يتم التحميل...

التكريم الظاهري والحقيقي للقرآن الكريم

الفصل الأول

إنّ أكثر ما هو موجود اليوم في المجتمعات الإسلامية من احترام للقرآن يمكن تسميته احتراماً ظاهرياً، بينما لم ينزل القرآن الكريم كي نقابله بآداب وطقوس وتعظيم من طابع معيّن فقط،

عدد الزوار: 215

إنّ أكثر ما هو موجود اليوم في المجتمعات الإسلامية من احترام للقرآن يمكن تسميته احتراماً ظاهرياً، بينما لم ينزل القرآن الكريم كي نقابله بآداب وطقوس وتعظيم من طابع معيّن فقط، فالقرآن ليس للحفظ والتلاوة بلحن وصوت جميلين وحسب، القرآن كتاب الحياة وكتاب البلاغات، التي كلّف الجميع بتطبيقها على صعيد حياتهم الدنيوية، كي ينالوا السعادة في الدنيا والآخرة، وبالخصوص منهم المتصدين للحكم في الشعوب الإسلامية، فهم مكلّفون بأن ينظّموا السياسات العام لأنظمتهم وتنفيذها على أساس توجيهات هذا الكتاب الإلهي، لتتهيأ الأرضية بنحو أفضل لتنامي ورقي ثقافة القرآن بالنسبة لأبناء المجتمع، وبالنتيجة يتحقق الهدف من نزول القرآن، وهو تكامل الإنسان وسعادته في ظل نشر العدل والقسط على وجه الأرض.

وعلى العكس من هذا التوقع فإنّ ما نشهده اليوم على أنّه تكريم وتعظيم للقرآن لا يتعدى ـ وللأسف ـ حدود الاهتمام بالظواهر السطحية، فيما جرى التغافل عن ضرورة محورية القرآن في الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين، ففي الكثير من الأمصار الإسلامية هنالك اليوم مؤسسات تهتم بأمر تعليم وتعلّم القرآن الكريم بدءً من، المراحل التمهيدية، والابتدائية، وحتى مستوى الجامعات، وتجتهد في مجال تعلّم التلاوة وحفظ القرآن وقراءته بطرق مختلفة، ونشهد كل عام إقامة مسابقات دولية لحفظ وقراءة القرآن الكريم، وتتبوّأ مختلف العلوم القرآنية من قبيل التجويد والترتيل وغيرها موقعاً متميزاً في أوساط محبّي القرآن، بالإضافة إلى ذلك أنّ القرآن يتمتع باحترام خاص في أوساط عامة المسلمين، بحيث إنّهم لا يمسون كلماته وآياته بأيديهم دون وضوء، ويجلسون بكل أدب عند قراءته، فأكثر الناس لا يمدّون أرجلهم في مقابل القرآن، ويقومون بتجليده بأفضل أنواع التجليدات، ويضعونه في أحسن الأماكن، وخلاصة القول إنّ حالات التكريم الظاهري على هذه الشاكلة شائعة بين عامة المسلمين.

من الطبيعي أنّ مراعاة الأمور الآنفة الذكر بوصفها احتراماً لهذا الكتاب السماوي قيمة واجبة، مهما التزمنا بها فإنّنا لم نؤدِ حق احترام هذا الكتاب السماوي كما يستحق، ولم نؤدِ الشكر لله سبحانه وتعالى على النعمة الكبرى وهي نعمة الهداية، لكن أسمى أنواع الاحترام والشكر لأية نعمة، هو معرفة حقيقتها وتوظيفها في الاتجاه الذي خلقها الله من أجله، وإذا ما أردنا أن ننظر إلى القرآن بهذه النظرة، ونقوم باحترامه وتعظيمه، يتضح لنا أنّ القرآن الكريم كما هو أهله، وما ذُكر على أنّه صور من احترام المسلمين للقرآن الكريم رغم أنّها ضرورية ولازمة، بيد أنّ هدف الله سبحانه وتعالى لا يتحقق بأداء هذه الأمور، ولا يُنجز تكليف المسلمين إزاء هذا الكتاب السماوي، فمعرفة ظواهر القرآن وتلاوة آيات الله والتعظيم الظاهري لهذه الوصفة الشافية، هي مقدمة للعمل بمضامينها وتعاليمها، ولا يؤدى الحق الواقعي للقرآن دون اتخاذه محوراً في الحياة السياسية والاجتماعية للمسلمين.

إنّ تقبيل وصفة الطبيب واحترامها، وقراءتها بألحان جميلة، بلا فهم لتعليمات الطبيب وإرشاداته والعمل بها، لا تداوي للمريض داءً، فكل عاقل على قناعة بأنّ تحسّن الصحة منوط بالعمل بتعليمات الطبيب المحنّك، فالاحترام الحقيقي لوصفة الطبيب هو في العمل بها، وليس القيام باحترامات ظاهرية للطبيب ووصفته.

