الحكمة من بعض الابتلاءات
الفصل الأول
فضلاً عن الأمور المتقدمة، قد تستدعي حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمانيته أن يمنّ على عباده بلطفه، وينزل عليهم نعمته من خلال طرق غير طبيعية
عدد الزوار: 333
فضلاً عن الأمور المتقدمة، قد تستدعي حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمانيته أن يمنّ
على عباده بلطفه، وينزل عليهم نعمته من خلال طرق غير طبيعية، ولأجل ذلك فقد يضع جلّ
وعلا أسباباً وعللاً أخرى غير الأسباب والعلل المادية، ويدعو الناس لأن يجعلوا من
أنفسهم مستحقين لنزول الرحمة والنعم الإلهية بتوسلهم بتلك الأسباب، وهذا بدوره
مقتضى اللطف والحكمة الإلهية أيضاً.
إنّ نظام الخلق يقوم على أساس الحكمة، والهدف من خلق الإنسان هو الهداية والتكامل،
وإنّ الهداية والتكامل إنّما يحصلان، في ظل المعرفة والتدبر بآيات الله، والعبودية
والعمل بتعاليم أنبياء الله ودين الحق، لكن الناس ينحرفون أحياناً عن جادة الحق
نتيجة الذنب والمعصية، فعندما يعيش الناس حالة الرفاه المادي، بحيث لا يعانون
مشكلةً من الناحية الاقتصادية والتنعّم باللذائذ المادية، ويتوفر لهم ما يريدون،
قلّما يقبلون نحو الله والمعنويات، وفي هذه الأثناء تضعف لديهم الخصائص الإنسانية
والإلهية تدريجياً وبالتالي يطويها النسيان، وفي خاتمة المطاف تتمهّد لديهم الأرضية
للطغيان والكفر والضلال والانحراف.
يقول القرآن:
﴿إِنّ
الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَآهُ اسْتَغْنَى﴾1
فالإنسان يطغى عندما يرى نفسه غنياً، إذا ما أصبحت روح الاستكبار والطغيان هي الروح
السائدة على الغالبية من المجتمع والأمّة، فإنّ لطف الله وعنايته تستوجبان أن ينذر
الناس ويوقظهم من سبات الغفلة، بنحو يعيدهم إلى جادة الحق وطريق العبودية. ولغرض
تحقّق هذه الغاية قد يُنزل تعالى الابتلاءات من قبيل الفقر والجفاف، وفي المقابل
يضع الاستغفار والتوبة من الذنوب والتوجه إلى الله والصلاة سبيلاً لعلاج هذه
الابتلاءات، ليتحقق في النهاية الهدف من الخلقة وهو هداية الناس وتكاملهم
الاختياري.
إنّ هذه المعادلة من السُنن الإلهية العجيبة حيث كان يبعث نبياً ويبتلي أُمّته بأشد
الابتلاءات، لكي لا يغفلوا عن الله وعن طريق الحق، ولا يصدهم الانغماس في اللذائذ
المادية عن السعادة.
على أية حال إنّ نزول بعض الابتلاءات سبب في يقظة وانتباه الغافلين، لأنّ الناس
إنّما يدركون بشكل أفضل حاجتهم إلى الله في الظروف الصعبة، ويصبحون أكثر استعداداً
لتقبّل الحق وتعاليم الأنبياء ممّا عليه في حالة الترف، يقول القرآن:
﴿وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ
وَالضّرّاءِ لَعَلّهُمْ يَضّرّعُونَ﴾2
فنحن لم نبعث في قرية أو بلدٍ نبياً إلاّ وابتلينا أهل تلك القرية بالشدائد
والابتلاءات والعذاب لعلّهم يعودون إلى أنفسهم، ويتضرّعوا أمام الله سبحانه وتعالى،
وقد صرّحت الآيتان 75 و 76 من سورة المؤمنون بهذا المضمون أيضاً:
﴿وَلَوْ
رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِن ضُرّ لّلَجّوا فِي طُغْيَانِهِمْ
يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبّهِمْ
وَمَا يَتَضَرّعُونَ﴾.
