّ مصيره الخاصّ به، لأنّ الحياة في
الدّنيا اجتماعيّة يحكمها التّرابط والوحدة، فأعمال المحسنين الصّالحة تؤثّر في
إيجاد السّعادة للآخرين، كما أنّ أعمال المسيئين تضرّ المجتمع برمّته، ولذلك توجد
مسؤوليّات اجتماعيّة مشتركة بين جميع أفراده، فهم كأعضاء الجسد الواحد، فإذا أصيب
أحدها تركت إصابته آثارها على الأعضاء الأخرى، كما إذا اختلّ عمل الكبد أضرّ
بالأعضاء الأخرى. من هنا يجب عليهم نهي من يرتكب الذّنب وصدّه عنه، يُروى أنّ رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ضرب مثلًا لبيان تأثير معصية الفرد على المجتمع، وهو:
أنّ جماعة ركبوا سفينة جرت بهم في البحر، فكان أحد المسافرين يثقب السّفينة في
المكان الذي جلس فيه، فلم يتعرّض إليه أحد بحجّة أنّه إنّما يخرق المكان الخاصّ به!
ولكنّ الثّقب الذي أحدثه أدّى إلى غرق السّفينة! ولكن لو كان باقي المسافرين ردعوا
هذا المسافر عن فعله لخلّصوه وخلّصوا أنفسهم من الموت، لكنّهم لم ينهوه عن ذلك
فأدّى فعل إلى غرقه هو وغرقهم.
في عالم الدّنيا يحترق الأخضر واليابس أو يأمنان معًا من الاحتراق، وفي المجتمع
الذي يضمّ الصّالحين والمنحرفين، ينتفع المنحرفون من الأعمال الصّالحة للمحسنين،
كما أنّ الأبرياء يتضرّرون من فساد المنحرفين، وهذا ما لا تجده في عالم الآخرة، فلا
ينتفع أحد من ثمار صالحات أعمال غيره، ولا يتضرّر أحد من العذاب الذي ينزل
بالمسيئين،
﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ﴾12، يفصل بين الخير والشرّ، وبين الأبرار
والأشرار، ويتوجّه فيه الخطاب للعاصين،
﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا
الْمُجْرِمُونَ﴾13، بل ويُفصل بين الابن وأبيه، يتلقّى كلّ فرد جزاء أعماله:
﴿وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾14.
وسرّ هذا الفرق هو أنّ الآخرة عالم الفعليّة المحضة، أمّا الدّنيا فهي عالم الحركة،
أي عالم امتزاج الاستعداد ومرتبة القوّة بمرتبة الفعل، والأمور الفعليّة المحضة لا
تتقبّل تأثير بعضها في بعضها الآخر، ولا التّركيب فيما بينها، على خلاف مما هو
الحال في الأمور التي تمتزج بها الفعلية بالاستعدادات الكامنة. وبناء على هذا
تتشكّل في عالم الدنيا المجتمعات، وهي عبارة عن نوع من التركيب والوحدة بين أفراد
البشر، في حين لا وجود للمجتمعات في عالم الآخرة، كما يشهد عالم الدنيا، التأثير،
والتأثير التدريجي والفعل والتفاعل، وهذا ما لا تجده في عالم الآخرة... وينبغي هنا
الإشارة إلى أنّ قولنا بأنّ الحياة الأخرويّة ليست اجتماعيّة، لا يعني أن يعيش كلّ
شخصٍ وحيدًا منعزلًا لا يرى أحدًا ولا شأن له بغيره، بل المقصود هو عدم وجود
التّرابط المصيري بين الأفراد والتّأثير المتبادل فيما بينهم وتبادل المنافع
المعنويّة والأخلاقيّة ونظائرها من الظّواهر الاجتماعيّة المألوفة في عالم الدّنيا،
والتي تكون نتيجتها تشكيل المجتمع الذي هو عبارة عن تركيبٍ حقيقيّ بين الأفراد
الذين يشتركون في وحدة المصير. هذا هو ما لا نجده في عالم الآخرة، أمّا الحياة
الجماعيّة فهي موجودة في الجنّة وفي النّار أيضًا مع فارقٍ مهمّ هو أنّ مجتمع
الصّالحين في الجنّة مفعم بأجواء الإلفة والأنس والمودّة يكونون
﴿إِخْوَانًا عَلَى
سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾15، أمّا مجتمع الأشرار فهو موبوء بالكراهيّة، وتبرّأ بعضهم
من بعضهم الآخر:
﴿كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ﴾16،
﴿إِنَّ ذَلِكَ
لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾17.
