في الأعذار المرخّصة في الغيبة
تهذيب النفس
إعلم أنَّ المُرخَّص في ذكر مساءة الغير هو غرض صحيح في الشّرع لا يمكن التوصّل إليه إلاَّ به فيدفعُ ذلك إثم الغيبة وقد حصروها في عشرة:
عدد الزوار: 93
إعلم أنَّ المُرخَّص في
ذكر مساءة الغير هو غرض
صحيح في الشّرع لا يمكن
التوصّل إليه إلاَّ به
فيدفعُ ذلك إثم الغيبة
وقد حصروها في عشرة:
الأول:
التظلّم، فإنَّ
من ذكر قاضياً بالظلم
والخيانة وأخذ الرشوة كان
مغتاباً عاصياً، فأما
المظلوم من جهة القاضي
فله أن يتظلّم إلى من
يرجو منه إزالة ظلمه
وينسب القاضي إلى الظلم
إذ لا يمكنه استيفاء حقّه
إلاَّ به.
وقد قال صلى الله
عليه وآله وسلم : "لصاحب
الحقّ مقال"1.
وقال صلى الله
عليه وآله وسلم : "مطل
الغنيّ ظلم"2.
وقال صلى الله
عليه وآله وسلم : "مطل
الواجد يحلّ عرضه
وعقوبته"3.
الثاني: الاستعانة
على تغيير المنكر وردّ
العاصي إلى منهج الصلاح،
ومرجع الأمر في هذا الى
القصد الصحيح فإن لم يكن
ذلك هو المقصود كان حراماً.
الثالث: الاستفتاء
كما تقول للمفتي قد ظلمني
أبي أو أخي فكيف طريقي في
الخلاص.
والأسلم هنا التعريض بأن
تقول ما قولك في رجل ظلمه
أبوه أو أخوه.
وقد رُويَ أنَّ هنداً
قالت للنبي صلى الله عليه
وآله وسلم : إنَّ أبا
سُفيان رجل شحيح لا
يعطيني ما يكفيني أنا
وولدي، أفآخذ من غير علمه؟
فقال: خذي ما يكفيكِ
وولدك بالمعروف4.
فذكرت الشحّ لها وولدها
ولم يزجرها رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم إذ
كان قصدها الاستفتاء.
الرابع: تحذير
المسلم من الوقوع في
الخطر والشرّ ونصح
المستشير، فإذا رأيت
متفقّهاً يتلبّس بما ليس
من أهله فلك أن تنبّه
الناس على نقصه وقصوره
عمَّا يؤهّل نفسه له
وتنبّههم على الخطر
اللاحق لهم بالإنقياد
إليه. وكذلك إذا رأيت
رجلاً متردّداً إلى فاسق
يُخفي أمره وخفت عليه من
الوقوع بسبب الصُّحبة في
ما لا يوافق الشرع، فلك
أن تنبّهه على فسقه مهما
كان الباعث لك الخوف على
افشاء البدعة وسراية
الفسق وذلك موضع الغرور
والخديعة من الشيطان إذ
قد
يكون الباعث لك على ذلك
هو الحسد له على تلك
المنزلة فيلبّس عليك
الشيطان ذلك بإظهار
الشفقة على الخلق. وكذلك
إذا رأيت رجلاً يشتري
مملوكاً وقد عرفت المملوك
بعيوبٍ منقصةٍ فلك أن
تذكرها للمشتري فإنَّ في
سكوتك ضرراً للمشتري، وفي
ذكرك ضرراً للعبد، لكنَّ
المشتري أولى بالمراعاة
ولتقتصر على العيب المنوط
به ذلك الأمر فلا تذكر في
عيب التزويج ما يخلّ
بالشركة والمضاربة أو
السفر مثلاً بل تذكَّر في
كلِّ أمر ما يتعلَّق بذلك
الأمر ولا يتجاوزه قاصداً
نصح المستشير لا الوقيعة،
ولو علم أنه يترك التزويج
بمجرَّد قوله لا يصلح لك
فهو الواجب، فإن علم
أنَّه لا ينزجر إلاَّ
بالتصريح بعيبه فله أن
يصرّح به.
قال النبي صلى الله عليه
وآله وسلم : "أترعون
عن ذكر الفاجر حتى يعرفه
الناس اذكروه بما فيه
يحذره الناس"5.
وقال صلى الله عليه وآله
وسلم لفاطمة بنت قيس حين
شاورته في خطَّابها: "أمَّا
معاوية فرجل صعلوك لا مال
له، وأمَّا أبو جهم فلا
يضع العصا عن عاتقه"6.
الخامس:
الجرح والتعديل للشاهد
والراوي، ومن ثم وضع
العلماء كتب الرجال
وقسّموهم إلى الثقات
والمجروحين وذكروا أسباب
الجرح غالباً.
ويشترط إخلاص النصيحة في
ذلك كما مرَّ بأن يقصد في
ذلك حفظ أموال المسلمين
وضبط الألسنة وحمايتها عن
الكذب، ولا يكون حامله
العداوة والتعصّب.
وليس له إلاَّ ذكر ما يخلّ
بالشهادة والرواية منه
ولا يتعرّض لغير ذلك مثل
كونه ابن ملاعنة أو شبهة،
اللهمَّ إلاَّ أن يكون
متظاهراً بالمعصية كما
سيأتي.
