يتم التحميل...

ما هي العقيدة؟ وما هي أهمّ مذاهبها؟

فكر الشهيد مطهري

إنّ كلّ مدرسة فكريّةٍ أو عقيدةٍ يتبنّاها النّاس تقوم حتمًا على أساس نظرة وتفسير للكون والعالم، للوجود والمصير، للمبدأ والمنتهى. وهذا الأساس يُصْطَلح عليه بعنوان "التصوّر أو الرؤية الكونيّة".

عدد الزوار: 121

تمهيد1

إنّ كلّ مدرسة فكريّةٍ أو عقيدةٍ يتبنّاها النّاس تقوم حتمًا على أساس نظرة وتفسير للكون والعالم، للوجود والمصير، للمبدأ والمنتهى. وهذا الأساس يُصْطَلح عليه بعنوان "التصوّر أو الرؤية الكونيّة".

إنّ جميع الأديان والمذاهب وكلّ المدارس الفكريّة والفلسفيّة والاجتماعيّة تستند إلى رؤية كونيّة خاصّة بها. والأهداف التي تطرحها مدرسة معيّنة وتدعو إلى تحقيقها، والطّريق الذي ترسمه، والواجبات والمحظورات التي تضعها، والمسؤوليّات التي تفرضها، كلّها نتائج تستتبع بالضّرورة التصوّر الذي تتبنّاه تلك المدرسة تجاه الوجود والحياة والمصير.

الحكماء، قسّموا الحكمة إلى: الحكمة النّظريّة والحكمة العمليّة. الحكمة النّظريّة تعني فهم الكون كما هو كائنٌ، والحكمة العمليّة تعني فهم السّلوك الحياتيّ كما ينبغي أن يكون. وهذا الذي "ينبغي أن يكون" هو النّتيجة المنطقيّة لما "هو كائن".

معنى الرؤية الكونية2

ينبغي أن لا يختلط الأمر علينا في تعبير "الرّؤية الكونيّة"، فنحملها على معنى "الإحساس بالكون"، وذلك بسبب استعمال كلمة "الرّؤية" المأخوذة من "النّظر" الذي هو جزءٌ من الإحساس.

وإنّما معنى "الرّؤية الكونيّة" هو "معرفة الكون"، وبهذا المعنى فهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمسألة المعرفة.

و"المعرفة" من مختصّات الإنسان، بخلاف الإحساس، الذي يشترك فيه الإنسان مع سائر الأحياء، ولهذا كانت "معرفة الكون" من مختصّات الإنسان، ومن المواضيع التي ترتبط بقوّة العقل والتّفكير.

كثيرٌ من الحيوانات لها قوّة إحساس تفوق فيها الإنسان، مثل باصرة العقاب، وشامّة الكلب والنّملة، وسامعة الفأر، ولبعضها حواسّ يفتقدها الإنسان، مثل حاسّة الرادار الموجودة في بعض الأحياء.

الحيوانات تحسّ العالم فقط، أمّا الإنسان فيحسّه ويفسّره... وفي واقعنا البشريّ قد ينظر مجموعة من الأفراد إلى ظاهرة معيّنة، فيتلقّونها عن طريق الحواس، لكن قسمًا منهم فقط يتّجه إلى تفسيرها تفسيرًا معيّنًا أو تفسيرات متنوّعة.

أنواع الرّؤى الكونيّة والعقائد3

تفسير الإنسان للعالم يختلف باختلاف منشأ التصوّر ومصدره. فقد ينطلق من معطيات العلم، أو الفلسفة، أو تراث الدّين ونصوصه، ومن هنا يكون التصوّر ثلاثة أنواع: علميّاً وفلسفيّاً ودينيّاً.

الرّؤية الكونيّة التجريبيّة
لكي نفهم حدود معطيات العلم في حقل المعرفة، نذكر أوّلًا أنّ العلم المقصود هنا يقوم على أساس الفرضيّة والتّجربة. حين يتّجه عالم تجريبي إلى اكتشاف أو تفسير ظاهرة معيّنة، تنقدح في ذهنه أوّلًا فرضيّة، ثمّ يُدخل هذه الفرضيّة في المختبر ويجري عليها التّجارب العمليّة، فإن أيّدتها التّجارب، تتّخذ الفرضيّة صفة المبدأ العلميّ، ويبقى هذا المبدأ العلميّ على اعتباره وقوّته ما لم تحلّ محلّه فرضيّة أشمل مدعومة بتجارب أفضل.