الترابط بين عالمي الدنيا والآخرة وأنواع العقوبات18
إنّ التّرابط موجود، بل وقوي بين (الدنيا والآخرة) إلى درجة وكأنّهما يمثّلان
مرحلتين من عمر واحد، فمن عالم الدنيا يكون نشوء الجنّة والنار، ورد في الحديث
الشّريف: "إنّ الجنّة قيعانٌ، وإنّ غرّاسها سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلّا
الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله"، وجاء في حديثٍ آخر: "إنّ الحسد
ليأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب"19. من هنا يتّضح أنّ جهنّم أيضًا هي أرض
خالية مثل الجنّة، ونيرانها وأنواع عذابها هي تجسّمات لذنوب النّاس، فالإنسان
العاصي يوقد تلك النّيران ويعدّ لنفسه بذنوبه أشكال العذاب... يقول الله تبارك
وتعالى عن أهل النّار مشيرًا إلى أنّ عذابهم ناتجٌ من رجز أعمالهم الخبيثة:
﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ﴾20.
أنواع الجزاء
حديثنا المتقدّم عن موضوعيّ الفروق بين عالمي الدّنيا والآخرة والتّرابط فيما
بينهما هو بمثابة مقدّمة لفهم البحث الآتي بشأن أنواع الجزاء، وفيه سنثبت وجود فرق
بين نمط العقوبات الأخرويّة ونمط العقوبات الدّنيويّة، ومعرفة هذا الفرق ضروريّة
للإجابة عن الاعتراض السّالف القائل بعدم مناسبة العقوبات الأخرويّة للذّنوب
والمعاصي21.
والعقوبات ثلاثة أنواع:
1- العقوبات التأديبيّة والرّدعيّة22
والتي يتمّ وضع قوانينها من قبل المشرّعين الإلهيّين أو غير الإلهيّين، وتكمن فائدة
هذه العقوبات في أمرين:
أ- منع تكرار الجريمة من قبل المجرم نفسه أو من قبل غيره، بسبب الرّهبة التي توجدها
في النّفوس، ولذلك يمكن أن توصف بالتأديبيّة.
ب- إشفاء صدر المظلوم وإذهاب غيظه، وهذا في العقوبات المفروضة على جرائم فيها عدوان
على الآخرين... فإنّ الإنسان المظلوم يُصاب بتأزّمٍ نفسيّ بسبب ظلامته، وإذا لم
يتمّ التّنفيس عن هذا التّأزّم اندفع المظلوم إلى ارتكاب جناية - عن وعيٍ أو غيره -
يوماً، إذا تمّ معاقبة الظّالم أمامه زال عنه ذلك التّأزّم وتطهّر قلبه من الحقد
والأذى.
أمّا القضية الجديرة بالملاحظة هنا، هي أن مثل هذه القوانين الردعية لا معنى
لوجودها في عالم الآخرة، لأنه ليس محلاً للردع عن تكرار الجريمة ولا للتشفّي
والثأر، فهو ليس دار العمل، ولذلك لا حاجة فيه لفرض عقوبات على الإنسان لكي لا
يعاود ارتكاب الجريمة، كما أنّ الله سبحانه وتعالى منزّه عن نزعة التشفّي والثأر،
ولا توجد في ذلك العالم مشكلة التأزّم النفسيّ لدى المظلومين... يضاف إلى كلّ ما
تقدّم، أنّ القسم الأكبر من العذاب الأخروي لا علاقة له بحقوق الناس، لذلك لا يمكن
القول بأنّ العدل الإلهيّ يستلزم الانتقام من الظّالمين لكي تشفى صدور المظلومين،
فأكثر العقوبات الأخرويّة هي جزاء للشّرك والرّياء والإعراض عن عبادة الله تعالى
تبارك وتعالى ونظائرها من الذنوب التي ترتبط بحقّ الله لا بحقّ النّاس.
