ماهيّة الشيطان ودوره
فكر الشهيد مطهري
تطرح قضية الشيطان إشكالاً واضحاً حول العدل الإلهي، مفاده أنّ الشيطان هو قوّة خارجة عن إرادة الإنسان، وهي تجبره على فعل المعاصي أو تحمله على ارتكاب الذنوب والخطايا،
عدد الزوار: 230
تمهيد
تطرح قضية الشيطان إشكالاً واضحاً حول العدل الإلهي، مفاده أنّ الشيطان هو قوّة
خارجة عن إرادة الإنسان، وهي تجبره على فعل المعاصي أو تحمله على ارتكاب الذنوب
والخطايا، فيصبح بذلك مستحقّاً للعقاب. ويسأل بعض الناس عن العدل في أن نحرّك
الإنسان ونحرّضه على أفعال سيعاقب عليها.
هناك من يتصوّر أنّ الإنسان بدون الشيطان ما كان ليعصي ربّه فيستحق بذلك العقاب،
وكأنّ الشيطان من أدوات الجبر الإلهي، ونقرأ في دعاء الإمام زين العابدين عليه
السلام: "فلولا أن يختدعهم الشيطان عن طاعتك ما عصاك عاص"1. فكيف نفهم حقيقة
الشيطان ودوره؟ وهل يتنافى ذلك مع العدل الإلهي؟
محدودية دور وسلطة الشيطان
توجد عدّة نقاط فيما يرتبط بمسألة الشيطان، أولاها: أنّ المستفاد من القرآن الكريم
هو أنّه كان قبل خلق الإنسان ضمن صفوف الملائكة، ثمّ طرد وأخرج من صفوفهم بعد ذلك.
والثانية: أنّ القرآن الكريم يصرّح بأنّه يوسوس في صدر الإنسان، فقد حكى قوله:
﴿لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ﴾2، ويستفاد من هذه الآية أنّ الشيطان يغوي
الناس بتزيين القبائح لهم، أي إنّ طريقه الوحيد للنفوذ إلى قلوبهم هو طريق
الإدراكات والعواطف.
كما يستفاد من الآيات الكريمة أنّ سلطة الشيطان على الناس محدودة كما يصرح بذلك
الشيطان نفسه طبق ما حكاه القرآن من قوله:
﴿وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ
عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾3، وهذا ما تصرّح به آية أخرى، بل وتحدد أكثر
قدرته على التأثير على الناس بالطائفة التي تخضع طوعياً لسلطته وولايته، وهي قوله
تعالى:
﴿إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾4، فالمستفاد من هذه
الآية أنّه عاجز عن التسلّط على الذين لا يخضعون لولايته أو يتقرّبون منه. وأوضح
منها الآية الكريمة التي تتحدَّث عن التنازع الذي سيقع بين الشيطان والمذنبين في
يوم القيامة، وهي تنقله بصيغة الماضي في إشارة إلى حتمية وقوعه:
﴿وَقَالَ
الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ
وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ
أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم
مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ
أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ﴾5. الآية الكريمة تبيّن أن الشيطان يلقي المسؤولية في
ذلك الموقف، وبعد انقضاء الأمر، على الإنسان الذي أضلّه، مستنداً إلى أنّه لم يقدّم
له سوى وعوداً كاذبة:
﴿إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ﴾، ومعنى قوله هو: إنّ سلطتي عليكم لم تتجاوز حدود سلطة الله،
فالله وعدكم الخير والثواب إن عملتم صالحاً، دون أن يجبر أحداً منكم على ذلك، وأنا
أيضاً وعدتكم فقط، وما كان لي على أحد منكم سلطان أجبره به على ارتكاب ما دعوتكم
إليه، بل أنتم الذين سارعتم إلى الاستجابة لي.
وتشير آية أخرى إلى أنّ سرعة مبادرة الضالين في الاستجابة للشيطان، إذ تصرح بأنهم
يسارعون إلى الالتفاف حوله بمجرد سماع صوته الذي يستفزهم به:
﴿وَاسْتَفْزِزْ مَنِ
اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ
وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾6.
