الهدف من الخلق
بحوث ومعتقدات
في الوقت الذي لا يعترف الماديون بهدف للخلق، لأنهم يعتقدون أن الطبيعة الفاقدة للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق، ولهذا فإنهم يؤيدون اللغوية وعدم الفائدة في مجموعة الوجود،
عدد الزوار: 272
في الوقت الذي لا يعترف الماديون بهدف للخلق، لأنهم يعتقدون أن الطبيعة الفاقدة
للعقل والشعور والهدف هي التي ابتدأت الخلق، ولهذا فإنهم يؤيدون اللغوية وعدم
الفائدة في مجموعة الوجود، فإن الفلاسفة الإلهيين وإتباع الأديان جميعا يعتقدون
بوجود هدف سام للمخلوقات، لأن المبدئ للخلق قادر وحكيم وعالم، فمن المستحيل أن يقوم
بعمل لا فائدة فيه.
وهنا ينقدح هذا السؤال: ما هو الهدف؟
قد نتوهم أحيانا نتيجة قياس الله سبحانه على ذواتنا
وأنفسنا ونتساءل: هل كان الله محتاجا وينقصه شئ، وكان يريد بخلق الوجود، ومن جملته
الإنسان، أن يسد ذلك النقص ويرفع تلك الحاجة؟
هل هو محتاج لعبادتنا ودعائنا ومناجاتنا؟ هل كان يريد أن
يعرف فخلق الخلق ليعرف؟
إلا أن هذا كما قلنا خطأ كبير ناشئ من المقارنة بين الله وخلقه، في حين أن هذه
المقارنة والقياس غير الصحيح هو أكبر سد ومانع في بحث معرفة صفات الله، ولذلك فإن
أول أصل في هذا البحث هو أن نعلم أن الله سبحانه لا يشبهنا في أي شئ
فالإنسان موجود محدود من كل النواحي، ولذلك فإن كل مساعينا هي من أجل رفع نواقصنا
واحتياجاتنا، ندرس لنتعلم فنمحوا نقص جهلنا، ونسعى للعمل والكسب لدفع الفقر ونكسب
الثروة، نهيئ الجيوش والقوى لنسد النقص في قوانا أمام العدو، وحتى في الأمور
المعنوية أو تهذيب النفس أو التكامل المعنوي والروحي، فإن السعي والجد في كل ذلك من
أجل رفع النواقص
ولكن، هل من المعقول أن يقوم الوجود المطلق غير المتناهي
في كل الجهات (فعلمه وقدرته وقوته غير محدودة، ولا يعاني أي نقص في الوجود) بعمل
لرفع حاجته؟
يتضح من هذا التحليل أن الخلق ليس عبثا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الهدف من الخلق لا
يعود إلى الخالق. وهنا يمكن أن نصل ببساطة إلى نتيجة، وهي: أن الهدف، حتما وبلا شك،
أمر يرتبط بنا.
ومع ملاحظة هذه المقدمة يمكن التوصل إلى أن هدف الخلقة هو تكاملنا وارتقاؤنا ولا شئ
سواه وبتعبير آخر فإن عالم الوجود بمثابة مدرسة لتكاملنا في مجال العلم ودار حضانة
لتربية وتهذيب نفوسنا ومتجر لكسب الموارد المعنوية، وأرض زراعية غنية صالحة لإنتاج
أنواع المحصولات الإنسانية أجل " الدنيا مزرعة الآخرة.. الدنيا دار صدق لمن صدقها،
ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها " 1
إن هذه القافلة قد تحركت من عالم العدم، وهي تسير دائما إلى ما لا نهاية له ويشير
القرآن المجيد إشارات قصيرة عميقة المعنى جدا في آيات مختلفة إلى وجود هدف معين من
الخلق من جهة، ومن جهة أخرى فإنه يشخص هذا الهدف ويوضحه فيقول في الجانب الأول:
أيحسب الإنسان أن يترك سدى. 2 أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا
ترجعون. 3
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا.4 وفي
الجانب الآخر، فإنه جعل هدف الخلق في بعض الآيات عبودية الله وعبادته: وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون5، ومن البديهي أن العبادة منهج لتربية الإنسان
في الأبعاد المختلفة.. العبادة بمعناها الشمولي التي هي التسليم لأمر الله ستهب روح
الإنسان تكاملا في الأبعاد المختلفة، وقد بينا تفصيله في ذيل الآيات المرتبطة
بالعبادات المختلفة.
ويقول: أحيانا إن الهدف من الخلقة هو إيقاظكم وتوعيتكم وتقوية إيمانكم واعتقادكم:
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على
كل شئ قدير6.
