يتم التحميل...

حول علم الغيب

بحوث من سورة الجن

من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان:

عدد الزوار: 230

من خلال التمعن في الآيات المختلفة للقرآن الكريم يتّضح لنا أنّ الآيات المتعلقة بعلم الغيب قسمان:
القسم الأوّل: ما يتعلق بذاته جلّ شأنه ولا يعلمه إلاّ هو، كما في الآية (59) من سورة الأنعام:  ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ والآية (65) من سورة النمل:  ﴿قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ  وكما ورد في شأن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية (50) من سورة الأنعام: ﴿وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ.

ونقرأ في الآية (188) من سورة الأعراف: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ  وأخيراً نقرأ في الآية (20) من سورة يونس: ﴿فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ وغيرها من الآيات.

القسم الثّاني: يطرح بوضوح إطلاع أولياء اللّه على الغيب، كما نقرأ في الآية (179) من سورة آل عمران: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء ونقرأ في معاجز المسيح صلى الله عليه وآله وسلم : ﴿وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ1.

والآية السابقة مورد البحث أيضاً تشير إلى أنّ اللّه تعالى يهب العلم لمن يرتصيه من رسله: (وذلك لأنّ استثناء النفي إثبات)، ومن جهة أُخرى فإنّ الآيات التي تشمل الأخبار الغيبية ليست بقليلة. كالآية الثّانية حتى الرّابعة من سورة الروم: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، وتقول الآية (85) من سورة القصص: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ وتقول الآية (27) من سورة الفتح: ﴿لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ.

ومن المعروف أنّ الوحي السماوي الذي يهبط على الرسل هو نوع من الغيب الذي أطلعهم اللّه عليه، فكيف يمكن أن ننفي إطلاعهم بالغيب في الوقت الذي يهبط عليهم الوحي.

بالإضافة إلى ذلك كلّه فإنّ هناك روايات كثيرة تدل على أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام مطّلعون على الغيب، ويخبرون به أحياناً، فمثلاً نجد ذلك في قصّة "فتح مكّة" وحادث حاطب بن أبي بلتعة الذي كتب كتاباً لأهل مكّة وسلمه لامرأة تدعى " سارة" لتوصله إلى مشركي مكّة، وأطلعهم فيه على نيّة الرّسول في الهجوم على مكّة، فأخفت تلك المرأة الكتاب في ضفائرها، قصدت الذّهاب إلى مكّة، فأرسل النّبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها أمير المؤمنين عليه السلام ومعه بعض أصحابه وقال لهم: "ستجدون امرأة عندها كتاب من حاطب إلى المشركي قريش في منزل يسمّى (خاخ)" فلمّا وجدوها أنكرت عليهم الكتاب، ولكنّها سرعان ما اعترفت وأخذوا منها الكتاب2.

وكذلك إخبارهم بحوادث معركة مؤتة، واستشهاد جعفر الطيار عليه السلام وبعض القادة المسلمين، في الوقت الذي كان الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم يطلع الناس على ذلك في المدينة3، والأمثلة على ذلك ليست قليلة في حياة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وورد في نهج البلاغة أيضاً أخبار كثيرة سابقة لأوانها تشير إلى حوادث مستقبلية، أخبر عنها أمير المؤمنين عليه السلام، ممّا يدل على اطلاعه عليه السلام بأسرار الغيب، كما جاء في الخطبة (13) في ذمّة أهل البصرة حيث يقول:  كأنّي بمسجدكم كجؤجؤ لسفينة قد بعث اللّه عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها".

ووردت في روايات أُخرى عن طريق الخاصّة والعامّة أخبار متعددة عنه عليه السلام وهي سابقة لأوانها، كقوله لحجر بن قيس: "إنّك من بعدي تجبر على لعني"4.

وما قاله في مروان: "إنّه يحمل راية الضلال بعد الكِبَر على أكتافه"5.

وما قاله كميل بن زياد للحجاج أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد أخبرني بأنّك قاتلي6.

وما قاله عليه السلام في خوارج النهروان: "إنّه لا يقتل منّا في حربهم عشرة ولا ينجو منهم إلاّ عشرة"7 وقد حدث ما قال عليه السلام.

وما قاله حول موضع قبر الإمام الحسين عليه السلام عند مروره بكربلاء للأصبغ بن نباتة8، وفي كتاب فضائل الخمسة وردت روايات كثيرة عن كتب أبناء العامّة حول علم الإمام الخارق للعادة، وذكرها يطول في هذا المقام9.

وذكرت أيضاً روايات عديدة في هذا الباب عن لسان الأئمّة المعصومين عليهم السلام, منها ما ذكر في كتاب الكافي المجلد الأوّل من تصاريح وإشارات متعددة في أبواب عديدة منه.

وقد أورد المرحوم العلاّمة المجلسي في كتابه بحار الأنوار المجلد (26) أحاديث كثيرة في هذا الإطار تبلغ 22 حديثاً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ روايات في باب علم الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم والائمّة المعصومين عليهم السلام بأسرار الغيب هي على حدّ التواتر، أمّا كيف نجمع بين هذه الآيات والرّوايات التي ينفي بعضها علم الغيب لغير اللّه وإثبات البعض الآخر لغيره تعالى؟ هناك طرق مختلفة للجمع بينها:
1ـ أشهر طرق الجمع هو أنّ المراد من اختصاص علم الغيب باللّه تعالى هو العلم الذاتي والإستقلالي، ولهذا لا يعلم الغيب إلاّ هو، وما يعلمونه فهو من اللّه، وذلك بلطفه وعنايته، والدليل على هذا الجمع هو تلك الآية التي بُحثت من قبل والتي تقول: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *  إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ.

وقد اُشير إلى هذا المعنى في نهج البلاغة عندما كان أمير المؤمنين عليه السلام يُخبرُ عن الحوادث المقبلة (وهو يتصور هجوم المغول على البلاد الإسلامية) فقال أحد أصحابه: يا أمير المؤمنين، هل عندك علم الغيب؟ فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام وقال: "ليس هو بعلم غيب، إنّما هو تعلم من ذي علم"10.

وقد وافق على هذا الجمع كثير من العلماء المحققين.


1 ـ آل عمران، 49.
2 ـ شرح هذه الحادثة ودليله في هذا المجلد في تفسير سورة الممتحنة.
3ـ كامل ابن الأثير، ج2، ص237، (حادثة غزوة مؤتة).
4 ـ مستدرك الصحيحين، ج2، ص358.
5 ـ طبقات ابن سعد، ج5، ص30.
6 ـ الإصابة لابن حجر، ج5، القسم 3، ص325.
7 ـ الهيثمي في المجمع، ج6، ص241.
8 ـ الرياض النضرة، ج3، ص222.
9 ـ فضائل الخمسة، ج2، ص231 الى 253.
10 ـ نهج البلاغة، الخطبة 128.

2016-06-13