يتم التحميل...

في العلاج الذي يمنع الإنسان عن الغيبة

تهذيب النفس

إعلم أن مساوىء الأخلاق كلَّها إنَّما تُعالَج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كلِّ علَّةٍ بمضادّ سببها.

عدد الزوار: 108

إعلم أن مساوىء الأخلاق كلَّها إنَّما تُعالَج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كلِّ علَّةٍ بمضادّ سببها.
فلنبحث عن سبب الغيبة أولاً ثم نذكر علاج كفّ اللسان عنها على وجهٍ يناسب علاج تلك الأسباب.

فنقول جملة ما ذكروه من الأسباب الباعثة على الغيبة عشرة أشياء قد نبَّه الصادق عليه السلام إليها إجمالاً بقوله: "أصل الغيبة يتنوّع بعشرة أنواع: 1 ــ شفاء غيظ، 2 ــ ومساعدة قوم، 3ــ وتصديق خبر بلا كشفه، 4ــ وتهمة، 5ــ وسوء ظنّ، 6ــ وحسد، 7ــ وسخرية، 8ــ وتعجّب، 9ــ وتبرّم، 10ــ وتزيّن"1.

ونحن نشير إليها مفصَّلة:
الأول:
تشفّي الغيظ، وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه فإذا هاج غضبه يشفى بذكر مساويه وسبق اللسان إليه بالطّبع إن لم يكن ديِّن ورِعٌ، وقد يمتنع من تشفّي الغيظ عند الغضب فيتحقَّق في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوىء. فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنَّهم إذا كانوا يتفكَّهون بذكر الأعراض فيرى أنَّه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظنّ أنَّه مجاملة في الصُّحبة، وقد يُغضِب رفقاءه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم اظهاراً للمساهمة في السرَّاء والضرَّاء فيخوض معهم في ذكر العيوب والمساوىء.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أنَّه سيقصده ويطول لسانه فيه، أو يقبح حاله عند محتشم أو يشهد عليه بشهادة، فيبادر قبل ذلك ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته وفعله أو يبتدي بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد به فيقول ما من عادتي الكذب فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن يُنسب إليه شيءٌ فيريد أن يتبرأ منه، فيذكر الذي فعله وكان من حقِّه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعله ولا ينسب غيره إليه أو يذكر غيره بأنَّه كان مشاركاً له في الفعل ليمهِّد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنّع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف، وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أفضل منه أو يحذر أن يعظّم مثله تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد، وهو أنَّه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبّونه ويكرمونه فيريد زوال تلك النعمة عنه، فلا يجد سبيلاً إليه إلاَّ بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفُّوا عن إكرامه والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع ثناء الناس عليه وإكرامهم له، وهذا هو الحسد وهو عين الغضب والحقد والحسد، وقد يكون مع الصديق المحسن والقريب الموافق.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة والتعجّب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له، فإنَّ ذلك قد يجري في الحضور فيجري ايضاً في الغيبة ومنشؤُه التكبّر واستصغار المستهزَء.

التاسع: وهو مأخذ دقيق ربَّما يقع فيه الخواصّ وأهل الحذر من مزالّ اللسان، وهو أن يغتمّ بسبب ما يبتلي به أحد فيقول: يا مسكين فلان قد غمّني أمره وما ابتُليَ بهِ، ويذكر سبب الغمّ فيكون صادقاً في اغتمامه ويلهيه الغمّ عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره بما يكرهه فيصير به مُغتاباً، فيكون غمّه ورحمته خيراً، ولكنَّه ساقه إلى شرّ من حيث لا يدري، والترحّم والتغمّم ممكن من دون ذكر اسمه ونسبته إلى ما يكره فيُهيّجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحّمه.

العاشر:
الغضب لله تعالى، فإنَّه قد يغضب على منكر قارفه انسان فيظهر غضبه ويذكر اسمه ليبطل به على غير وجه النّهي عن المنكر، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه على ذلك الوجه خاصَّة وهذا ممَّا يقع فيه الخواص أيضاً فإنهم يظنّون أن الغضب إذا كان لله تعالى كان عُذراً كيف كان وليس كذلك.

إذا عرفت هذه الوجوه التي هي أسباب الغيبة، فاعلم أن الطريق في علاج كفّ اللسان عن الغيبة يقع على وجهين:

أحدهما:
على الجملة والآخر على التفصيل.
أمَّا على الجملة، فهو أن يعلم تعرّضه لسخط الله تعالى بغيبته كما قد سمعته في الأخبار المتقدمة وان يعلم أنَّه (أنَّها) تحبط حسناته، فإنَّها تنقل في القيامة حسناته إلى من اغتابه بدلاً عمَّا أخذ من عرضه فإن لم يكن له حسنات نقل إليه من سيِّئاته وهو مع ذلك متعرّضٌ لمقت الله تعالى ومشبّه عنده بأكل الميتة، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد"2.

ورُويَ أن رجلاً قـال لبعض الفضـلاء: بلغـني أنَّك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أن أحكّمك في حسناتي فمهما آمن العبد بما وردت به الأخبـار لـم ينطلـق لسانـه بالغيبة خوفاً من ذلك، وينفعه ايضاً أن يتدبَّر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحيي من أن يترك نفسه ويذمَّ غيره، بل ينبغي أن يعلم أنَّ عجز غيره عن نفسه في التنزُّه عن ذلك العيب كعجزه إن كان ذلك عيبـاً يتعلَّـق بفعلـه واختياره، وإن كان أمراً خلقيَّاً فالذمّ له ذمّ للخالق، فإنَّ مـن ذمَّ صنعـةً فقد ذمَّ الصانع.

