يتم التحميل...

حقيقة الشّرك ودرجاته

فكر الشهيد مطهري

مثلما أنّ للتّوحيد رؤيته الكونيّة وتصوّره حول الحياة والمصير، كذلك الشرك، له رؤيته وأيديولوجيّته، وهو الذي يمثّل أوسع العقائد انتشارًا حتى بين المؤمنين بالله تعالى!

عدد الزوار: 115

أنواع الشرك ومراتبه
مثلما أنّ للتّوحيد رؤيته الكونيّة وتصوّره حول الحياة والمصير، كذلك الشرك، له رؤيته وأيديولوجيّته، وهو الذي يمثّل أوسع العقائد انتشارًا حتى بين المؤمنين بالله تعالى! حيث يقول الله في كتابه العزيز: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ1. وكما سوف يتّضح، فإنّ الشرك لا ينحصر في إطار الاعتقاد بوجود عدّة ألهة على صعيد الإيجاد أو الخلق، بل إنّه يظهر في الاعتقاد بالأسباب العديدة والمؤثّرات المختلفة إلى جانب الله ومثل هذا الشرك ومع أنّه لا دليل عليه لكن أكثر الناس يعجزون عن إقامة الدليل على نفيه أو إقامة الدليل على ضدّه الذي هو التوحيد في الأفعال.

وكما أنّ للتوحيد مراتب ودرجات، كذلك الشرك له بدوره مراتب، ومن مقارنة مراتب التوحيد بمراتب الشرك، يمكننا معرفة الشرك كما يمكننا معرفة التوحيد بصورة أفضل، بحكم قاعدة "تُعْرَف الأشياء بأضّدادها"2.

كان إلى جانب التوحيد الإلهي الذي بشّر به الأنبياء منذ فجر التاريخ ألوان من الشّرك، منها:

الشرك الذاتي3
بعض الأمم كانت تؤمن بالثنوية أو بالتثليث أو بعدّة مبادئ أزلية قديمة مستقلّة عن بعضها، كانوا يعتقدون أنّ للعالم عدّة أقطاب تديره أو محاور يدور حولها.

ويشار إلى مبدأ الوجود عادة بالألوهية وهي تعني استقلال الرب وغناه المطلق والاعتقاد بوجوب وجوده. إن أهم عنصر في تفسير الألوهية هو الغنى الذاتي، وما لم يكن الإله متصفا بهذه الخاصية فلا يمكن عدّه إلها في الحقيقة.

والقول بأن هناك عدة مبادئ لهذا العالم قد يحمل معه الاعتقاد بوجود عدة آلهة واجبي الوجود ومستقلين في وجودهم. ومثل هذا كما سيتضح في مباحث التوحيد يعني إنكار الألوهية من أساسها، لأن وجود أكثر من واجب للوجود يعني محدودية الواجب وهذه المحدودية بدورها تعني كونه غير مستقل بذاته ولا مستغن.

من أين ينشأ الشرك؟ يحلو للبعض أن يفسّر كل الظواهر الإنسانية على أساس النظام الاجتماعي السائد أو النظام الاقتصادي بالخصوص، وقد ذهب هؤلاء إلى تفسير التثليث والثنوية والتوحيد على أساس طبيعة انقسام النظام الاجتماعي إلى ثلاثة أقطاب أو قطبين أو اتّجاهه نحو قطب واحد، وأن هذا الانقسام الاجتماعيّ هو الذي يرسم معالم تفكير الأفراد ونوعية إيمانهم بمبدأ العالم.

وهذا التفسير ينطلق من نظرية فلسفية، وهي نظرية تؤمن بأنّ كل الجوانب الروحية والفكرية للإنسان وكل المؤسّسات المعنوية للمجتمع، مثل العلم والقانون والفلسفة والدِّين والفن، هي أمور تابعة للأنظمة الاجتماعية القائمة على النّظام الاقتصاديّ خاصّة. وحيث أنّنا نؤمن بأصالة واستقلال الفكر والأيديولوجية والإنسانيّة، فنحن نرفض هذه النظرية لتفسير الشرك والتوحيد.