ويمكن القول أيضاً بشأن القرآن بالرغم من أداء الاحترامات الظاهرية للقرآن الكريم، من الأمور المحبّبة ومن واجبات المسلمين فرداً فرداً، لكنّها أقل واجب على المسلمين إزاء هذا الكتاب، والمسلمون مكلّفون بأداء الشكر والتعظيم الواقعي لهذه النعمة الإلهية الكبرى، وذلك بفهمهم للقرآن الكريم والعمل بأحكامه الحياتية، وأن لا يحرموا أنفسهم من هذا التراث المعطاء، كي يتسنّى لهم بالنتيجة تنوير دنياهم المظلمة بهذا النور الإلهي.

القرآن نور حقيقي
النور أحد مظاهر تجلّي الله عزّ وجل، فالله يشبّه نفسه بالنور إذ يقول : ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ1 وهذا نور الله تبارك وتعالى قد تجلّى فخُلقت السموات والأرض والمخلوقات، وبفضل عناية الله يقوم عالم الوجود، وان فيض الوجود مافتئ ينهمر على الموجودات من مشكاة الجود، وبالتالي تواصل المخلوقات والموجودات حياتها.

قد يعبّر عن كلام الله بالنور أيضاً، ففي ظل النور يبصر الإنسان الطريق وينجو من التيه والضلال، وبما أنّ أسوء الضلال والانحراف وأكثره خسراناً هو الضلال والانحراف في مسيرة الحياة وتعرّض سعادة الإنسان للخطر، فإنّ النور الحقيقي هو الذي ينقذ البشر والمجتمع الإنساني من الضلال والانحراف، ويبيّن أمامهم الطريق الصحيح للكمال الإنساني، ليميزوا طريق السعادة والكمال عن طرق السقوط والضلالة.

على هذا الأساس عبّر الله جلّ وعلا عن القرآن بالنور إذ يقول : ﴿قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ2 أي أنّ نوراً وكتاباً منيراً قد جاءكم من ربّكم، كي تميّزوا من خلال انتفاعكم به طريق السعادة عن طريق الشقاء، ونظراً لأنّ موضوع البحث هو القرآن في منظار نهج البلاغة، فإنّنا نغض الطرف هنا عن تفسير وتوضيح الآيات الواردة في هذا المجال، ونتطرّق لتوضيح كلام الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن.

في الخطبة 189 وبعد وصفه للإسلام والنبي صلّى الله عليه وآله سلم يقول علي عليه السلام في وصف القرآن الكريم : ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، وَسِرَاجاً لا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَبَحْراً لا يُدْرَكُ قَعْرُهُ.

إنّ علياً عليه السلام بوصفه للقرآن في هذه الخطبة يحاول من خلال ثلاث تشبيهات رائعة، أنّ يعرّف قلوب المسلمين عظمة القرآن، ويستقطب انتباههم أكثر فأكثر إلى هذه الثروة الإلهية الضخمة التي هي في متناول أيديهم.

في البداية يصف عليه السلام القرآن بالنور فيقول : ﴿أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ، فالله الذي أنزل القرآن نوراً على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لكن هذا النور يختلف عن سائر الأنوار، فهذه الحقيقة ـ القرآن الكريم ـ نور لا تنطفئ مصابيحه ولا يتوقف إشراقه أبداً، إنّ القرآن ـ من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ـ كمصدر عظيم للطاقة الكهربائية، يقوم وعبر مصابيح شديدة الإنارة تتصل بشبكة إيصال الكهرباء، بإضاءة الطرق إلى المقصد الذي تنتهي إليه في الليالي المظلمة، وبوضع مصابيح الدلالة على مفترق طريقين أو عدة طريق، يبيّن أمام الساعين لبلوغ غاياتهم الطريق الذي ينتهي إلى الهدف عن سائر الطرق، التي تودي إلى الضلال والسقوط في الأودية الخطيرة.

إنّ القرآن يؤدي مثل هذا الدور في المجتمع الديني الإسلامي وفي حياة المتطلعين للسعادة والفلاح، مع فارق أنّ المصابيح التي يغذّيها هذا المصدر وتضيء طريق السعادة لا تنطفئ أبداً، وبالتالي فإنّ طريق الحق مستقيم ولاحِب على الدوام، وإنّ القرآن الكريم ومصابيحه المضيئة تنبّه أتباع القرآن على الدوام قائلةً لهم احذروا الانحراف عن جادة الحق.

في مقطع آخر من هذه الخطبة يقول عليه السلام: "ونوراً ليس معه ظلمة"، فالقرآن نور لا يدوم الظلام بوجوده، لأنّ لهذا الكتاب السماوي مصابيح تستمد النور منه فتضيء طريق الهداية والسعادة دائماً.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ الأئمة عليهم السلام ـ الذين هم مفسرو الوحي الإلهي ـ هم بمثابة تلك المصابيح حيث يوضّحون معارف القرآن للناس، ويقومون بما وهبهم الله من علم بتعريف المسلمين بحقيقة القرآن.

 

* تجلّي القرآن في نهج البلاغة - آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي


1- النور : 35.

2- المائدة : 15.
 

2016-06-22