أفنيت عمري
فضل شهر شعبان وأعماله
(إلهي وقد أفنيت عمري في شرة السهو عنك ، وأبليت شبابي في سكرة التباعد منك..): إن البعض قد تقتضي ظروفه الحياتية عدم وقوعه في المعاصي الكبرى
عدد الزوار: 79
1- (إلهي وقد أفنيت عمري في شرة السهو عنك ، وأبليت شبابي
في سكرة التباعد منك..): إن البعض قد تقتضي ظروفه الحياتية عدم وقوعه في
المعاصي الكبرى ؛ نظراً لكون طبيعة حياته طبيعة خالية من أرضية المعصية ، وهذه نعمة
لا تنكر من نعم الله عزوجل.. إلا أن الإمام (ع) هنا يفتح باباً أخر للتدبر ومحاسبة
النفس ومعاتبتها ومعاقبتها ، ألا وهو باب الغفلة.. فلئن سلم الإنسان من الوقوع في
الحرام ، فليحذر هذا الباب أيضاً !.. إذ كم من القبيح أن يتصرف الإنسان في حياته
وكأنه لا مالك له !.. فهب أنه لم يرتكب الذنب ، ولكن هذه الغفلات المتتابعة تحتاج
منه إلى استغفار شديد ، لأنه نوع من استخفاف بوجود المولى جل اسمه.. ومن هنا يُفهم
موقف ولي الله تعالى إذا ما أكل طعاماً بدون تسمية ، إذ يعتبر نفسه وكأنه أكل
ميتة.. فإذن ، فكما أن الذنوب توجب البعد عن الله عزوجل ، كذلك الأمر في الغفلة عن
ذكره عزوجل ، ولهذا نحن نقرأ في دعاء كميل هذه العبارة: ( وكثرة شهواتي وغفلتي)..
فالشهوات داعية للحرام ، وأما الغفلات فهي موجبة للبعد عن الله عزوجل.. ولا شك أن
المؤمن الذي يعيش هذا الهاجس ، وتراه دائماً يتهم نفسه ويعيش بين الخوف والرجاء ،
فإنه في مظان الرحمة والألطاف الإلهية.
2- (إلهي أنا عبد أتنصل إليك مما كنت أواجهك به ، من قلة
استحيائي من نظرك..): من المناسب بعض الأوقات أن يستذكر الإنسان جزئيات
ذنوبه التي ارتكبها فيما مضى ، ليثبت لنفسه موقع الذلة أمام ربه جل وعلا.. فإن
مشكلة المعصية أنها تبقي حرقة في قلب الإنسان ، إذ كيف هو استخف بأمر مولاه !..
فمثله كمثل إنسان أعرض عن رؤية والده ، الذي قد تحمل عناء السفر ، شوقاً لزيارته في
الوطن الذي هو متواجد فيه.. فهب أن هذا الأب الشفيق غفر له زلته ، إلا أنه سيظل
يعيش تأنيب الضمير طول عمره ، لاستخفافه بحق والده.. غير أن هذه الحالة من الخجل
والتقصير في حق الله عزوجل ، من موجبات نزول الرحمة الغامرة على العبد.
3- (إلهي إن من تعرف بك غير مجهول ، ومن لاذ بك غير
مخذول..): إن الإنسان الذي يكون معروفاً بإيمانه في السماوات عند الله
تعالى ، ويكون صوته مألوفاً عند ملائكة الرحمة في الرخاء والشدة ؛ فإنه إنسان غير
مجهول ، لماذا ؟.. لأنه تعرف على من تنفعه معرفته ، كما نقرأ في دعاء عرفة: (إلهي
ماذا وجد من فقدك؟!.. وماذا فقد من وجدك؟!..).. فلو أن إنساناً كان رئيساً
لجمهوريات الأرض ، وأعطي لقب ملك الملوك ، في حين أنه مجهول في السماوات -وإن كان
معروفاً في الأرض- ، فماذا ينفعه كل ذلك ؟!.. فلماذا يبحث الإنسان عن الشهرة وحسن
الذكر عند المخلوقين ، مع أنه يعلم بأن رصيده عند الله تعالى ضعيف ؟!.. وعليه، فكل
إنسان على هذه الشاكلة ، يزداد شهرة وسمعة بين الناس ، وينهال عليه الثناء من كل
صوب ؛ حسناً لظاهره ، واعتقاداً بظاهره ، في حين أنه مجهول في السماوات ، فلا يعرفه
الله عزوجل ، ولا تعرفه ملائكته ؛ إنما هو إنسان لا ينظر الله تعالى إليه ، ولا
يعترف بوجوده ، بل ويسقطه من عينه تعالى ، كما نقرأ في مناجاة أبي حمزة: (وأسقطتني
من عينك..).
4- (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك ..): يقال
في اللغة: فلان انقطع إلى فلان ، أي استغنى به عن غيره في أخذ ما يحتاج أو يريد..
