يتم التحميل...

لبنان بين الحرب الناعمة والحرب الصلبة

الحرب الناعمة

كان الطامعون بالمنطقة وأعداؤها منذ أمد بعيد يلجأون إلى الحرب الصلبة. ولو بدأنا بالحرب الصليبية، فإننا نجد أن الغرب يشن الحروب ويجتاح كلما استطاع ذلك. فبعد تلك الحروب التي استمرت قرنين من الزمن،

عدد الزوار: 53

كان الطامعون بالمنطقة وأعداؤها منذ أمد بعيد يلجأون إلى الحرب الصلبة. ولو بدأنا بالحرب الصليبية، فإننا نجد أن الغرب يشن الحروب ويجتاح كلما استطاع ذلك. فبعد تلك الحروب التي استمرت قرنين من الزمن، منذ أواخر القرن الحادي عشر إلى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر، رضخت المنطقة لحكم المسلمين الذي استمرّ في منطقة بلاد الشام حتى نهاية الحرب العالمية الأولى. ثم كان الاحتلال الفرنسي الانكليزي، الذي لم تجل جيوشه حتى منتصف العقد الرابع من القرن العشرين.

وبعد الاستقلال تولى الحرب الصلبة العدو الصهيوني، وما زال حتى اليوم. طيلة هذه الأزمنة، كانت الحرب الناعمة تشن إلى جانب الحروب الصلبة. فإبان الحروب الصليبية أغرى ملك فرنسا لويس الثامن القيادات المارونية بأن يكونوا فرنسيين وتحت الحماية الفرنسية.

جاء ذلك في رسالة أرسلها من عكا بتاريخ 20 أيار 1250م، تقول: "نحن موقنون أن هذه الأمة، التي قامت تحت اسم القديس مارون، هي قسم من الأمة الفرنسية.... أما نحن وجميع الذين سيخلفوننا على عرش فرنسا فنعد بأننا نوليكم أنتم (البطريرك) وجميع شعبكم حمايتنا الخاصة، كما نوليها للفرنسيين بعينهم ونسعى في كل وقت في ما يكون آيلاً إلى سعادتكم"1.

وتجددت هذه الحماية على يدي لويس الرابع عشر بتاريخ 28 نيسان- ابريل 1649م، بإرادة ملكية تقول: "ليكن معلوماً أننا بتوجيه من الملكة الوصية، سيدتنا وأمنا ذات الشرف الرفيع، قد أخذنا ووضعنا تحت حمايتنا ورعايتنا الخاصة، بمقتضى توقيعنا بيميننا، صاحب النيافة البطريرك والأكليروس الموارنة المسيحيين. من رجال دين أو علمانيين، الذين يقطنون جبل لبنان خاصة"2.

وعندما بدأ النشاط السياسي الغربي يشتد في أواخر عمر السلطنة العثمانية، أعطت الحروب الناعمة أكلها عند فريق من قيادات منطقة بلاد الشام. فراح كتّاب يطالبون بما يريده الغربيون، الاحتلال الغربي، وخاصة الفرنسي. ومنهم ندرة المطران وجورج سمنة وفارس نمر وشكري غانم، وذلك من أجل " ترقية الأمة بالعلوم والمعارف". على أساس أن لا خطر من الاحتلال، حيث يصرّح فارس نمر في المقتطف بقوله: "أنا احتلالي على رؤوس الأشهاد"، فـ:"إذا حاسنّا المحتلين واستعنا بهم على إصلاح أحوالنا واكتسبنا ثقتهم فلا خوف منهم"3، وعند نهاية الحرب برزت شرائح أصبحت تطرح نفسها جزء من الثقافة الفرنسية، لا بل ومن العنصر الفرنسي. ففي رسالة من "اللجنة التنفيذية الدائمة لتجمّع مسيحيي بيروت"، يرد: "هذا المجموع (من سكان سوريا)، الذي يشكل الأوساط الأكثر استنارة والأكثر تأثيراً، لأنه مشبع بالثقافة الغربية... وإن الشعب اللبناني المتحد مع فرنسا بصلات الصداقة التاريخية، يريد أن تكون فرنسا مساعدة له... إن أسباباً قوية تدفع إلى هذا الخيار.