2- عقوبات الآثار الطبيعيّة للذّنوب
النّوع الثّاني من العقوبات يشمل العقوبات التي تربطها بالجرائم علاقة العليّة
والمعلوليّة، بمعنى أنّ هذه العقوبات معلولة للجرائم والذّنوب ونتيجة طبيعية لها،
لذلك يُطلق عليها اسم جزاء الأعمال وآثارها الوضعيّة الطّبيعيّة.
وتوجد للكثير من المعاصي آثار وضعية سيّئة تنزل بمرتكبها في هذا العالم، فمثلًا من
يشرب الخمر، تحصل لديه أضرار روحيّة وبدنيّة كثيرة، إضافة إلى أضراره الاجتماعيّة،
فهو يصيب شارب الخمر بضعف الأعصاب وتصلّب الشّرايين وآلام الكبد... وهذه آثار
ذاتيّة للمعاصي وليست عقوبات قانونيّة موضوعة، ولذلك لا يمكن الاعتراض عليها
استنادًا إلى مبدأ لزوم رعاية التّناسب بين الجريمة وعقوبتها... وغالبًا ما يظهر في
هذه الدّنيا جزاء الأعمال المرتبطة بالخلق سواء كانت خدمة لهم أم إساءة، ولكن دون
أن ينقص هذا الجزاء الدّنيويّ شيئًا من الجزاء الأخرويّ. فمثلًا نجد لعقوق الوالدين
جزاءً دنيويًّا خاصّة إذا بلغ العقوق قتلهما والعياذ بالله حتّى لو كانا كافرين أو
فاسقين23.
ولكن لا ينبغي أن نظنّ بأنّ كلّ مصيبة تنزل بالفرد أو المجتمع جزاء عقوبة على أعمال
ارتكبوها، إذ توجد علل وحكم أخر في المصائب التي تنزل على النّاس في حياتهم
الدّنيا، ولكن ما نعتقد به هو وجود جزاء للأعمال في هذه الدّنيا.
3- العقوبات الأخرويّة وتجسّم الأعمال24
للعقوبات الأخرويّة ارتباط أوثق بالذّنوب، لأنّ العلاقة بين العمل وجزائه في الآخرة
ليست من سنخ العلاقة العقدية الموضوعة، كما هو الحال في النّوع الأوّل، ولا من سنخ
علاقة العلّة بالمعلول، كما هو الحال في النّوع الثّاني، بل هي على درجة أعلى من
هذين النّوعين، إنّها علاقة "العينيّة" و"الاتّحاد" بين العمل وجزائه بمعنى أنّ ما
يُعطى في الآخرة للمحسنين والمسيئين من ثواب وعقاب هو تجسّم لأعمالهم ذاتها. قال
الله تبارك وتعالى:
﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ
مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ
أَمَدًا بَعِيدً﴾25،
﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ
أَحَدً﴾26،
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾27... فكلّ ما يلقاه الإنسان في عالم الآخرة - من نعيم
الجنّة أو عذاب الجّحيم - هو ما أحضره بنفسه وأعدّه لها... إذاً، فالجزاء الأخرويّ
هو تجسّم الأعمال ذاتها، وعندما تزول الحجب تتجسّم الأعمال الصّالحة نفسها وتتمثّل
بصور النّعيم فيما تتجسّم وتتمثّل الأعمال السيّئة بأشكال العذاب.
... وبعبارةٍ أخرى إنّ لأعمالنا صوراً ملكية فانية ومؤقّتة، وهي نفسها التي تظهر
على شكل أقوال وأفعال تصدر عنا، كما أنّ لها صوراً ملكوتية لا تفنى أبداً، بعد
صدورها عنّا، فهي تبقى ملازمة وتابعة لنا، وهي الوليدة المتولّدة عنّا، ولكنّها لا
تنفصل عنّا بحال من الأحوال، أي إنّ الصور الملكوتية والوجهة الغيبية لأعمالنا
باقية وسنراها يوماً كما هي عليه، إمّا جميلة تبعث البهجة والسّرور، فتكون نعيمًا
لنا، وإمّا قبيحة كريهة تشكّل نارًا وجحيمًا نتلظّى فيها.