وهنا لا بدّ أن نشير إلى مسألة أُخرى كي لا تختلط بالمسألة السابقة، وهي: إنّ العقيدة والدِّين قد يُستخدمان في نظام اجتماعي لتحقيق أغراض مصلحية، كما استخدم مشركو قريش عبادة الأصنام لحفظ عائداتهم الاقتصادية ومراكزهم الاجتماعية. غير أنّ كبار المرابين من حماة نظام الشرك الجاهلي، مثل أبي سفيان وأبي جهل والوليد بن المغيرة، لم يكن لديهم إيمان بهذه الأصنام، وإنّما دافعوا عنها للحفاظ على النظام الاجتماعي القائم. وهذا الدفاع اتّخذ صورة جادّة حين بزغ فجر الإسلام المعادي للنظام الاستثماري والربوي. حماة الأصنام رأوا في الإسلام خطراً يهدّد مصالحهم، ومن هنا هبّوا لمجابهته متذرِّعين بالمحافظة على حرمة العقائد السائدة.

القرآن الكريم أشار إلى المسألة المذكورة في أمكنة عديدة، وفي قصّة فرعون وموسى خاصّة، لكنّ هذه المسألة هي غير مسألة تفسير الأوضاع الفكرية والإيمانية على أساس القاعدة الاقتصادية.

والقرآن الكريم يعتبر الفطرة التوحيدية العامّة للبشر بناءً تحتياً وحيداً للتوحيد، ويرفض اعتبار الظروف الطبقية عاملاً جبرياً لظهور الفكر والعقيدة. فلو كان للظروف الطبقية مثل هذا الدور لما استحقّ فرعون اللوم، ولما استحقّ الثائرون على فرعون ثناءً، لأنّ الإنسان بموجب هذه النظرية المادّية مرغم على الاتّجاه في أفكاره وعقائده نحو متطلّبات طبقته الاقتصادية.

وإنّما يستحقّ الإنسان اللوم أو الثناء حين يستطيع أن يكون في وضع غير الوضع الذي هو عليه. أمّا إذا لم يستطع أن يغيّر ما عليه فلا يستحقّ لوماً ولا ثناء. فهل تستطيع مثلاً أن تُطري أو تلوم إنساناً أسود أو أبيض على لونه؟!

نحن نعلم أنّ الإنسان غير أسير لوضعه الطبقيّ ويستطيع أن يثور ضدّ مصالحه الطبقية، كما ثار موسى المتربّي في بلاط فرعون. ومثل هذه الثورة خير دليل على أنّ التفسيرات الاقتصادية للأحداث لا تعدو أن تكون خرافة، إضافةً إلى أنّها تسلب الإنسان إنسانيّته.

هذا لا يعني طبعاً أنّ الوضع المادي والوضع الفكري لا يتبادلان التأثير، بل يعني رفض أن يكون أحدهما بناءً تحتياً، والآخر بناء فوقياً. القرآن الكريم أقرَّ التأثير المتبادل بين الوضع المادي والوضع الفكري إذ قال: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى4.

دفاع فرعون وأبي سفيان ونظائرهما عن نظام الشرك القائم لم يصدر - في نظر القرآن - من وضعهم الطبقي، ولم يكن ردّ فعل إلزامياً ناتجاً من متطلبات وضعهم الاجتماعي. بل إنّ القرآن يرى أنّ مواقف هؤلاء ناتجة من روح اللجاج فيهم، فهؤلاء كانوا بفطرتهم يعرفون الحقيقة، ثمّ ينكرونها: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ5.

القرآن يصف كفر هؤلاء بأنّه كفر جحودي، أي إنكار باللسان مع إقرار بالقلب، بعبارة أُخرى يعتبر كفرهم تمرّداً على حكم الوجدان.

الشرك في الخلق6
بعض الأمم آمنت بأنّ الله هو المبدأ الوحيد للعالم، ولا نظير له في ذاته، لكنّ أبناءها كانوا يعتقدون بوجود قوى أُخرى شريكة لله في الخالقية، فقد قال بعضهم: إنَّ الله لم يخلق " الشرور"، بل هي مخلوقة من مصادر أُخرى، ويعني هذا وجود خالق للخير وخالق للشر7.