هذه الأسباب تستند إلى التاريخ والتقاليد والتقارب العرقي... وكذلك إلى شراكة الثقافة وإلى الموقع الجغرافي وعلى مسألة لغة وتشريع وفكر ونفسية مشتركة
" إلى غير ذلك من الأوهام. ولما تراجع النفوذ الفرنسي والبريطاني نسبياً في أواسط الأربعينات إلى أواسط الخمسينات ليبرز بقوة النفوذ الأميركي، لم تلبث الولايات المتحدة أن لجأت إلى الحرب الناعمة، ناشرة ثقافتها، التي لا تختلف جذرياً عن الثقافة الأوروبية الغربية، لتكسب عقول وقلوب فئات واسعة من اللبنانيين.

ولما كانت أميركا راعية، ثم داعمة ثم متحالفة أساساً مع الكيان الصهيوني في منطقتنا، راح الفريقان يتكاملان تجاه لبنان وسائر المنطقة، فمن العدو القوة الصلبة أساساً، ومن أميركا القوة الناعمة.

أ - حرب العدو الصهيوني الصلبة ضد لبنان
منذ ما قبل وجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، وحتى قبل إنشاء دولته في أيار سنة 1948، كان جنوب لبنان، حتى الليطاني، محط أطماع الحركة الصهيونية. كذلك كان لبنان يتعرض للعدوان باستمرار، وكان من أشهر محطاته، مجزرة حولا سنة 1948، قبل إنشاء الكيان، التي ذهب ضحيتها عشرات الشهداء بطريقة غادرة.

ثم كانت حرب اغتصاب فلسطين في أيار 1948، التي انتهت باستيلاء العدو على ثلاثة أرباع أرضها، ومنذ ذلك الحين توالت الاعتداءات الصهيونية، وتفاقمت مع بدايات تحرك المقاومة الفلسطينية انطلاقاً من لبنان، وخاصّة سنة 1968، عندما هاجمت طائرات العدو مطار بيروت الدولي، ودمرت أسطول الطيران المدني اللبناني.

واستمرت العمليات العدوانية ضد اللبنانيين والفلسطينيين، إلى أن اقتطعت بعض فصائل من الجيش اللبناني بقيادة رائد يدعى سعد حداد، بمساندة العدو، شريطاً من الجنوب، ومنع الجيش اللبناني من دخول ذلك الشريط.

وفي سنة 1978 شنّ الجيش الصهيوني عدواناً واسعاً على لبنان أدى إلى استصدار القرار 425 من مجلس الأمن الدولي، الذي قضى بانسحاب الجيش "الإسرائيلي" من لبنان.

وفي حزيران 1982 اجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان واحتل حتى بيروت، إلا أن المقاومة اللبنانية اضطرته إلى الانسحاب من معظم المناطق اللبنانية، ليتوقّف من جديد في الجزء الجنوبي من جنوب لبنان. ونتيجة ضربات المقاومة الإسلامية اضطر العدو إلى الانسحاب في أيار سنة 2000.

إلا أنه في تموز سنة 2006 عاود عدوانه على لبنان متذرعاً بأسر جنديين إسرائيليين على يد المقاومة الإسلامية، فلم يتمكن من تحقيق أهدافه ومني بخسائر جسيمة في الأفراد والمعدات، وخاصة في روح جنوده المعنوية. وما زال العدو يهدد ويتوعد حتى اليوم.

ب - الحرب الناعمة لأميركا والغرب على لبنان
بدأت حرب أميركا الناعمة على لبنان بعد إنزال بعض قواتها على الساحل اللبناني في منطقة الأوزاعي، بطلب من رئيس الجمهورية كميل شمعون المؤيد للنفوذ الغربي ضد الفريق اللبناني الآخر، ثم راحت تقدم شيئاً من المساعدات الغذائية للبنانيين بعد سحب قواتها، إلى جانب بعض أنواع المساعدات الأخرى.