فالشيطان ينفي أن تكون أزمّته التي يلجم بها الناس تجبر الناس على ارتكاب المعاصي،
فهي لا تعدو في دورها دور الدعوة والتزيين، ولذلك فمسؤولية الوقوع في المعاصي تقع
على الذين سارعوا إلى الاستجابة لدعوته:
﴿إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ
لِي﴾، ولذلك فهو يلقي اللوم في وصول الذين اتّبعوه إلى هذا المصير عليهم أنفسهم،
فيخاطبهم بالقول:
﴿فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم﴾.
ثمّ يبيّن لهم - بعد إلقاء اللوم عليهم - عجزه عن نفعهم بشيء، وإنقاذهم ممّا هو فيه
يوم القيامة، وعجزهم هم أيضاً عن تقديم أيّ نفع أو عون له:
﴿مَّا أَنَاْ
بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ﴾.
ويختم الشيطان احتجاجه على أتباعه بالتبرّؤ ممّا وقعوا فيه، وينزّه نفسه عنهم،
ويعرض نفسه كمصداق للموحّد، فيقول لهم: إنّني أكفر باتخاذكم لي شريكاً في مقابل
الله، وأنا بريء من المشركين:
﴿إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ﴾7.
من هنا، يتّضح أنّ الشيطان - في الرؤية القرآنية - عبارة عن وجود باطني معنوي ينحصر
نشاطه في دائرة دعوة الناس إلى الشرّ وارتكاب المعاصي، وهذه مجرد دعوة خالية من
الإجبار8.
ولا شكّ بأنّه ينطلق في هذه العملية الإغوائية من عداء شديد لله أولاً وللإنسان
ثانيًا، باعتبار دور الخلافة الإلهية الذي ينبغي أن ينهض به في عالم الوجود، بل
لكونه خليفة الله في معنى التحقّق بأسمائه وصفاته العليا، وكونه مظهرا لجماله
وعظمته.
وجود الشيطان ضرورة لتحقّق الخير للإنسان
لا تخلو الدنيا أبداً من دعوتين، الأولى للخير والصلاح، والثانية للشرّ والفساد،
وعلى الإنسان أن يختار بإرادته الاستجابة للدعوة الأولى:
﴿وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ﴾9،
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا
كَفُورً﴾10. ويقال إنّه لولا وجود النفس الأمّارة بالسوء في داخل الإنسان، ولولا
الشيطان الذي يوسوس لها من الخارج، ولولا وجود هذه الدعوات للشرّ والفساد، ولولا
وجود القدرة على الشرّ والفساد في الإنسان، لولا كلّ ذلك لما كان للخير من معنى
بالنسبة للإنسان، لأنّ وجود الخير للإنسان مرهون بأن يختاره الإنسان، وهو قادر على
اختيار الشرّ.
أمّا إذا كان الخير هو خياره الوحيد، وإذا كان ميله إلى التقوى فقط، ولم يكن ألهم
بالفجور والتقوى معاً حسب التعبير القرآني:
﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَ﴾11, فلن تكون تقواه في هذه الحالة حقيقية، لأنّ مفهوم التقوى والعدالة
لا يتحقّق إلاّ إذا كان في الإنسان ميل للفجور، لكنّه يرتدع عنه ويتمسك بعُرى
التقوى والعدالة، ولا يمكننا أن نقول: إنّ الله أمرنا وقد سمعنا وأطعنا، إذا كنّا
مجبرين على الطاعة. فلا معنى للطاعة هنا ولا تكون سبباً للمدح أو الذم، والثواب
والعقاب، ولا يكون في هذه الحالة وجود للتكليف ولا للقانون ولا للمجتمع الإنساني
ولا للإنسان نفسه!
من هنا يتّضح أنّ مفهوم العمل الصالح وصدوره من الإنسان لا يتحقّق بغير وجود
الشيطان ودعواته للشر، لأنّ صلاح العمل مرهون بأن يختار الإنسان سبيل الخير، وهو
قادر على اختيار نقيضه، والأمثلة التوضيحية لذلك كثيرة، فمثلاً إذا كان أحد الأشخاص
يخضع لمراقبة مشدّدة تسلبه أيّ إمكانية لسرقة شيء، وبقي على هذه الحالة عشرين سنة
ولم يسرق شيئاً، فهل يمكن مقارنته بشخص آخر بإمكانه سرقة الملايين من الأموال
العامّة، لكنّه لم يسرق شيئاً؟ وأيّ منهما هو الأمين الذي تحلّى بكمالات الأمانة
والعفة؟ لا يخفى أنّ عدم وقوع الأول في السرقة لعدم تمكّنه من ذلك لا يشكّل فضيلة
له.
