الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام (2) - من الخلافة إلى الشهادة
ولادة أمير المؤمنين(ع)
لم يكن في العالم الإسلاميّ شخص يفوق مستوى الإمام علي عليه السلام في الفضل والعلم والجهاد في سبيل الله تعالى، وفي كافة الصفات الإنسانية العالية سوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
عدد الزوار: 95
وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وقضية الخلافة
لم يكن في العالم الإسلاميّ شخص يفوق مستوى الإمام علي عليه السلام في الفضل والعلم
والجهاد في سبيل الله تعالى، وفي كافة الصفات الإنسانية العالية سوى رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم. ولهذا نُصّب عليه السلام من قِبَل رسول الله وبأمره تعالى في
مناسبات عديدة لقيادة المسلمين وخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأهمّها
هو ما حدث في الغدير. ومن هنا كان من المتوقّع أن يتولّى الإمام عليّ عليه السلام
الخلافة وقيادة المسلمين غير أنّه لم يحدث ذلك من الناحية العملية، بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وأُقصي علي عليه السلام عن الساحة السياسية ومركز القرار
في قيادة المجتمع الإسلاميّ.
وقد أشار الإمام عليه السلام في كثير من المناسبات إلى صبره على هذه القضية بدافع
الحفاظ على الإسلام، ومنها ما قاله في بداية تسلّم الخليفة الثالث السلطة: «لقد
علمتم أنّي أحقّ الناس بها من غيري، وواللّه لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين، ولم
يكن فيها جور إلّا عليّ خاصة» 1.
ويذكر الإمام علي عليه السلام في خطبة الشقشقية هذا المفترق الصعب والحسّاس
والخيارين المصيريّين وسبب اختياره للخيار الثاني بهذا النحو: «فَسَدَلْتُ
دُونَها ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْها كَشحاً، وطَفِقْتُ أرتَئي بَين أن أصولَ بيد
جَذّاء، أو أصْبِرَ على طَخية عمياء، يَهْرَمُ فيها الكَبير وَيشيبُ فيها الصَغير،
ويَكْدَحُ فيها مؤمِنٌ حَتّى يَلقى ربَّهُ، فَرَأيْتُ أنَّ الصَّبرَ على هاتا أحجى،
فصبرتُ وفي العَيْنِ قَذى وَفي الحَلْقِ شَجى، أَرى تُراثي نَهباً» 2.
دور أمير المؤمنين عليه السلام في زمن الخلفاء
تركّزت نشاطات الإمام في هذه الفترة على الأُمور الآتية:
1- الإجابة عن شبهات وتساؤلات علماء الأديان العالمية لا سيّما اليهود والنصارى
منهم الذين كانوا يتوافدون إلى المدينة للبحث والاستقصاء حول دين النبيّ بعد وفاته
صلى الله عليه وآله وسلم وما كانوا يجدون من يجيب عن تساؤلاتهم سوى الإمام علي عليه
السلام الذي بدت معرفته بالتوراة والإنجيل واضحة من خلال كلامه معهم. ولولا أنّ
علياً ملأ هذا الفراغ لكان المجتمع الإسلاميّ يغطّ في انتكاسة كبيرة.
2- عندما كان أهل الخلافة يصلون إلى طريق مسدود في القضايا السياسية وبعض القضايا
والمشاكل الأُخرى كان الإمام عليه السلام المستشار الوحيد والمعتمد الذي يُعالج
المشاكل بموضوعية. ويشهد التاريخ بأنّ الخليفة الأول والثاني كانا يراجعان الإمام
في القضايا السياسية والدينية وتفسير القرآن والأحكام الفقهية للإسلام طيلة فترة
خلافتهما. وسنشير إلى مثال واحد فقد وقعت في السنة الرابع عشرة من الهجرة حرب طاحنة
بين جيش الإسلام وجيش الفرس في القادسية، وانتهت بانتصار المسلمين وقتل «رستم فرّخ
زاد» القائد العامّ للقوات الفارسية مع مجموعة من المقاتلين، وانضمّ بهذا الانتصار
جميع أرجاء العراق إلى لواء الإسلام، واستولى المسلمون على المدائن التي كانت
مركزاً للملوك الساسانيين وتراجع قادة الجيش الفارسيّ إلى داخل أراضيهم.