إنّ العلوم الحسّيّة التّجريبيّة تسلك هذا الطّريق في كشف العلل والمعلولات، فبالتّجربة العمليّة تُكتشف علّة الشّيء وأثره ومعلوله، ثمّ يتّجه نحو علّة تلك العلّة، ومعلول ذلك المعلول. وهكذا، تواصل العلوم مسيرتها ضمن الحدود الممكنة.

مزايا ونقائص الرؤية الكونية التجريبية
إنّ عمل هذه العلوم، بلحاظ أنّها تقوم على التّجربة العلميّة، ذو مزايا ونقائص.

أهمّ مزايا الاكتشافات العلميّة هي أنّها محدودة وجزئيّة ومشخّصة. العلم قادر على أن يزوّد الإنسان بآلاف المعلومات عن موجودٍ جزئيّ، وقادر على أن يزوّدنا بكتابٍ ضخم من المعلومات عن ورقة نباتيّة واحدة. كما أنّ هذه الاكتشافات ـ بفضل ما تقدّمه للبشر من قوانين ـ تيسّر للإنسان طريق التّصرّف بهذه الظّواهر والسّيطرة عليها، ومن هنا تنشأ الصّناعة والتّكنولوجيا.

إلى جانب هذه المزايا، ثمّة نقائص في عمل هذه العلوم، وهي:

1- محدوديّة نطاقها: فالعلوم الحسّيّة محدودة بالتّجربة، وهي قادرة على متابعة عملها على الظّواهر، ما دامت تلك الظّواهر تخضع للتّجربة. لكنّ الكون بجميع أبعاده لا يخضع للتّجربة، فالعلوم التجريبيّة تستطيع أن تتابع العلل والأسباب أو المعلولات والآثار إلى حدٍّ معيّن في الواقع العمليّ، وتصل بعدها إلى طريقٍ مسدود. العلوم مثل المصباح، قادرةٌ على شقّ جُنح الظّلام إلى مدى معيّن. وهي لا تستطيع أن تجرّب مسألة بداية العالم ونهايته، ولا المسائل التي ترتبط بعبثيّة العالم أو هدفيّته، أو بقوانين السّير التّاريخيّ للمجتمعات، أو بوجود سببٍ أعلى من المادّة في حركة الكون، وبعلاقة الإنسان بحركة الكون، وبحياة الإنسان بعد الموت، ولذلك يلجأ الإنسان إلى التفكير الفلسفي (العقلي المجرّد) حين يصل إلى مثل هذه المسائل.

العالم ـ بنظر العلم التجريبي - ككتابٍ قديم سقطت أوراقه الأولى والأخيرة، فلا مبدأه معلومٌ ولا منتهاه. فالعلوم تعرّفنا على وضع بعض أجزاء العالم، لا على الشّكل العام والشّخصيّة الكلّيّة للعالم. التصوّر العلميّ للعالم يشبه ما يفهمه الناس حول فيل لمسوه في الظلام، وهم لم يروه أو يسمعوا عنه من قبل، فذاك الذي لمس أذن الفيل، قال: إنّ الفيل هو مروحة يدويّة، وذاك الذي لمس رجل الفيل قال إنّه أسطوانة، أما ذلك الذي لمس ظهره، فيقول: إنّ الفيل هو سرير!

التصوّر التّجزيئي للعلوم لا يمكن أن يصوّر لنا العالم بشكله الكلّيّ العام. والعالم مثل إنسان يسكن في منطقة من مناطق طهران، ويعلم تفاصيل هذه المنطقة ودقائقها، ومثل هذا الإنسان لا يستطيع أن يفهم طهران بجميع أبعادها. ولو ضممنا المعلومات التّجزيئيّة لكلّ منطقة من مناطق طهران إلى بعضها، لما حصلنا أيضًا على التصوّر الكلّي لطهران، ولما استطعنا أن نفهم شكلها ولا ارتباط أجزائها مع بعضها، ولا جمالها أو قبحها، ولا سبيل لنا لتكوين تصوّر عام عن طهران، إلّا إذا أُتيحت لنا وسيلة إلقاء النّظرة الكلّيّة العامّة على هذه المدينة.