كما وقع لبنان تحت تأثير الحرب الناعمة العامة التي كانت تطلقها الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، والتي كانت تروِّج لأسلوب الحياة الأميركي، كما كان يتعرض لغير ذلك من الحروب، التي كانت تطلقها القوى المختلفة، يسهّل ذلك كونه بلداً مفتوحاً على وسائل الإعلام والثقافات.

غير أن النشاط الأميركي راح يتكثف في مواجهة المقاومة، مستخدماً أساليب التهديد ضدها، وأساليب الحرب الناعمة تجاه اللبنانيين بشكل عام، مع استخدام الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، غطاء لتلك الحرب. فإلى جانب الأساليب التقليدية، كان أهم ما استخدم في المرحلة الأخيرة، القراران 1559 و 1701 والمحكمة الدولية الخاصة بلبنان.

كان هذا القرار صناعة أميركية -ـ فرنسية مشتركة، فقضى بسحب الجيش السوري من لبنان، تحت ذريعة استكمال السيادة، ودعا الى إجراء عملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

كما دعا، من جهة أخرى إلى "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية ونزع سلاحها".
كان هذا القرار في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية ومن ورائها "إسرائيل"، لأنه قصد أن يجرّد المقاومة من سلاحها، ما يمنح الدولة الصهيونية حرية الحركة العسكرية في لبنان، كما يمنح أميركا حرية التصرف بمقدرات هذا البلد من الناحية السياسية والدبلوماسية.

كما يحقّق القرار لفرنسا إمكانية الانتقام من النظام السوري، بعد أن ظهر رئيسه بشار الأسد غير طيّع أمام إملاءات السياسية الفرنسية.
ومع ذلك لاقى القرار هوىً لدى الفئات اللبنانية المرتبطة تاريخياً بالغرب، التي كان منها من سبق أن كان يطالب بقرار أميركي أو دولي من هذا القبيل، كما دغدغ أحلام فئات جديدة.

غير أن الفئات اللبنانية الأخرى رأت في القرار مؤامرة على لبنان ومقاومته، التي تشكل قوة الردع في وجه أطماع العدو، كما تشكل القوة الرئيسية في مواجهة المشاريع الاستكبارية التي ما فتئت تهدد المنطقة، منذ بزوغ العصر الاستعماري حتى اليوم.

2 - القرار 1701 (2006)
أتى هذا القرار لوضع حد للمواجهات التي دارت إثر العدوان "الإسرائيلي" على لبنان بين المقاومة الإسلامية وجيش العدو، وقد حاولت أميركا والغرب عموماً أن تجعل المقاومة في موضع المهزوم سياسياً بعد صمودها العسكري الكبير.
حمّل القرار المقاومة الإسلامية مسؤولية القتال، رغم أن العدو هو الذي شن الحرب على لبنان، متذرعاً بأسر المقاومة جنديين من جيشه (البند 1)، وطلب تطبيق القرار 1559، بحيث لا يبقى سلاح في لبنان إلا السلاح الذي توافق الحكومة اللبنانية على وجوده (البندان 3 و8- 2و3) كما طالب الدول الأخرى بعدم إمداد المقاومة بالسلاح (البند 8-5).

أتى هذا القرار بعد أن حاولت الجهات اللبنانية المرتبطة بالغرب المستحيل لإقناع العدو الصهيوني بواسطة أميركا، أن يفعل كل ما يستطيع لتدمير المقاومة، ولما عجز العدو، استعاضت الجهات المؤيدة له عن أسلوب الحرب العسكرية بأسلوب الحرب الدبلوماسية.

ولما كان تدمير المقاومة، بنزع سلاحها، هو المطلب الأميركي "الإسرائيلي" الأساسي، فإن جهات لبنانية كانت وما زالت تطالب به، دون أن يكون لديها أي بديل آخر يؤمن الحماية للبنان في مواجهة العدوانية الصهيونية الطامعة بالأرض والمياه. ومرة أخرى هناك حرب صلبة بمواجهة فريق لبناني وحرب ناعمة بمواجهة فريق آخر.

