القرآن الكتاب السماوي الوحيد بين يدي الإنسان
الفصل الأول
لو أردنا التطرّق لكل ما جاء حول القرآن في نهج البلاغة فإنّ البحث يطول كثيراً، فلقد تناول الإمام علي عليه السلام في أكثر من عشرين خطبة في نهج البلاغة وصف القرآن ومنزلته،
عدد الزوار: 195
لو أردنا التطرّق لكل ما جاء حول القرآن في نهج البلاغة فإنّ البحث يطول كثيراً،
فلقد تناول الإمام علي عليه السلام في أكثر من عشرين خطبة في نهج البلاغة وصف
القرآن ومنزلته، وقد يختص أكثر من نصف خطبة أحياناً لبيان منزلة القرآن ودوره في
حياة المسلمين، وواجبهم إزاء هذا الكتاب السماوي، ونحن نكتفي هنا بتوضيح بعض
توصيفات نهج البلاغة بشأن القرآن الكريم.
يقول الإمام علي عليه السلام في الخطبة 133:
﴿وَكِتَابُ
اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ﴾،
فالقرآن في متناولكم وأمامكم، وعلى العكس من الكتب السماوية لسائر الأديان من قبيل
كتاب النبي موسى والنبي عيسى عليهما السلام فإنّ القرآن بين أيديكم، وحري القول إنّ
الكتاب المقدس لم يكن في متناول عامة الناس في الأُمم السابقة، لا سيما يهود بني
إسرائيل، بل كانت هنالك نسخ معدودات من التوراة موجودة عند علماء اليهود، ولم يكن
بمقدور عامة الناس مطالعة التوراة.
وكان الوضع وما زال أكثر مدعاة للقلق فيما يخص كتاب النبي عيسى عليه السلام، لأنّ
ما يعرف اليوم بالإنجيل في أوساط المسيحيين ليس بذلك الكتاب الذي نزل على النبي
عيسى المسيح عليه السلام، بل هي مضامين جُمعت على أيدي أشخاص، وعرفت بالأناجيل
الأربعة، وعليه فإنّ الأمم السابقة كانت محرومةً من الوصول إلى الكتب السماوية، لكن
الوضع مختلف بشأن القرآن، فلقد كانت كيفية نزول القرآن وقراءته وتعلّمه من قِبل
النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بنحو كان الناس يستطيعون تعلّمه وحفظ آياته،
وأن يكون القرآن في متناولهم بشكل كامل.
من الخصائص المهمة الأخرى لهذا الكتاب السماوي، هي أنّ الله سبحانه وتعالى مَنَّ
على الأمّة الإسلامية، وتعهد بنفسه الحفاظ على القرآن الكريم من أي خطر، بالإضافة
إلى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم اهتم بتعليم المسلمين القرآن، وحفظ
آيات الله، بحيث أنّ عدداً كبيراً من المسلمين كانوا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حفّاظاً للقرآن، ويحتفظون بنسخ الآيات التي كانت تنزل تواً، ويقومون
بحفظها تدريجياً، فكان القرآن يصبح في متناول الجميع عن طريق استنساخ هذه النسخ، أو
تناقلها من صدر حافظ إلى صدر حافظ آخر.
يقول علي عليه السلام: "كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ"، أي كتاب الله
فيما بينكم وفي متناولكم، "نَاطِقٌ لا يَعْيَى لِسَانُهُ"، من المناسب
التركيز والتأكيد على هذه العبارة، إذ يصرّح عليه السلام أنّ هذا الكتاب ناطق لا
يعتري لسانه التعب، فلا يملّ من الكلام ولا يتلكأ، إنّه بناء لا تهتز أركانه، وظافر
لا تُهزم أعوانه.