من هنا، فالعلوم الحسية عاجزةٌ عن الإجابة على أهمّ المسائل المرتبطة بالرؤية الكونية، وهي إعطاء صورة عامّة كلّيّة عن مجموع العالم.

2- التزلزل وعدم الثبات: النّقص الآخر في المنهج التّجريبيّ باعتباره أساسًا لأيديولوجيّة معيّنة، هو أنّ معطيات الحسّ والتّجربة متزلزلةٌ تفتقد الثّبات في الجانب النّظريّ، أي في جانب تصوير الواقع كما هو. فصورة العالم تتغيّر باستمرار في المنظار التّجريبيّ، لأنّه قائم على أساس الفرضيّة والتّجربة، لا على أساس المبادئ البديهيّة الأوّليّة العقليّة، فالفرضيّة والتّجربة لهما قيمة وقتيّة. من هنا، فالمنهج الحسيّ متزلزلٌ لا ثبات فيه، ولذلك لا يمكنه أن يكون قاعدة للإيمان، الإيمان يتطلّب قاعدة قويّة ثابتة لا يعتريها التّزلزل والتّغيير، قاعدة ذات صبغة خالدة.

3- الاقتصار على الجانب العملي: إضافةً إلى ما سبق، إنّ قيمة المنهج التّجريبيّ تتمثّل في الجانب العمليّ والفنّيّ، لا في الجانب النّظريّ. بينما الأيديولوجيّة بحاجة إلى قاعدة ذات قيمة نظريّة لا عمليّة، ونعني بالقيمة النّظريّة القدرة على تقديم صورة لواقع العالم، ونعني بالقيمة العمليّة والفنّيّة القدرة على تفعيل طاقات الإنسان على الصّعيد العمليّ. تطوّر التّكنولوجيا اليوم مظهر للقيمة العمليّة والفنّيّة للعلوم التجريبيّة.

ومن غرائب العلوم في عالمنا المعاصر، أنّ قيمتها العمليّة والفنّيّة ازدادت ازديادًا عكسيًّا مقارنةً بقيمتها النّظريّة.

أيّ رؤية في الحقيقة نريد؟
وقد يظنّ بعض النّاس أنّ العلم حقّق، في مجال الإيمان والاطمئنان بحقيقة العالم، تطوّرًا مثل التطوّر الذي حقّقه في المحاولات العمليّة، بينما المسألة عكس ذلك تمامًا.

ممّا سبق يتّضح أنّ الأيديولوجية بحاجة إلى تصوّر يتّصف بالخصائص الآتية:
1- قدرته على الإجابة على المسائل الأساسيّة للعالم، ذات الارتباط بكلّ العالم، لا بجزءٍ خاصّ منه.
2- أن يقدّم معرفة ثابتة موثوقة وخالدة، لا معرفة مؤّقتة عابرة.
3- ما يقدّمه يجب أن يكون ذا قيمةٍ نظريّة كاشفة للواقع، لا أن تكون قيمته عمليّة فنّيّة محضة.

والتصوّر العلميّ التّجريبيّ يفتقد هذه المقوّمات الثّلاثة.

الرّؤية الكونيّة الفلسفيّة
هذا التصوّر لم يبلغ في تفريعاته وتشخيصاته درجة التصوّر الحسيّ، لكنّه ـ بدلًا من ذلك ـ يستند إلى سلسلة من المبادئ. وهذه المبادئ:

1- بديهيّة، ولا يمكن للذّهن أن ينكرها، وتفرض نفسها عن طريق البرهان والاستدلال (لا بمعنى أنها بحاجة إلى برهان فالبديهي يمكن أن يبرهن لكن بداهته سابقة على البرهان).