ملخّص الجواب عن شبهة عدم التّناسب في الجزاء الأخرويّ28
يمكن تلخيص الإجابة على النّحو الآتي: إنّ هذا الاعتراض يمكن أن يتوجّه إلى
القوانين الجزائيّة الاجتماعيّة العقديّة، فيجب على المشرّع لهذه القوانين رعاية
الأصل المذكور، أمّا في العقوبات التي تكون علاقتها بالعمل الجنائي علاقة تكوينيّة
بمعنى أنّ العقوبة والجزاء يكون معلولًا حقيقيًّا وأثرًا ملازمًا للعمل الجنائيّ،
فلا مجال للحديث عن التّناسب أو عدم التّناسب بين الجزاء والعمل، وكذلك الحال في
الجزاء الذي يكون ارتباطه بالذّنب على نحو الارتباط العينيّ والاتّحاد، بمعنى أن
يكون الجزاء في الحقيقة هو العمل نفسه.
ولم يدرك برتراند رسل أنّ علاقة الدّنيا بالآخرة ليست من سنخ العلاقات العقديّة
الاعتباريّة المألوفة في المجتمعات البشريّة، ولذلك نجده يقول: كيف يمكن أن يكون
الإله إلهًا وهو يفرض علينا عقوبات شديدة بسبب جنايات صغيرة جدًّا! وواضح من هذا
القول أنّ "رسل" وأمثاله بعيدون كلّ البعد عن أبسط المعارف الإلهية الحقّة، وذلك
بسبب عدم تعرّفهم إلى المعارف الإسلاميّة، فقد انحصرت معرفتهم الدّينيّة في إطار
العالم المسيحيّ، ولم يشمّوا رائحة الحكمة والفلسفة والعرفان وعموم المعارف
الإسلاميّة السّامية، ومن يمتلك أبسط اطّلاع على المعارف الإسلاميّة يدرك جيّدًا
أنّ رسل أقلّ من أن يُعدّ تلميذًا في المرحلة الابتدائيّة من مراحل دراسة الفلسفة
بمفهومها الإسلاميّ والشّرقيّ. لقد ربّى الإسلام في أحضانه رجالاً عظماء تعرّفوا
على عالم الآخرة قبل أن يرحلوا عن عالم الدنيا، وشاهدوا عيانًا من حقائق الآخرة ما
يعجز (العالم الأجنبي - رسل) وأمثاله عن مجرّد تصوّره. فقد أدرك خرّيجو مدرسة
القرآن جيّداً حقيقة أنّ الجزاء الأخرويّ هو العمل الدنيويّ نفسه، وليس شيئًا
منفصلًا عنه.
1- العدل الإلهي، ص308- 309.
2- بحار الأنوار، ج72، ص256.
3- العدل الإلهي، ص 309 -317.
4- سورة العنكبوت، الآية 64.
5- سورة يس، الآية 65.
6- سورة فصّلت، الآية 21.
7- الكافي، ج8، ص58.
8- نهج البلاغة، الخطبة 196.
9- سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100.
10- سورة المؤمنون، الآية 100.
11- ابن أبي جمهور، محمد بن زين الدين، عوالي اللئالي، تحقيق مجتبى العراقي، دار
سيد الشهداء للنشر، قم، الطبعة الأولى، 1405هـ، ج1، ص267.
12- سورة الصافات، الآية 21.
13- سورة يس، الآية 59.
14- سورة الأنعام، الآية 164.
15- سورة الحجر، الآية 47.
16- سورة الأعراف، الآية 38.
17- سورة ص، الآية 64.
18- العدل الإلهي، ص317.
19- أصول الكافي، م2، ص306، باب الحسد.
20- سورة سبأ، الآية 5.
21- العدل الإلهي، ص 317 - 318
22- (م. ن)، ص 320 – 322.
23- العدل الإلهي، ص 323 – 325.
24- (م. ن)، ص 328- 331.
25- سورة آل عمران، الآية 30.
26- سورة الكهف، الآية 49.
27- سورة الزلزلة، الآيات 6 – 8.
28- العدل الإلهي، ص 337 – 338.