إنّ سمعنا الحقّ فأطعناه
بحوث من سورة الجن
في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون:
عدد الزوار: 148
﴿وَأَنَّا
مِنَّا الصَّـلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً * وَأَنَّا
ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً *
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ
يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقَاً * وَأَنَّا مِنَّآ المُسْلِمُونَ وَمِنّآ
القِـسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا
القَسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾
(سورة الجن:
11- 15).
في هذه الآيات يستمر مؤمنو الجن في حديثهم وهم يبلغون قومهم الضالّين فيقولون:
﴿وَأَنَّا
مِنَّا الصَّـلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً﴾.
ويحتمل أن يكون المراد من قولهم هذا هو أن وجود إبليس فيما بينهم قد أوجد شبهة
لبعضهم، بأنّ الجن متطبّع على الشرّ والفساد والشيطنة، ومحال أن يشرق نور الهداية
في قلوبهم.
ولكن مؤمني الجن يوضحون في قولهم هذا أنّهم يملكون الإختيار والحرية، وفيهم الصالح
والطالح، وهذا يوفرّ لهم الأرضية للهداية، وأساساً فإنّ أحد العوامل المؤثرة في
التبليغ هو إعطاء الشخصية للطرف المقابل، وتوجيهه إلى وجود عوامل الهداية والكمال
في نفسه.
واحتمل أيضاً أنّ الجن قالوا ذلك لتبرئة ساحتهم من موضوع الإساءة في مسألة استراق
السمع أي: وإن كان منّا من يحصل على الأخبار عن طريق استراق السمع ووضعها بأيدي
الأشرار لتضليل الناس، ولكن لا يعني ذلك أنّ الجن كلهم كانوا كذلك، ولهذه الآية
تأثير في إصلاح ما اشتبه علينا نحن البشر في عقائدنا حول الجن، لأنّ كثير من الناس
يتصورون أنّ لفظة الجن تعني الشيطنة والفساد والضلال والإنحراف، وسياق هذا الآية
يشير إلى أنّ الجن فصائل مختلفة، صالحون وطالحون.
"قدد": على وزن (ولد) وهو جمع قد، على وزن
(ضد) وتعني المقطوع، وتطلق على الجماعات المختلفة، لأنّها تكون على شكل قطع منفصلة
عن بعضها.
وفي إدامة حديثهم يحذرون الآخرين فيقولون:
﴿وَأَنَّا
ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً﴾
وإذا كنتم تتصورون أنّكم تستطيعون الفرار من جزاء وتلتجئون إلى زاوية من زوايا
الأرض أو نقطة من نقاط السماوات فإنّكم في غاية الخطأ.
وعلى هذا الأساس، فإنّ الجملة الأُولى إشارة إلى الفرار من قبضة القدرة الإلهية في
الأرض، والجملة الثّانية إشارة إلى الفرار المطلق، الأرض والسماء.
ويحتمل أن يكون تفسير الآية هو أنّه الجملة الأُولى إشارة إلى أنّه لا يمكن الغلبة
على اللّه، والجملة الثّانية إشارة إلى أنّه لا يمكن الفرار من قبضة العدالة، فإذا
لم يكن هناك طريق للغلبة ولا للفرار، فلا علاج إلاّ التسليم لأمر اللّه تعالى
وعدالته .
وأضاف مؤمنو الجن في حديثهم قائلين:
﴿وَأَنَّا
لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ءَامَنَّا بِه﴾ِ
وإذ ندعوكم لهدى القرآن فإنّنا ممّن عمل بذلك أوّلاً، ولذا نحن لا ندعو الآخرين إلى
أمر لم نكن فاعليه.
ثمّ بيّنوا عاقبة الإيمان في جملة قصيرة واحدة فقالوا:
﴿فَمَن
يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقَاً﴾.
"بخس": على وزن (شخص) ويراد به النقص على سبيل
الظلم.
"رهق": على وزن (سقف) يراد به ـ وكما أشرنا من
قبل ـ غشيان السيء بالقهر، وقال البعض: إنّ البخس هو عدم نقصان شيء من حسناتهم،
والرهق: هو عدم إضافه شيء إلى سيئاتهم، قيل البخس: هو نقص الحسنات، والرهق:
التكاليف الشاقة، على كل حال فالمراد هو أن المؤمنين مهما يعملوا من عمل كبيراً كان
أو صغيراً فإنّهم يستوفون أُجور ذلك بلا نقص أو قلّة، وصحيح أن العدالة الإلهية غير
منحصرة بالمؤمنين، لكنّ الطالحين ليس لهم عمل صالح، فليس هناك ذكر لاُجورهم.
وفي الآية الأُخرى توضيح أكثر حول عاقبة المؤمنين والكافرين فيقولون:
﴿وَأَنَّا
مِنَّآ المُسْلِمُونَ وَمِنّآ الْقَاسِطُونَ1 فَمَنْ أَسْلَمَ
فَأُوْلَـئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدا﴾2.
﴿وَأَمَّا
الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾.
الملاحظ في الآيات أن كلمة "المسلم" جاءت مقابل كلمة "الظالم"،
وإشارة إلى أن ما يقي الإنسان من الظلم هو الإيمان، وإذا لم يكن الفرد مؤمناً فإنّه
سوف يظلم بأي شكل من الأشكال، وكذا تشير إلى أنّ المؤمن الحقيقي هو المؤمن الذي لا
يظلم، كما في حديث النّبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "المؤمن من آمنه
الناس على أنفسهم وأموالهم"3.
وجاء في حديث آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿وَأَمَّا
القَسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾4.
والتعبير بـ (تحروا رشداً) يشير إلى أنّ المؤمنين إنّما يتوجهون إلى الهدى بالتحقيق
والتوجه الصادق، وليس بالغفله والأغماض، وجزاءهم الأوفى هو نيلهم الحقائق التي
بظلها ينالون النعم الإلهية، والظالمون هم في أسوأ حال، حيث إنّهم حطب لجهنم، أي
أنّ النار تلتهب في أعماق وجودهم.
1 ـ "القاسط" من
أصل (قسط) وتعني التقسيم العادل، فإن أتت على وزن (أفعال)، (أقساط) فإنّها تعني
إجراء العدالة، وإذا استعملت بصورة الثّلاثي المجرّد كما في هذه الآية فإنّها
تعطي معنى الظلم والإنحراف عن سبيل الحقّ.
2 ـ "تحروا": من أصل تحري وتعني توخيه وقصده.
3 ـ تفسير روح البيان، ج10، ص195.
4 ـ اُصول الكافي، ج2، باب المؤمن وعلاماته وصفاته.