وخشي المستشارون والعسكريون الفرس من أن يزحف الجيش الإسلاميّ إلى داخل أراضيهم
ويستولي على جميع أرجاء البلاد بالتدريج. ولأجل مواجهة هذا النوع من الهجوم الخطير
أعدَّ «يزدجرد» ملك فارس جيشاً قوامه مائة وخمسون ألف مقاتل بقيادة «فيروزان» حتّى
يصدّ أي هجوم مفاجئ، وإذا ساعدت الظروف يبدأ هو بالهجوم. وكتب سعد بن أبي وقاص
القائد العامّ للقوات الإسلامية رسالة إلى عمر يُطلعه فيها على احتشاد العدوّ
واستعداده واقترح مباغتة العدوّ بالحرب لإرعابه.
دخل الخليفة المسجد واستدعى كبار الصحابة، وأطلعهم على ما ينويه من ترك المدينة
والانطلاق نحو مكان بين البصرة والكوفة. وبعد كثرة المداولات، قام أمير المؤمنين
عليه السلام وقال: «إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا قلّة وهو
دين الله الذي أظهره وجنده الذي أعدّه وأمدّه حتّى ما يبلغ وطلع حيثما طلع ونحن على
موعود من الله واللّه منجز وعده وناصر جنده، ومكان القيّم بالأمر مكان النظام من
الخرز يجمعه ويضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز وذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره
أبداً، والعرب اليوم وإن كانوا قليلاً فهم كثيرون بالإسلام عزيزون بالاجتماع، فكن
قطباً واستدر الرحى بالعرب وأصلهم دونك نار الحرب، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض
انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك من العورات أهمّ إليك
ممّا بين يديك».
«إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غداً يقولوا: هذا أصل العرب، فإذا قطعتموه استرحتم،
فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال
المسلمين، فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك، وهو أقدر على تغيير ما يكره،
وأمّا ما ذكرت من عددهم، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنّما كنا نقاتل
بالنصر والمعونة» 3.
استجاب عمر لكلام الإمام بعد سماعه ولم يذهب 4. ونظراً لهذه المعالجة والحلول قال
عمر: أعوذ بالله من مشكلة ليس لها أبو الحسن 5.
من الخلافة إلى الشهادة
بعد فترة وجيزة من تولّي الخليفة الثالث عثمان بن عفان الخلافة ثارت جماعة من الناس
على حكومته، واستمرّ حراك الناس حتّى قُتل عثمان، وكانت خلافته قد استمرت نحو اثني
عشر عاماً. وكان الناس في هذه المدة يعيشون حالة من الفوضى والضياع، وخلالها كان
أصحاب الثورة يراجعون الإمام غير أنّه كثيراً ما كان يُبعد نفسه عن الأنظار، وحيث
إنّهم كانوا يطالبونه بقبول بيعتهم وهو ما يزال يرى الظروف غير مناسبة لقبول
الخلافة وأنّ الحجّة لم تتمّ عليه بهذا الاقتراح قال: «دعوني والتمسوا غيري
فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإنّ
الآفاق قد أغامت والحجّة قد تنكّرت، واعلموا أنّي وإن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم
أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم ولعلّي أسمعكم وأطوعكم
لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خيرٌ لكم منّي أميراً» 6. وحيث
قد كثر توافد المسلمين على الإمام عليه السلام وازدحامهم عليه واكتظّت داره بهم
وازداد إصرارهم عليه، شعر بالمسؤولية ولم ير بدّاً من قبول البيعة. وتحدّث الإمام
في خطبة أخرى عن إقبال الناس عليه بحرارة وسرور وعن أسباب قبول الخلافة قائلاً:
«... فما راعني إلّا والناس كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب حتى لقد وطئ
الحسنان 7، وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم، فلمّا نهضت
بالأمر نكثت طائفة ومرقت أُخرى وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله سبحانه
يقول:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ
لِلْمُتَّقِينَ﴾. بلى واللّه
لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، أما والذي فلق
الحبّة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على
العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها
ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» 8.
* كتاب دروس تمهيدية في سيرة النبي والأئمة المعصومين، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، الخطبة: 74.
2- م.ن، الخطبة: 3.
3- نهج البلاغة، الخطبة: 146.
4- ابن الأثير، علي بن أبي الكرم، الكامل في التاريخ، ج3، ص8، الطبري، محمد بن
جرير، تاريخ الأمم والملوك، ج4، ص273، ابن كثير، إسماعيل بن كثير الدمشقي، البداية
والنهاية، ج7، ص107.
5- ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ج3، ص39.
6- نهج البلاغة، الخطبة: 92.
7- نص كلام الإمام هو(وطئ الحسنان) الذي قد يعني: الحسن والحسين، ولكن قد فسّر
البعض الحسن بالابهام، ابن أبي الحديد، عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد، شرح
نهج البلاغة، ج1، ص200.
8- نهج البلاغة، الخطبة: 3.