إن الإنسان في علاقته مع ربه إذا وصل لهذه الدرجة ، بحيث لا يرى مؤثراً في الوجود
غير الله تعالى ، فيراه هو الرازق ، وهو الذي تصير إليه الأمور ، وهو الذي بيده
خزائن كل شيء ، وهو الذي يحي ويميت ، وهو الذي بيده الخير ، وهو الذي على كل شيء
قدير ؛ فإنه هل يحتاج أن يراجع الآخرين ، وهو يعلم يقيناً أن الكل مفتقرون إلى
رحمته تعالى ؟!..
إلا أن الانقطاع له درجات ، فقد ينقطع الإنسان إلى الله عزوجل في ساعات الإقبال ،
أو في جوف الليل ، أو في أثناء سفرة لحج أو عمرة ؛ فإن هذا ليس هو الانقطاع
الكامل.. إن الانقطاع الكامل هو أن ينقطع الإنسان عن كل فرد في الوجود ، في كل زمان
، وفي كل مكان ، وفي كل حال.. فإذا انطبقت هذه العمومات الأربع: عموم أفرادي ،
ومكاني ، وزماني ، وأحوالي ؛ على حياة الإنسان ، فقد حقق كمال الانقطاع المقصود.
5- (وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك ، حتى تخرق أبصار
القلوب حجب النور..):
ما المراد هنا بحجب النور ؟..
وكيف يعبر عن النور الذي ينير الطريق بالحجاب ؟..
النور والحجاب ضدان فما وجه اجتماعهما هنا ؟..
قد يكون الجواب: في أن بعض الأمور التي هي موصلة إلى الله عزوجل: كالدعاء ، والحج ،
والعمرة ، والمطالعات الثقافية... ؛ إذا نُظر إليها في نفسها ، فإنه يتحول الأمر
إلى حجاب بين العبد وبين ربه.. كمثل إنسان ينشغل بسيارته زيادة عن اللزوم: تزييناً
وتلميعاً وما شابه ذلك ، فيصده ذلك الانشغال عن الوصول بها إلى هدفه.. إذ أن
الإنسان في بعض الحالات يعجب بذاته ، فيراها جميلة ، لما هي عليه من العلم والعبادة
، وغيره من الملكات الحسنة ، فيصده هذا الإعجاب عن سبيل الله.. فإذن، السالك إلى
الله تعالى ، إذا انشغل بأي شيء -ولو كان بجنسه نورياً- ، فقد وقع في الفخ الخفي ،
وهذا من صور الشرك الذي لا يلتفت إليه إلا الخواص من العباد.
6- ( فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلقة بعز
قدسك..): إن الإنسان مهما بلغ بنفسه من الكمال ، إلا أنه ما وزن نفسه
أمام عظمة الخالق جل وعلا ؟!.. إن هذه النفس إذا اندكت في عالم العرش ، فقد حققت
معنى الفناء ، لا الفناء بمعنى وحدة الوجود ، وإنما أن لا يرى الإنسان لنفسه خصوصية
في قبال ذلك الوجود الذي غمر نوره كل شيء.
7- ( إلهي واجعلني ممن ناديته فأجابك ، ولاحظته فصعق
لجلالك ، فناجيته سراً ، وعمل لك جهرا..): الإمام (ع) يشير إلى ما حدث
للكليم نبي الله موسى (ع) ، مثيراً الشهية لسؤال الرب المتعال ، للوصول إلى مرتبة
مشابهة لمرتبة الكليم (ع).. إلا أن هذه الحالة من الصعق لجلال الله عزوجل ، يرجى من
ورائها هدف سامٍ ، وليس هو للتقوقع والترهبن ومقاطعة المجتمع.. إن موسى (ع) بمجرد
أن أنهى لقاءه مع رب العالمين ، رجع إلى قومه ليواصل مهمته التبليغية.. ومن هنا
يتضح موقع صلاة الليل في حياة المؤمن ، فهو ليلاً يعيش الخلوة مع ربه ، إذ يناجيه
سراً ، ثم هو في النهار يعكس آثار ذلك بالعمل جهراً في خدمة المجتمع.
8- (إلهي وألحقني بنور عزك الأبهج ، فأكون لك عارفا ، وعن
سواك منحرفا ، ومنك خائفاً مراقبا..): إن الإنسان إذا التحق بهذا النور
الإلهي ، فإنه سيترتب على ذلك آثاراً في حياته:
الأول: أن هذا النور ينير له الطريق ، فيصل إلى معرفة الله عزوجل.
والثاني: تحصل لديه حالة زهد قهرية عن كل ما سوى الله عزوجل ، فلا يتعلق
قلبه بشيء أبداً.
والثالث: تنشأ عنده حالة الخوف والمراقبة لكل أموره - صغيرها وكبيرها- ،
بحيث ينزجر تلقائياً عن كل ما يغضب الله عزوجل.. لأنه وصل إلى درجة يرى فيها ذلك
البطش الإلهي ، الذي يكفيه عن كل واعظ.. أضف إلى أن رؤيته لذلك الجمال والجلال
والرحمة الإلهية ، تدفعه إلى أن يكون راجياً لله عزوجل في كل أحواله.
* الشيخ حبيب الكاظمي.