وأدّى وجود الشر في العالم ببعض آخر إلى التوجّه نحو "الثنوية"، فقالوا بما أنّ الخيرات والشرور متباينة بالذات، يلزم أن يكون لكلٍّ منهما مصدر وخالق مستقلّ، لاستحالة أن يصدرا من مبدأ واحد. على أنّ "الثنوية" يتبنّاها أولئك الذين يرون أنّ خالق الوجود ذو فكر وإرادة، فادّعوا أنّ الموجود الذي يريد بذاته الخير لا يمكن أن ينطوي على إرادة الشرّ، والموجود الذي يريد بذاته الشرّ لا يمكن أن ينطوي على إرادة الخير. ومن هنا، فللعالم مبدآن، أحدهما خير محض لا يريد سوى الخير، والآخر شرّ محض لا يريد سوى الشرّ والفساد. أمّا أولئك الذين لا يرون خالق الوجود أو آلهة الخلق ذوي فكر وإدراك، ولا يعتقدون بقدرته أو قدرتهم على تمييز الخير من الشرّ، فليسوا بحاجة إلى فرضية "الثنوية"8.

وينفي القرآن الكريم بلغة واضحة العقيدة الثنويّة التي تقول بوجود مبدأين مستقلّين، ويصرّح بنفيها بكلّ وضوحٍ في الآية الأولى من سورة الأنعام، فيقول: ﴿الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ9، فهو سبحانه جاعل الظّلمات، وهو نفسه جاعل النّور10.

وبعضهم قالوا بوجود آلهة متعدّدة للمطر والشمس والكواكب والإنسان و... وهذا الشرك في الخالقية والفاعلية يتعارض مع التوحيد الأفعاليّ، مثلما أنّه يتعارض مع التوحيد الذاتي.

فعندما يعتقد الإنسان بوجود عدّة آلهة، فلا شكّ سيعتقد بتعدّد مصادر التدبير في هذا العالم. وهو معنى (الأرباب المتفرقون) بدل أن يكون الله الواحد القهار. ولا شكّ بأنّ ممارسة العبادة لمثل هؤلاء من أكبر الكبائر من حيث الذنوب، لأنّها تجرّ إلى كلّ شرّ وفساد.

الشرك في الخالقية بدوره ذو مراتب. وبعض مراتب الشرك لا تكون ظاهرة في سلوك الإنسان، وإنّما تكمن في قلبه وفي اعتقاده بتأثير غير الله بنحو مستقلّ أو مشارك لله سبحانه، ويطلق على هذا النوع من الشرك الشرك الخفي غير الجليّ، الذي قيل بأنّه لا يؤدّي إلى خروج المبتلى به عن كونه من المسلمين11.

الشرك في الصفات
هذا اللون من الشرك غير مطروح بين عامّة الناس لدقّته، ويختصّ ببعض المفكرين المهتّمين بهذه المسائل من الذين يفتقدون العمق اللازم والأهليّة الكافية. الأشاعرة، من هؤلاء المتكلمين المسلمين الذين وقعوا في مثل هذا الشرك، وهذا الشرك هو أيضاً شرك خفيّ، ولا يستلزم الخروج من حوزة المسلمين12. ومؤدّى كلامهم عدم القول بعينية الذات للصفات، ممّا يستلزم أن يكون هناك قدماء عدّة. لقد نُقل عنهم أن الذات الإلهية هي شيء، وكلّ صفة من صفاتها الحسنى شيء آخر. وربّما لم يتعقّل هؤلاء معنى العينية، فوقعوا بالشرك من حيث لا يدركون! فقد ذهبوا إلى أنّ الحقّ متّصفٌ بمجموعة صفات، وبحكم كون الصفة مغايرة لذاته، وبعبارةٍ أخرى: إنّ صفاته زائدة على الذّات. وحيث إنّ الموصوف قديم الوجود يلزم أن تكون الصّفات قديمة وواجبة كالموصوف. إذًا، صفات واجب الوجود كذات الواجب واجبة وقديمة أيضًا. ومن هنا اعتقد الأشاعرة بالقدماء الثّمانية13.

بعضهم يفسّر الشرك في الصفات بمعنى مشاركة المخلوقين لله تعالى في بعض صفات الكمال، أو بكون بعض الصفات موجودة في الإنسان على نحو الاستقلال. فكما قيل في الاستقلال في التأثير، يقال هنا في مجال القدرة مثلا. ويعني ذلك أنّ الإنسان، وإن كان وجوده أو خلقه من الله تعالى، لكنّه يستقلّ في القدرة، وكأنّ قدرته تنبع من ذاته. بينما يؤكّد التوحيد الصفاتي على أنّ كلّ صفة كمالية في أيّ مخلوق وجدت، فهي قائمة بالله تعالى. ولا يمكن أن يبقى أيّ مخلوق على صفة أو كمال إلا في عين قيامه بالله سبحانه.