فلو أنّنا عفونا عنهم
وأزحنا عنهم ما نزل بهم بلاء لأصرّوا بقلوب عمياء على طغيانهم.
بناءً على هذا، إنّ الفلسفة من بعض عذابات الأمم وشدائدها هي يقظتها وأوبتها إلى
طريق الهداية، وإن كانت هذه الشدائد والمحن والابتلاءات ربّما لا توقظ بعض الأمم،
وتبقى متماديةً في ضلالها وانحرافها، وفي مثل هذه الحالة تتم الحجة عليها،
ولينتظروا نزول الكوارث التي تضع حداً لحياتهم.
في الآيات 42 ـ 44 من سورة الأنعام يخاطب القرآن نبي الإسلام صلّى الله عليه وآله
وسلم قائلاً:
﴿وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضّرّاءِ
لَعَلّهُمْ يَتَضَرّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرّعُوا وَلكِن
قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيّنَ لَهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمّا
نَسُوا مَا ذُكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَيْءٍ حَتّى
إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ﴾.
فحري بنا أن نعلم أنّ هذه سُنة إلهية كانت قد جرت على الأمم السابقة، وأنّ أُمّة
النبي الخاتم ليست مستثناة منها.
على أية حال، إنّ وجود بعض الابتلاءات والمصاعب والمحن أسباب تذكير وهداية بالنسبة
لذوي البصيرة والحريصين على سعادتهم ومصيرهم، ورغم ذلك وكما يقول القرآن إنّ هنالك
أناساً يغطون في غفلة لا يوقظهم منها أي إنذار أو تنبيه.
إذن، الابتلاءات والشدائد التي تحصل للمجتمعات والأمم لغرض تنبيه الناس وإيقاظهم لا
تختص بأمم الأنبياء السابقين، بل أنّ هذه القضية من ألطاف الله وتأتي، لإيقاظ الأمم
وتوجيهها نحو الله، والمهم هو معرفة الفلسفة من مثل هذه الوقائع واستلهام العبر من
الماضي والتوبة والأوبة إلى الله.
ومع شديد الأسف قلّما يلتفت أحد في مجتمعنا إلى هذه القضية، ولهذا يتشبث بعض
المسؤولين إمّا، عن غفلة وإهمال، أو لضعف في الإيمان والمعتقد بغير الله، للخلاص من
المصاعب الاقتصادية ومن بينها شحة المياه والجفاف، فينفقون أموالاً طائلة من بيت
مال المسلمين كي يصنعوا المطر من خلال تحميل الغيوم عن طريق المواد الكيمياوية. وا
لهفاه لهذا التصور الباطل ! أو تكمن العلة التامة لنزول المطر في حصول الغيوم
وانتقالها بفعل هبوب الرياح، إضافة إلى بضعة عوامل غيرها كي يتشبث الإنسان بخيوط
عنكبوتية نسجها بنفسه فيأخذه الغرور، وبدلاً من أن يوجّه عباد الله وعامة المسلمين
نحو الله للتوسل بألطافه وإحسانه، يبحث في أعالي الجبال عن قطع الغيوم فيفتتحها
لتدر بالمطر بعد تحميلها ! حقاً أنّ هذه القضية تثير في الأذهان قصة النبي نوح عليه
السلام وابنه، فبعد 950 سنة من الدعوة إلى الله يأس عليه السلام من إيمان قومه
بالله، وبعد اليأس من اهتدائهم وظهور علامات العذاب دعا ابنه، لأن يؤمن ويركب في
السفينة كي ينجو من العذاب المحتّم، لكنّه أفصح لدى ردّه على أبيه عن فكره الملوّث
بالشرك قائلاً:
﴿سَآوِي
إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُني مِنَ الْمَاءِ﴾3
وكلنا يعلم أنّه لم يؤمن وهلك في خاتمة المطاف، وأنّ الله سبحانه وتعالى ببيانه
لهذه القصة، إنّما يبيّن الفكر الملوّث بالشرك ويحذّر الناس منه.
