ما هي مميّزات العالم المادّي وإدراكنا له؟
فكر الشهيد مطهري
يتّجه الإنسان فطريًّا إلى الواقع الموضوعيّ. الطّفل يبحث في السّاعات الأولى من حياته عن ثدي أمّه، باعتباره واقعًا موضوعيًّا. ومع نموّ جسم الطّفل وذهنه، يبدأ بالتّفكيك بين نفسه والأشياء الأخرى،
عدد الزوار: 105
يتّجه الإنسان فطريًّا إلى الواقع الموضوعيّ. الطّفل يبحث في السّاعات الأولى من
حياته عن ثدي أمّه، باعتباره واقعًا موضوعيًّا. ومع نموّ جسم الطّفل وذهنه، يبدأ
بالتّفكيك بين نفسه والأشياء الأخرى، وبالنّظر إلى الأشياء، باعتبارها خارجة
ومنفصلة عنه. ومع أنّ ارتباطه بالأشياء هو عن طريق مجموعة من الأفكار، فهو يستفيد
من الأفكار باعتبارها وسيلةً ورابطًا، لكنّه يعلم أنّ الحقيقة الموضوعيّة للأشياء
هي غير الأفكار الموجودة في ذهنه1.
العالم المحسوس2
الحقائق الموضوعيّة التي يدركها الإنسان عن طريق الحواس تشكّل بمجموعها ما نسمّيه
بالعالم المادي (الذي يعتبر تنزّلا لعوالم أعلى، وقد يعبر عن الأول بالشهادة
والأخرى بالغيب)، وتتميّز بالخصائص الآتية:
1- المحدوديّة
الموجودات المحسوسة المشهودة، ابتداءً من الذرّة وحتّى المجرّة، أي
إنّها تشغل حيّزًا مكانيًّا، وزمانيًّا معيّنًا، وليس لها وجود خارج ذلك المكان،
وخارج ذلك الامتداد الزّمنيّ.
بعض الموجودات تشغل حيّزًا مكانيًّا أكبر، وتمتدّ خلال فاصلة زمانيّة أطول، وبعضها
الآخر تشغل مكانًا أقلّ وذات فترة زمنيّة أقصر، لكنّها جميعًا محدودة في إطارٍ
معيّن في الزّمان والمكان.
2- التّغيير
موجودات العالم بأجمعها متغيّرة متطوّرة غير ثابتة. ولا يوجد في العالم
المحسوس كائنٌ باقٍ على حالٍ واحدة. إمّا أن يكون في حالة نموّ وتكامل، أو في حالة
تدهور وانحطاط.
الموجود الماديّ المحسوس يطوي خلال جميع فترة وجوده مرحلة تبادل مستمرّ في حقيقته.
إمّا أن يأخذ، أو يعطي، أو يأخذ ويعطي أيضًا، أي إنّه إمّا أن يأخذ من حقيقة،
الأشياء الأخرى ويصيّرها جزءًا من حقيقته، أو يمنح الواقع الخارجيّ جزءًا من
حقيقته. أو يفعل العمليّتين معًا. على أيّ حال، لا يمكن لموجودٍ ماديّ أن يبقى
ثابتًا ساكنًا. هذه واحدة أخرى من الخصائص العامّة لموجودات هذا العالم.
3- الارتباط
كلّ موجودٍ في العالم "مرتبطٌ" و"مشروطٌ"، أي إنّ وجوده مرتبطٌ ومشروطٌ
بوجود شيءٍ أو أشياء أخرى، بحيث لو انعدم ذلك الشّيء أو تلك الأشياء لانعدم ذلك
الموجود أيضًا. لو أمعنّا النّظر في حقيقة الموجودات لألفيناها مقرونةً بشرطٍ أو
شروطٍ كثيرة. ولا يمكن أن نرى بين الموجودات موجودًا بلا شرط وبشكلٍ مطلق (أي
موجودًا محرّرًا من قيود الموجودات الأخرى).
كلّ الوجودات "مشروطة"، أي إنّ كلّ واحدٍ منها موجودٌ على تقدير وجود شيءٍ آخر،
وهذا الشّيء الآخر بدوره موجودٌ على تقدير وجود شيءٍ آخر، وهكذا...
4- الحاجة
الموجودات المحسوسة والمشهودة مرتبطة ومشروطة كما قلنا، وهي لذلك
محتاجة، محتاجة إلى كلّ الظّروف والملابسات المرتبطة بها. وكلّ واحدٍ من هذه
الظّروف بدوره محتاجٌ إلى مجموعة ظروف وملابساتٍ أخرى. لا يمكن أن نعثر على موجود
منطوٍ على "نفسه"، أي مستغنٍ عن غيره، وقادر على البقاء مع افتراض فناء غيره. من
هنا، فالفقر والحاجة من المظاهر العامّة في موجودات الكون.
5- النّسبيّة
الموجودات المحسوسة والمشهودة نسبيّة في أصل الوجود وفي كمالات الوجود.
فلو وصفناها مثلًا بالكبر والعظمة، أو بالقوّة والقدرة، أو بالرّوعة والجمال، أو
بالسّابقة والقِدم، أو حتّى بالوجود والكينونة، فإننا نصفها قياسًا بأشياء أخرى.
فلو وصفنا الشّمس مثلًا بأنّها كبيرة، فإنّنا نعني أنّها كبيرة، بالنّسبة لنا
ولأرضنا ولكواكب منظومتنا الشّمسيّة، إذ إنّ هذه الشّمس صغيرة بالنّسبة لبعض
الكواكب. وهكذا لو وصفنا موجودًا بأنّه قويّ أو جميل أو عالم. حتّى الشّيء يظهر من
خلال نسبته إلى وجودٍ آخر.
كلّ وجود، وكلّ كمال، وكلّ علم، وكلّ جمال، وكلّ قدرة وعظمة وجلال، إنّما يظهر حين
ننسبه إلى ما هو دونه. وبالإمكان أيضًا افتراض ما هو أسمى منه، وكلّ الصّفات
المذكورة تنقلب إلى ضدّها حين ننسب الموجود إلى ما فوقه. حين نقلب الوجود إلى فناء،
والكمال إلى نقص، والجمال إلى قبح، والعظمة والجلال إلى حقارة.
* دراسات عقائدية - الشهيد مرتضى مطهري، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- المفهوم التّوحيدّيّ للعالم،
ص 20.
2- المفهوم التوحيدي للعالم، ص 20- 23.