2- عامّة شاملة، وتُسمّى في المصطلح الفلسفيّ "أحكام الموجود بما هو موجود"، وتتّصف بنوع من الجزم. وليس في التصوّر الفلسفيّ ما في التصوّر التجريبيّ من تزلزل وعدم ثبات، ومن محدوديّة في الإطار.

التصوّر الفلسفيّ يجيب على الأسئلة التي تستند إليها الأيديولوجيّات. والتّفكير الفلسفيّ يشخّص الصّورة العامّة للعالم بجميع أبعادها.

التصوّر الحسيّ والتصوّر الفلسفيّ، كلاهما مقدّمتان للعمل، ولكن بشكلين مختلفين. التصوّر الحسيّ مقدّمة للعمل باعتبار أنّه يمنح الإنسان القدرة والقوّة على "التّغيير" و"التّصرّف" في الطّبيعة، ويجعله مسيطرًا على جانب من الطّبيعة، ليستخدمها في اتّجاه تحقيق ميوله ورغباته.

والتصوّر الفلسفيّ مقدّمة للعمل ومؤثّر فيه أيضًا باعتباره يشخّص اتّجاه العمل، وطريقة انتخاب النّهج الحياتيّ للإنسان. هذا التصوّر مؤثّرٌ في موقف الإنسان وانفعالاته تجاه العالم، فهو يعيّن المواقف، ويبلور نظرة الإنسان إلى الكون والحياة، ويمنح الحياة معنًى، ويفترض أن يخلّصها من الفراغ.

وهذا ما نعنيه في قولنا: إنّ العلوم عاجزةٌ عن منح الإنسان تصوّرا يشكّل قاعدة لأيديولوجيّة معيّنة، بينما تقدر الفلسفة العقلية على ذلك.

الرّؤية الكونيّة الدّينيّة
لو اعتبرنا كلّ نظرة عامّة عن الكون والعالم تصوّرا فلسفيًّا، بغضّ النّظر عن منطلق ذلك التصوّر، سواء أكان قياسًا برهانيًا أم تلقّيًا عن الوحي والغيب، فينبغي أن نعتبر التصوّر الدّينيّ نوعًا من التصوّر الفلسفيّ. فبين التصوّر الدّينيّ والتصوّر الفلسفيّ حدود مشتركة، خلافًا للتصوّر الحسّيّ الذي يصرّ على حصر الحقيقة بالمادّة والحواس.

ولو أخذنا منطلق التصوّر بنظر الاعتبار، فهناك - فرق طبعًا - بين المفهوم الدّينيّ للعالم والمفهوم الفلسفيّ.

وفي بعض الأديان مثل الإسلام، التصوّر الدّينيّ للعالم يتضمّن المنهج المعتمد في الفلسفة عمومًا، أي الاستدلال العقليّ، وتكون جميع المسائل الأساسيّة المطروحة فيه قابلة للاستدلال والبرهنة على أساسٍ عقليّ. من هنا، فالتصوّر الإسلاميّ هو أيضًا تصوّر عقليّ فلسفيّ.

التصوّر الدّينيّ هذا يمتاز ـ كما قلنا ـ بما يمتاز به التصوّر الفلسفيّ من ثبات وخلود، وعموم وشمول. وهناك ميزة أخرى يختصّ بها التصوّر الدّينيّ، هي قداسة مبادئه.

الأيديولوجيّة التي تقدّم للبشرية نهج الحياة تتطلّب الإيمان بمبادئها، والإيمان لا يمكن أن يتأتّى للأيديولوجيّة إلّا إذا اكتسبت طابع الحرمة إلى حدّ التّقديس، إضافةً إلى طابع الخلود والثّبات في أصولها. يتّضح من هذا أنّ التصوّر يستطيع أن يكون قاعدةً للأيديولوجيّة، وباعثًا على الإيمان، حين يتّخذ طابعًا دينيًّا.

معايير تقييم التصوّرات والرؤى

نستطيع (مما تقدّم) أن نضع لجودة التصوّر المعايير الآتية:
أوّلًا:
أن يكون قابلًا للإثبات والاستدلال، أي أن يكون مسندًا من العقل والمنطق، وبذلك يوفّر الأرضيّة العقليّة لتقبّله، ويزيل الإبهام والغموض على طريق العمل.