السادس: أن يكون
المقول فيه مستحقاً لذلك،
لتظاهره بسببه كالفاسق
المتظاهر بفسقه بحيث لا
يستنكف من أن يذكر بذلك
الفعل الذي يرتكبه فيذكر
بما هو فيه لا بغيره.
قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم : "من
ألقى جلباب الحياء عن
وجهه فلا غيبة له"7،
وظاهر الخبر جواز غيبته
وإن استنكف من ذكر ذلك
الذنب، وفي جواز اغتياب
مطلق الفاسق احتمال ناشىء
من قوله لا غيبة لفاسق8.
ورُدَّ بمنع أصل الحديث
وبحمله على فاسق خاصّ أو
بحمله على النهي وإن كان
بصورة الخبر.
وهذا هو الأجود، إلاَّ أن
يتعلَّق بذلك غرض دينيّ
ومقصد صحيحٌ يعود على
المغتاب بأن يرجو ارتداعه
عن معصيته بذلك فيلحق
بباب النهي عن المنكر.
السابع: أن يكون
الانسان معروفاً باسم
يعرب عن عيبه
كالأعرج والأعمش فلا اثم
على من يقول ذلك، وقد فعل
العلماء ذلك لضرورة
التعريف، ولأنَّه صار
بحيث لا يكرهه صاحبه لو
علمه بعد أن صار مشهوراً
به.
والحقّ أنَّ ما
ذكره العلماء المعتمدون
من ذلك يجوز التعويل فيه
على حكايتهم.
وأمَّا ذكره عن
الاحياء فمشروط بعلم رضا
المنسوب إليه لعموم النهي،
وحينئذٍ يخرج عن كونه
غيبة. وكيف كان فلو وجد
عنه معدلاً وأمكنه
التعريف بعبارة أخرى فهو
أولى.
الثامن:
لو اطَّلعَ العدد
الذين يثبت بهم الحد
والتعزير على فاحشةٍ جاز
ذكرها عند الحكَّام بصورة
الشهادة في حضرة الفاعل
وغيبته ولا يجوز التعرّض
إليها في غير ذلك إلاَّ
أن يتَّجه فيه أحد الوجوه
الأخر.
التاسع:
قيل إذا علم
اثنان من رجل معصية
شاهداها فأجرى أحدهما
ذكرها في غيبة ذلك العاصي
جاز لأنه لا يؤثّر عند
السامع شيئاً وإن كان
الأولى تنزيه النفس
واللسان عن ذلك لغير غرض
من الأغراض المذكورة
خصوصاً مع احتمال نسيان
المقول له لتلك المعصية
أو خوف اشتهارها عنهما.
العاشر:
إذا سمع أحد
مُغتاباً لآخر وهو لا
يعلم استحقاق المقول عنه
للغيبة ولا عدمه، قيل لا
يجب نهي القائل لإمكان
استحقاق المقول عنه
فيُحمل فعل القائل على
الصحة ما لم
يعلم فساده لأنَّ ردعه
يستلزم انتهاك حُرمته وهو
أحد المحرّمين. والأولى
التنبيه على ذلك إلاَّ أن
يتحقق المخرج منه لعموم
الأدلَّة وترك الاستفصال
فيها، وهو دليل إرادة
العموم حذراً من الاغراء
بالجهل، ولأن ذلك لو تمَّ
لتمشَّى في من تعلم عدم
استحقاق المقول عنه
بالنسبة الى السامع
لاحتمال اطلاع القائل على
ما يوجب تسويغ مقاله وهو
يهدم قاعدة النهي عن
الغيبة. وهذا الفرد
يُستثنى من جهة سماع
الغيبة، وقد تقدَّم أنه
أحد الغيبتين.
وبالجملة فالتحرّز عنها
من دون وجه راجح في فعلها
فضلاً عن الإباحة أولى
لتتّسِمَ النفس بالأخلاق
الفاضلة.
ويؤيّده اطلاق النهي في
ما تقدَّم كقوله صلى الله
عليه وآله وسلم :أتدرون
ما الغيْبَة؟ قالوا: الله
ورسوله أعلم، قال صلى
الله عليه وآله وسلم : "ذكرك
أخاك بما يكرهه"9.
وأمَّا مع رجحانها كردّ
المبتدعة واخزاء الفسقة
منهم والتنفير منهم
والتحرّز من إتباعهم،
فذلك يوصف بالوجوب مع
امكانه فضلاً عن غيره
والمعتمد في ذلك كلّه على
المقاصد فلا يغفل
المستيقظ عن ملاحظة مقصده
وإصلاحه، والله الموفق.
* كشف الريبة في أحكام الغيبة, سلسلة تراثيات إسلامية, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- إحياء علوم الدين، ج3،
ص441.
2- العوالي، ج4، ص27،
ح54.
3- إحياء علوم الدين،ج3،
ص441.
4- إحياء علوم الدين، ج3،
ص441.
5- إحياء علوم الدين، ج3،
ص441.
6- العوالي، ج1، ص834،
ح551.
7- العوالي، ج1، ص772،
ح501.
8- العوالي، ج1، ص834،
ح351.
9- تنبيه الخواطر، ج1،
ص811.