وبناءً على ما تقدّم، يمكن القول بأنّ وجود الشيطان ضروري في النظام الكلي. ونحن
عندما نتحدّث عن النفس الأمّارة بالسوء والشيطان، وكذلك الفطرة والملك الداعي
للخير، فإنّ مرادنا هو مصادر الإلهام والدعوة للخير وللشر. وقد ورد في الأحاديث
الشريفة "إنّ للقلب أذنين"، يدعوه عبر الأولى الملك للخير والعمل الصالح، فيما
يدعوه عبر الثانية الشيطان للشرّ والعمل السيّئ، والإنسان مخيّر بين الاستجابة لهذه
الدعوة أو تلك، وهذا يعني عدم وجود مصداق للعمل الصالح، وبالتالي للسعادة الناشئة
عنه لولا وجود الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء12.
وبعبارة ثانية يكون للشيطان دور استخراج الشرّ الكامن في نفس الإنسان من خلال تزيين
مقتضياته من الأعمال السيئة. فمن كان يعيش سوء الظن بالله في قلبه، فإنّ الشيطان
يُزيّن له البخل والجبن والحرص، وهي غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ بالله تعالى كما
قال أمير المؤمنين ونُقل عنه في نهج البلاغة، لأنّ من ساء ظنّه بالله تعالى، ولم
يعرف أنّ الله تعالى نِعْم المولى ونِعْم النصير وأنّه خير وكيل، فسوف يجبن عن لقاء
الأعداء ومواجهتهم، وسوف يمتنع عن الإنفاق والبذل، ويصبح حريصًا على الجمع
والتكديس. فالشيطان يصور له هذه الأخلاق والحالات النفسية بصورة جميلة لتخرج من
كمونه وخفائه واستتارها في الباطن الإنساني إلى العلن.
وهنا نجد فائدة عظيمة لمثل هذه العملية، حيث يتمكّن الإنسان من اكتشاف حقيقة ما
تضمره نفسه، لعله ينهض لمعالجتها وإصلاحها.
إنّ الشيطان لا يمكن أن يجبر إنسانًا واحدًا على أيّ فعل فيما إذا كان هذا الإنسان
يستعيذ بالله ويلجأ إليه. وهذه الاستعاذة ليست بالأمر الصعب أو المستحيل على
الإنسان، وإنّما عليه أن يعرف مدى عداوة إبليس له ولربّه، وأن يعلم أنّه لوحده لا
يمكنه أن ينتصر عليه، وأنّ نفسه أمارة بالسوء بطبيعته غير المهذّبة. فلولا تيقّن
بذلك كّله، واستعاذ بالله تعالى بقلب منيب، فلن يكون لغواية الشيطان من أثر عليه
سوى الآثار الإيجابية التي تشبه الآثار الطيبة التي تحصل للمجاهد في سبيل الله
تعالى في ساحة الجهاد والمواجهة مع أعداء الله تعالى.
إنّ إبليس وجنوده يريدون للإنسان أن يكون معهم من أهل النار، لكنّ الله ضمن لمن لجأ
إليه واستعاذ به أن يجعل هذه العداوة لمصلحته. كما حصل لأبينا آدم عليه السلام الذي
أخرجه الشيطان من تلك الجنّة، فلمّا تلقّى من ربّه تلك الكلمات الوسيلة وتاب إليه،
رفعه الله تعالى إلى فوق ما كان فيه من جنّة عالية.
1- الصحيفة السجادية.
2- سورة الحجر، الآية 39.
3- سورة الحجر، الآيتان 39- 40.
4- سورة النحل، الآية 100.
5- سورة إبراهيم، الآية 22.
6- سورة الإسراء، الآية 64.
7- العدل الإلهي، ص 505 - 506
8- (م. ن)، ص 506.
9- سورة البلد، الآية10.
10- سورة الإنسان، الآية 3.
11- سورة الشمس، الآية 8.
12- العدل الإلهي، ص 506 – 508.