ثانيًا: أن يمنح الحياة معنىً، وأن يزيل من الأذهان أفكار عبثية الحياة وخواء المسيرة الإنسانية.

ثالثاً: أن يبعث في النّفوس الاندفاع والشّوق والهدفيّة، لتكون له قدرة الجذب ومنح الطّاقة والحرارة.

رابعاً: قدرته على إعطاء طابع التّقديس للأهداف الإنسانيّة والاجتماعيّة، ليبعث في نفوس معتنقيه الاستعداد للتّضحية وتجاوز الذّات، وبذلك يوفّر عنصر "ضمان التّنفيذ" للمدرسة الفكريّة القائمة على ذلك التصوّر.

خامسًا: قدرته على خلق روح الالتزام والإحساس بالمسؤوليّة في ضمير الأفراد تجاه نفوسهم ومجتمعهم.

الرّؤية الكونيّة التّوحيديّة
إنّ التصوّر الدّينيّ التّوحيديّ فيه جميع الخصائص اللازمة للتصوّر المطلوب، وهو التصوّر الوحيد القادر على جمع كلّ هذه الخصائص.

التصوّر التّوحيديّ يعني فهم العالم على أنّه خُلق نتيجة لمشيئة واعية، وأنّ نظام الوجود يقوم على أساس الخير والرّحمة، وعلى أساس الوصول بالموجودات إلى كمالها المطلوب.

التصوّر التّوحيديّ يعني أنّ للعالم قطبًا واحداً ومحورًا واحدًا، وأنّ مبدأه ومرجعه واحد، ﴿إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ4.

وموجودات العالم ـ استنادًا إلى هذا التصوّر ـ تتحرّك في "اتّجاه" واحدٍ، ونحو مركزٍ واحد، وفق نظامٍ منسجم، فالخليقة ليست موجودًا عبثيًّا خاويًا بدون هدف. العالم يسير وفق مجموعة نظم لا تتخلّف في "السّنن الإلهيّة". والإنسان يتمتّع بكرامةٍ خاصّة، ورسالةٍ خاصّة ويتحمّل مسؤوليّة تربية نفسه وإصلاح مجتمعه. فالعالم مدرسة للإنسان، والخالق يجزي كلّ إنسانٍ حسب نيّته ومسعاه.

المنطق والعلم والاستدلال يسند التصوّر التّوحيديّ ويؤيّده. وهو يرى أنّ كلّ ذرّة من ذرّات العالم دليلٌ على وجود الخالق الحكيم العليم، وكلّ ورقةٍ على الأشجار تشكّل كتابًا في معرفة
الباري.

التصوّر التّوحيدّيّ يمنح الحياة روحًا وهدفًا ومعنًى، لأنّه يدفع الإنسان تجاه مسيرة تكامليّة مستمرّة لا تعرف الوقوف عند مرحلةٍ معيّنة.

ولهذه الرؤية التّوحيديّة جاذبيّة، وهي تبعث في أوصال الإنسان النّشاط والحماس، وتعرض أمامه أهدافًا رفيعة ومقدّسة، فتكوّن منه إنسانًا باذلًا مضحّيًا. وهي الرؤية الكونيّة الوحيدة التي تعطي معنًى لالتزام ومسؤوليّة الأفراد، كلٌّ منهم إزاء الآخر، كما أنّها تحفظ الإنسان من السّقوط في الهاوية المخيفة للعبثيّين والمنادين بالضّياع واللافائدة.

خصائص الرؤية التّوحيدية في الإسلام
الإسلام هو الدين الذي قام على أساس التصوّر التوحيديّ، والتّوحيد قد طرحه الإسلام في أنقى أشكاله وأفضل صوره. فالخالق والمبدأ في نظر الإسلام: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ5.

وهو غنيٌّ، وكلّ شيء محتاجٌ إليه: ﴿أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ6.

وهو محيطٌ بكلّ شيء وقادر على كلّ شيء: ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 7. ﴿وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ8.