قال رجل لبعض الحكماء: يا قبيح الوجه، فقال: ما كان خلق وجهي إليَّ فأحسّنه. وإن لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله ولا يتلوَّث نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب فيصير حينئذٍ ذا عيب، بل لو أنصف نفسه لعلم أن ظنَّه بنفسه أنه بريء من كلّ عيبٍ جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب.

وينفعه أن يعلم أنَّ تألّم غيره بغيبته كتألّمه بغيبة غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتابَ فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه.
فهذه معالجات جميلة.

وأما التفصيل فهو أن ينظر إلى السبب الباعث له على الغيبة ويعالجه، فإنَّ علاج العلَّة بقطع سببها.

وقد عرفت الأسباب الباعثة.

أما الغضب فيعالجه بأن يقول: إن أمضيت غضبي عليه لعلَّ الله تعالى يمضي غضبه عليَّ بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاستجرأت على نهيه واستخففت بزجره، وقد قال عليه السلام : "إنَّ لجهنَّم باباً لا يدخلها إلاَّ من شفى غيظه بمعصية الله تعالى"3.

وقال عليه السلام "من اتَّقى ربَّه كلّ لسانه ولم يشف غيظه"4.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم : "مَن كَظمَ غيظاً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتَّى خيَّرهُ الله من أيّ الحور العين شاء"5.

وفي بعض كتب الله تعالى: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق6.
وأمَّا الموافقة فبأن تعلم أنَّ الله تعالى يغضب عليك إذا طلبت سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقّر غيرك وتحقّر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلاَّ أن يكون غضبُك لله تعالى، وذلك لا يوجب أن تذكر المغضوب عليه بسوءٍ، بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً لرفقائك إذا ذكروه بالسوء فإنَّهم عصوا ربّك بأفحش الذُّنوب وهو الغيبة.

وأمَّا تنزيه النفس بنسبة الخيانة إلى الغير حيث يستغني عن ذكر الغير فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشدّ من التعرّض لمقت الخلق، وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله تعالى يقيناً ولا تدري أنَّك تتخلّص من سخط الناس أم لا فتخلّص نفسك في الدُّنيا بالتوهّم وتهلك في الآخرة أو تخسر حسناتك بالحقيقة وتحصّل ذمّ الله نقداً وتنتظر رفع ذمّ الخلق نسيةً وهذا غاية الجهل والخذلان.

وأمَّا عُذْرك
كقولك إن أكلتُ الحرام ففلان يأكل، وإن فعلتُ كذا ففلان يفعل كذا، وإن قصّرت في كذا من الطاعة ففلان مقصّر، ونحو ذلك فهذا جهل لأنَّك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به، فإن من خالف أمر الله لا يُقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته سفه عقلك، فما ذكرته غيبةً وزيادة معصيةٍ أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجّلك مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغَباوتك، وكنتَ كالشَّاة تنظر إلى العنز تردّى نفسه من الجبل فهي أيضاً تردّى نفسها ولو كان لها لسان وصرّحت بالعذر وقالت العنز أكيس منّي وقد أهلك نفسه فكذا فعل لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها. ثم لا تتعجّب ولا تضحك من نفسك.

وأمَّا قصدك
المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك، فينبغي أن تعلم أنَّك بما ذكرته أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك تثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوق وهماً ولو حصل لك من المخلوق اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.

وأمَّا الغيبة للحسد
، فهو جمع بين عذابين لأنَّك حسدته على نعمة الدنيا وكنت معذّباً بالحسد فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة فكنت خاسراً في الدُّنيا فجعلت نفسك خاسرة في الآخرة لتجمع بين النّكالين فقد قصدت محسودك وأصبت نفسك وأهْدَيت إليه حسنتك فأنت إذاً صديقه وعدو نفسك إذ لا تضرّه غيبتك وتضرّك وتنفعه إذ تنقل إليه حسنتك أو تنقل إليك سيّئته ولا تنفعك، وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة، وربَّما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك، فقد قيل: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أناح لها لسان حسود.

وأمَّا الاستهزاء
فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله وعند الملائكة والنبيين، فلو تفكَّرت في خزيك وحيائك وحسرتك وخجلتك يوم تحمل سيّئات من استهزأت به وتُساق إلى النار لأدهشك ذلك عن اخزاء صاحبك، ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منه، فإنَّك سخرت به عند نفر قليل وأعرضت نفسك لأن يأخذ بيدك يوم القيامة على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيّئاته كما يساق الحمار الى النار مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله إيَّاهُ وتسليطه على الانتقام.

وأمَّا الرحمة
له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس واستنطقك بما تنقل من حسناتك إليه مما هو أكثر من رحمتك فيكون جبراً لإثم المرحوم ليخرج عن كونه مرحوماً وتنقلب أنت مستحقَّاً لأن تكون مرجوماً إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك. وكذلك الغضب لله لا يوجب الغيبة فإنَّما حبّب الشيطان إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لغضب الله تعالى بالغيبة.

وبالجملة فعلاج جميع ذلك المعرفة والتحقيق لها بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكفَّ عن الغيبة لا محالة.

* كشف الريبة في أحكام الغيبة, سلسلة تراثيات إسلامية, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- مصباح الشريعة، ص502.
2- إحياء علوم الدين، ج3، ص041.
3- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
4- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
5- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.
6- تنبيه الخواطر، ج1، ص121.

2016-04-04