إنّ هذا الفكر الملوّث بالشرك متفشٍ الآن بين البعض لا سيما المثقفين المنبهرين
بالغرب، فهؤلاء بدلاً من أن يؤمنوا بالله ويسوقوا الناس بأقلامهم وكتاباتهم نحو
الله، فقد علّقوا أنظارهم صوب أيدي أعداء الإسلام والمسلمين متوقعين العون من
العدو.
ليس خافياً على الواعين أنّنا لسنا نرفض التطور العلمي وإنجازات العلوم البشرية،
لأنّ الدين والقرآن والفكر التوحيدي يدعو أكثر من أي دين آخر الناس لتعلّم العلم
والاستفادة من معطيات العلم والفكر البشري، وما يجري التأكيد على رفضه هنا والتحذير
من عواقبه الوخيمة، هو هذا الفكر الممزوج بالشرك الذي ممّا يؤسف له أنّ المبتلين به
ليسوا قلةً في مجتمعنا.
على أية حال إنّ أفضل
الطرق وأقربها وأكثرها اطمئناناً لعلاج المشكلات الفردية والاجتماعية، هو العودة
إلى رحاب الله، لأنّ انتخاب صراط الله بالإضافة إلى أنّه يكفل لنا السعادة الأبدية
والأخروية، فأنّه يعالج مشكلات الحياة الدنيا ومصاعبها أيضاً:
﴿فَقُلْتُ
اسْتَغْفِرُوا رَبّكُمْ إِنّهُ كَانَ غَفّاراً * يُرْسِلِ السّماءَ عَلَيْكُم
مِدْرَاراً﴾4.
بناءً على هذا، إنّ القرآن يقدّم لأتباعه السُبل لسد النواقص وازدهار أمور المسلمين،
ويكفل فاعلية تلك السُبل بالإضافة إلى أنّ بإمكان المسلمين أن يجرّبوا مثلما جرّبوا
مراراً.
لا شك في أنّ انتصار الثورة في إيران أحد الأمثلة الإعجازية لنصر الله، والإمدادات
الغيبية لمجتمعنا الإسلامي، فعندما توكل أبناء الشعب بأجمعهم على الله، وقطعوا
الأمل عن سواه، وطالبوا بحكومة إسلامية فإنّ الله وطبقاً لِما وعد به بقوله في
القرآن:
﴿إِن
تَنصُرُوا اللّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾5,
ورغم سطوة النظام الملكي ذي التاريخ الممتد لـ 2500 سنة ورغم دعم أعداء الإسلام،
نصر أبناء الشعب على أعدائهم، وستبقى السّنة الإلهية جارية من أنّ الناس ما داموا
مقبلين على الله فإنّه سيمنّ عليهم بالنصر، ومتى ما نسوا الله وترقبوا العون من
سواه واعرضوا عنه سيكون العذاب والذلّة بانتظارهم.
على أية حال، ليس من شك في أنّ القرآن الكريم وصفة العلم الإلهية الشافية، وأنّ
سعادة الإنسان وفلاحه في الدنيا والآخرة تكمن في اتّباع تعاليمها الحياتية، ويجب
البحث فيها عن طريق علاج المشكلات الفردية والاجتماعية، يجب معرفة القرآن، هذا
الكتاب الذي يكفل السعادة للإنسان، والاجتهاد في تعظيمه وتكريمه والعمل به، وهنالك
نمطان من تعظيم القرآن وتكريمه نشير إليهما تِباعاً.
* تجلّي القرآن في نهج البلاغة - آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي
1- العلق: 6 و 7.
2- الأعراف: 94.
3- هود: 43.
4- نوح: 10 و 11.
5- محمّد: 7.