وهو موجودٌ في كلّ مكان، ولا يخلو منه أيّ مكانٍ أو جهة: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ9.

وهو عليمٌ بمكنونات القلب، وبالمقاصد، وبما يخطر في الأذهان: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ10، ﴿وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى11.

وإنّه ليس بجسم، ورؤيته غير ممكنة: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ12.

واستنادًا إلى الرّؤية الكونيّة الإسلاميّة التّوحيديّة:

1- العالم مخلوقٌ وموجّه من قبل عناية ومشيئة إلهيّة، وإذا انقطعت عنه العناية الإلهيّة لحظةً، يفنى ويزول.

2- العالم لم يُخلق عبثًا، وفي خلق العالم والإنسان أهداف حكيمة. لم يخلق شيء في غير موضعه وبدون حكمة وفائدة.

3- النّظام القائم هو النّظام الأحسن والأكمل.

4- العالم يقوم على أساس العقل والحقّ ويقوم على أساس الأسباب والمسبّبات، وينبغي أن نبحث عن كلّ نتيجة في مقدّمتها وسببها الخاصّ، وأن نتوقّع من كلّ سبب نتيجته الخاصّة.

5- قضاء الله وقدره يوجدان كلّ شيء عن طريق علّته الخاصّة فقط، وهما قضاء وقدر سلسلة علل ذلك الشّيء.

6- إرادة الله ومشيئته تجري في العالم بشكل "سُنّة"، أي بصورة قانون ومبدأ عام. والسّنن الإلهيّة لا تتغيّر، وإنّما تحدث التغييرات بناءً على السّنن الإلهيّة.

7- خير الدّنيا وشرّها يرتبطان بنوع سلوك الإنسان في العالم ومواقفه وأعماله. فالأفعال الصّالحة ـ إضافةً لما لها من ثواب وعقاب في الحياة الأخرى ـ لا تخلو في هذه الدّنيا من مقابل.
التدرّج والتّكامل من القوانين والسّنن الإلهيّة، والعالم مهد لتكامل الإنسان.

8- قضاء الله وقدره مسيطران على جميع العالم، والإنسان بموجب القضاء والقدر ـ موجودٌ حرٌّ مختارٌ مسؤولٌ ومتحكّمٌ بمصيره.

9- الإنسان يتمتّع بشرف وكرامة ذاتيّة، ويليق لحمل أعباء الخلافة الإلهيّة.

10- الدّنيا لا تنفصل عن الآخرة، والعلاقة بينهما مثل علاقة مرحلة الطّفولة بمرحلة الشّيخوخة، حيث إنّ مرحلة الشّيخوخة هي حصيلة مرحلة الطّفولة والشّباب.

ومن مجموع ما قلناه اتّضح أنّ التّوحيد العمليّ ـ الذي هو أعمّ من التّوحيد العمليّ الفرديّ والاجتماعيّ ـ عبارة عن انسجام الفرد في توحيد العبادة لله، ورفض كلّ لون آخر من ألوان العبادة، من قبيل عبادة الهوى، وعبادة المال، وعبادة الجاه، وغيرها. وكذلك يعني انسجام المجتمع في طريق توحيد العبادة للحقّ، ورفض كلّ طاغوت، وكلّ ترجيح ظالم. وما دام الفرد أو المجتمع غير واصل إلى الوحدة، فإنّه لن يظفر بالسّعادة.

* الكتاب: دراسات عقائدية (ج1)، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- مطهري، مرتضى، المفهوم التوحيدي للعالم، دار التيّار الجديد،1985، ص 5.
2- المفهوم التوحيدي للعالم، ص 6 (بتصرّف).
3- المفهوم التوحيدي للعالم، ص 6-17.
4- سورة البقرة، الآية 156.
5- سورة الشورى، الآية 11.
6- سورة فاطر، الآية 15.
7- سورة الشورى، الآية 12.
8- سورة الحج، الآية 6.
9- سورة البقرة، الآية 115.
10- سورة ق، الآية 16.
11- سورة الأعراف، الآية 180.
12- سورة الأنعام، الآية 103.

2016-04-13