حديث القرآن
من ناحية يقول الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة واصفاً القرآن: إنّه كتاب
ناطق يتكلم ولا يعيى من الكلام، وهو يتحدث ويدلي بكلامه بكل وضوح، ومن ناحية أخرى
يقول إنّ القرآن ليس ناطقاً ويجب استنطاقه، وأنا الذي أُبيّن القرآن لكم، وجاء في
بعض العبارات أحياناً أنّ القرآن (صامت ناطق)1 فما معنى هذا
الكلام يا ترى؟
يبدو أنّ هذه العبارة تبيّن نظرتين مختلفتين لهذا الكتاب السماوي، فرؤية فيها
القرآن كتاب مقدّس لكنّه صامت منزوي لا يكلم أحداً ولا لأحد علاقة به، وفي رؤية
أخرى كتاب ناطق يوجّه خطابه لجميع الناس يدعوهم لاتّباعه، ويبشّر أتباعه بالسعادة
والفلاح.
من البديهي أنّ القرآن الذي صفته التقدّس فقط، هو كلمات وعبارات وآيات مسطورة على
الورق، يوليه المسلمون احتراماً، ويقبّلونه ويضعونه في أفضل مكان من بيوتهم، وقد
يتلونه في المجالس أحياناً دون أن يتوجّهوا إلى حقيقته ومعناه، إذا ما نظرنا إلى
القرآن بهذه النظرة فهو كتاب صامت لا يتحدث بصوت مسموع، ومَن يمتلك مثل هذه النظرة
لن يسمع كلام القرآن، ولن يعالج القرآن الكريم له مشكلة.
بناءً على هذا نحن مكلّفون بالتزام الرؤية الثانية، أي أن نعتبر القرآن كتاب
الحياة، ونعدّ أنفسنا لسماع كلام القرآن الكريم، الذي يمثّل بأسره تعاليم الحياة،
وذلك من خلال خلق روح التسليم أمام الله سبحانه وتعالى، وفي مثل هذه الحالة يكون
القرآن ناطقاً يحدّث الناس ويهديهم في كافة المجالات.
بالإضافة إلى هذا التفسير الذي قدّمناه لصمت القرآن ونطقه، ثَمّة معنى أكثر عمقاً
لهذا الأمر، وذلك المعنى هو ما يقصده علي عليه السلام, وعلى أساس هذا المعنى الخاص
يقول عليه السلام إنّ القرآن صامت ويجب استنطاقه، وأنا الذي أُبيّن لكم القرآن، وها
نحن نتطرق لتوضيح صامتية القرآن وناطقيته بالمعنى الثاني، وهو في الحقيقة بيان
لمعناه الحقيقي: بالرغم من أنّ القرآن الكريم كلام الله جلّ وعلا، وأنّ حقيقة هذا
الكلام الإلهي وكيفية صدوره ونزوله ليست معروفة لدينا، ولكن بما أنّ الغاية من
نزوله هداية الناس، فإنّ هذا الكلام الإلهي قد تنزّل بحيث أصبح على هيئة كلمات
وعبارات وآيات، يتسنى قراءتها وسماعها بالنسبة للبشر، ولكن في نفس الوقت ليس الأمر
بأن تكون مضامين جميع آياته يسيرة الفهم والمنال بالنسبة للعاديين من الناس، ويصبح
بمقدور الناس أنفسهم بلوغ مقاصد الآيات دون تفسير وبيان من قِبل النبي صلى الله
عليه وآله وسلم, والأئمة المعصومين عليهم السلام، والراسخين في العلم، منها على
سبيل المثال تفصيل وبيان جزئيات الأحكام الواردة في القرآن، وكذلك هنالك آيات مجملة
في القرآن الكريم تحتاج إلى بيان وإيضاح.
بناءً على هذا، فالقرآن صامت في الكثير من الأبعاد، أي ليس من السهل الاستفادة منه
بالنسبة لعوام الناس دون تفسير وبيان ممّن له ارتباط بالغيب وملمّ بالعلوم الإلهية.
* تجلّي القرآن في نهج البلاغة - آية الله محمّد تقي مصباح اليزدي
1- نهج البلاغة: الخطبة 147، جدير بالذكر أنّ كافة الهوامش المذكورة في هذا الكتاب عن نهج البلاغة تستند إلى نهج البلاغة لفيض الإسلام.