الشرك في العبادة14
بعض الأُمم عبدت الحجارة أو المعدن أو الحيوانات أو الكواكب أو البحر، مثل هذا الشرك كان شائعاً بين الأُمم الغابرة، ولا زال مشهوداً في بعض بقاع العالم، وهو شرك في العبادة، ويقع في النقطة المقابلة للتوحيد في العبادة.

إنّ سائر مراتب الشرك المذكورة أعلاه شرك نظري ونوع من المعرفة الكاذبة، غير أنَّ هذا الشرك عملي، ونوع من "الكينونة" و"الصيرورة".

الشرك العملي بدوره ذو مراتب، أعلى مراتبه هو الشرك الجليّ المؤدّي إلى خروج المشرك من حوزة الإسلام. وهناك أنواع من الشرك الخفي حاربها الإسلام في منهج التوحيد العملي.

بعض ألوان الشرك خفّية إلى درجة تصعب رؤيتها حتى بأقوى المجاهر، وإلى هذا اللون من الشرك الخفي يشير الإمام العسكريعليه السلام في حديثه : "الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذرّ على الصّفا في الليلة الظلماء، ومن دبيب الذرّ على المِسْحِ الأسود"15.

الإسلام رفض كلّ أنواع عبادة الهوى والمال والمنزلة والفرد، واعتبرها شركاً. القرآن الكريم يعبِّر عن تسلّط فرعون الجائر على بني إسرائيل بأنَّه "استعباد"، فيقول على لسان موسى مخاطباً فرعون: ﴿وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ16.

ومن الواضح أنَّ بني إسرائيل لم يكونوا يعبدون فرعون ولم يكونوا عبيداً له، بل كانوا فقط راضخين لسيطرة فرعون الطاغوتية الظالمة، القرآن ينقل عن لسان فرعون أيضاً هذه السيطرة وهذه العبداية إذ يقول: ﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ17، ويقول: ﴿وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ18.

والآية الأخيرة تقرّر على لسان فرعون وسائر الفراعنة (أو ملأ فرعون في التعبير القرآني) أنّ قوم موسى وهارون كانوا يعبدونهم. وهذه قرينة واضحة على أنّ المقصود بالعبادة هنا هو الطاعة المفروضة على بني إسرائيل، لأنَّ العبادة بالمعنى الخاصّ لا يمكن أن تتّجه إلّا إلى شخص فرعون نفسه.

وأوضح من كلّ ما سبق دلالة على أنَّ الطاعة لغير الله عبادة، الآية الكريمة: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئً19.

وعبارة ﴿يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئً تشير إلى أنَّ المؤمنين الصالحين يتحرّرون من الطاعة للجبابرة في ظلّ الدولة الإلهيّة، ونفهم منها أنّ الطاعة عبادة، فإن كانت طاعة لله فهي عبادة الله، وإن كانت طاعة لغير الله، فهي شرك بالله.


1- سورة يوسف، الآية 106.
2- المفهوم التّوحيدّي للعالم، ص 51.
3- (م.ن)، ص 51 -55.
4- سورة العلق، الآيتان 6 و 7.
5- سورة النمل، الآية 14.
6- المفهوم التّوحيدّي للعالم، ص 55-56.
7- (م. ن)، ص 55.
8- أصول الفلسفة والمنهج الواقعيّ، ج2، ص581 - 582.
9- سورة الأنعام، الآية 1.
10- مطهري، مرتضى، التّوحيد، دار الحوراء للطباعة والنشر، ترجمة عرفان محمود، ص 486.
11- المفهوم التّوحيدّيّ للعالم، ص 56. (بتصرّف).
12- (م. ن)، ص. 56.
13- مطهري، مرتضى، شرح المنظومة، مؤسّسة أمّ القرى للتحقيق والنّشر، ترجمة السيّد عمّار أو رغيف، الطّبعة الثانية، 2009م. ص 383.
14- المفهوم التوحيدي للعالم، ص 56-58.
15- بحار الأنوار، ج50، ص250.
16- سورة الشعراء، الآية 22.
17- سورة الأعراف، الآية 127.
18- سورة المؤمنون، الآية 47.
19- سورة النور، الآية 55.

2016-05-30