ويقول تارة: إن الهدف من الخلق هو اختبار حسن عملكم: الذي خلق الموت والحياة
ليبلوكم أيكم أحسن عملا.7 إن الآيات الثلاث آنفة الذكر والتي يشير كل
منها إلى بعد من أبعاد وجود الإنسان الثلاث - بعد الوعي والإيمان، وبعد الأخلاق،
وبعد العمل - تبين هدف الخلق التكاملي الذي يعود على الإنسان نفسه.
ويجدر أن نشير إلى هذه " اللطيفة "، وهي أنه لما كانت آيات القرآن غير حاوية لكلمة
التكامل، فإن بعضا يتصور أنها من الأفكار المستوردة، إلا أن الرد على مثل هذا
التصور أو الإشكال واضح، لأننا لسنا في صدد الألفاظ الخاصة، فمفهوم التكامل
ومصاديقه جلية في الآيات آنفة الذكر، ترى ألم يكن العلم مصداقه الواضح.. أم لم يكن
الارتقاء في العبودية وحسن العمل من مصاديقه!
فنحن نقرأ في الآية (17) من سورة محمد قوله تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى فهل يدل
التعبير بالزيادة إلا على التكامل؟
وهنا ينقدح سؤال، وهو: إذا كان الهدف هو التكامل، فلماذا
لم يخلق الله الإنسان كاملا منذ البداية حتى لا يكون محتاجا إلى طي مراحل التكامل؟
إن أساس هذا الإشكال هو الغفلة عن هذه النقطة، وهي أن العنصر الأصلي للتكامل هو
التكامل الاختياري، وبتعبير آخر فإن التكامل يعني أن يطوي الإنسان الطريق بنفسه
وإرادته وتصميمه، فإذا أخذوا بيده وأوصلوه بالقوة والجبر فليس هذا افتخارا ولا
تكاملا.
فمثلا: لو أنفق الإنسان فلسا واحدا من ماله بإرادته وتصميمه، فقد طوى من طريق
الكمال الأخلاقي بتلك النسبة، في حين أنه لو أجبر على إنفاق الملايين من ثروته،
فإنه لم يتقدم خطوة واحدة في ذلك الطريق، ولذلك صرح القرآن بهذه الحقيقة في الآيات
المختلفة، وهي أن الله سبحانه لو شاء لأجبر الناس على أن يؤمنوا، إلا أن هذا
الإيمان لا نفع فيه لهؤلاء: ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا.8
الآيات
وله من في السماوات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19)
يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) سورة الأنبياء.
كان الكلام في الآيات السابقة عن أن عالم الوجود ليس عبثيا لا هدف من ورائه، فلا
مزاح ولا عبث، ولا لهو ولا لعب، بل له هدف تكاملي دقيق للبشر.
ولما كان من الممكن أن يوجد هذا التوهم، وهو: ما حاجة
الله إلى إيماننا وعبادتنا؟
فإن الآيات التي نبحثها تجيب أولا عن هذا التوهم، وتقول: وله من في السماوات والأرض،
ومن عنده (أي الملائكة) لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون9 يسبحون
الليل والنهار لا يفترون.
ومع هذا الحال فأي حاجة لطاعتكم وعبادتكم؟ فكل هؤلاء الملائكة المقربين مشغولون
بالتسبيح ليلا ونهارا، وهو تعالى لا يحتاج حتى لعبادة هؤلاء، فإذا كنتم قد أمرتم
بالإيمان والعمل الصالح والعبودية فإن كل ذلك سيعود بالنفع عليكم.
وهنا نقطة تلفت الانتباه
أيضا، وهي أنه في نظام العبيد والموالي الظاهري، كلما تقرب العبد من مولاه يقل
خضوعه أمامه، لأن يختص به أكثر، فيحتاجه المولى أكثر. أما في نظام عبودية الخلق
والخالق فالأمر على العكس، فكلما اقتربت الملائكة وأولياء الله من الله سبحانه زادت
عبوديتهم.10
* المصدر تفسير الأمثل / اية الله مكارم الشيرازي.
1- نهج البلاغة،
الكلمات القصار، رقم 131.
2- القيامة، 36.
3- المؤمنون، 115.
4- سورة ص، 27.
5- الذاريات، 56.
6- الطلاق، 12.
7- الملك، 2.
8- يونس، 99.
9- " يستحسرون " في الأصل من مادة حسر، وفي الأصل تعني رفع النقاب والستار عن الشئ
المغطى، ثم استعملت بمعنى التعب والضعف، فكأن كل قوى الإنسان تصرف في مثل هذه
الحالة، ولا يبقى منها شئ مخفي في بدنه.
10- الميزان، ذيل الآيات محل البحث.