3 - المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أو المحكمة "ذات الطابع الدولي".
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، طالبت السلطات اللبنانية تحت تأثير الضغوط المختلفة، الأمم المتحدة أن توفد لجنة لتقصي الحقائق، فأرسلت لجنة برئاسة ضابط شرطة إيرلندي، فقامت بمهمتها وخلصت إلى التوصية بتشكيل لجنة تحقيق دولية، فشكلت اللجنة برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، الذي خلفه قاضٍ بلجيكي هو سيرج براميرتز، الذي أعقبه أخيراً القاضي الكندي دانيال بلمار.

وأخيراً شكلت، بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1757 بتاريخ 30-5-2007، محكمة التبست تسميتها بين المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أو المحكمة ذات الطابع الدولي، لمحاكمة قتلة الرئيس الحريري ورفاقه، وربما المتورطين في جرائم أخرى ارتكبت قبل اغتيال الحريري وبعده.

أُقر إنشاء المحكمة من قبل مجلس الأمن، بعد أن فشلت الحكومة التابعة للجهات المؤيدة للسياسة الأميركية، والتي تجمعت تحت راية 14 آذار، في اتباع الطرق الدستورية، التي تقضي بأن يبادر رئيس الجمهورية إلى المفاوضة (أو التكليف بالمفاوضة) في المعاهدات الدولية (م 52 من الدستور).

وقد اتخذ القرار 1757 تحت الفصل السابع لجعله إلزامي التنفيذ من قبل لبنان، تحت طائلة التعرض للعقوبات، التي يمكن أن تبدأ بالاقتصادية والدبلوماسية وتنتهي بالتدخل العسكري. وقد اعتمد هذا الأمر لقطع الطريق على معارضي الصيغة التي أعطيت للمحكمة.

لقد حلّ مجلس الأمن بقراره هذا محل السلطات الدستورية اللبنانية: رئيس الجمهورية ومجلس النواب، دون أي مبرر. وما التذرع بأن هاتين الجهتين لا ترغبان بإقامة المحكمة إلا مخالفة أخرى تضاف إلى المخالفات. فإذا كانت السلطات المخولة صلاحية ما، تتصرف من ضمن هذه الصلاحية، فالمسألة قانونية ولا تشوبها شائبة. وقد حاولت الحكومة أن تهرب من هذا، مدعية أن السلطة المكلفة بالبت النهائي بالاتفاق، مجلس النواب، معطلة. إلا أن الصحيح أن رئيس المجلس لم يعطله، بل هو رفض السير في عملية غير دستورية، لأنها بدأت في المكان الخطأ، بدأت عند الحكومة بدلاً من أن تبدأ عند رئيس الجمهورية.

أما لجهة موضوع القرار، فهو اعتداء على السيادة اللبنانية، وبالتالي هو خرق لميثاق الأمم المتحدة في مادته 2-7، التي تمنع تدخل الأمم المتحدة في كل ما يعد من صميم السلطان الداخلي للدول. والاعتداء المذكور على السيادة تمثل بانتزاع صلاحية هامة من صلاحيات سلطة من السلطات اللبنانية، هي السلطة القضائية، وإيلائها إلى جهة خارجية، خلافاً للمادة 20 من الدستور، التي تحصر السلطة القضائية اللبنانية بالمحاكم اللبنانية.

كل هذا كان مطلباً لجهة لبنانية بالإضافة إلى كونه مطلباً لأميركا والغرب يمكّنه من الحصول على سيف يسلّط فوق رأس أي فريق لبناني يعارض سياساته. وهذا ما يؤمنه مبدئياً النظام الأساس للمحكمة، ذلك النظام الذي طبق بأكثر الطرق انحيازاً للسياسة الأميركية و "الإسرائيلية"، ومن خلفها الغربية بنحو عام.

أعطيت المحكمة صلاحيات واسعة جداً تسمح لها بتجاهل السيادة اللبنانية، إذ توضع السلطات اللبنانية تحت تصرفها لتلبية طلباتها، كما قضى البروتوكول المعقود بين مكتب المدعي العام والحكومة اللبنانية ممثلة بوزير العدل بالسيطرة المطلقة للقضاة الأجانب (م 8 من النظام الأساسي للمحكمة)، وكذلك أعطيت المحكمة صلاحيات التشريع، إذ لها أن تضع قواعد للإجراءات والإثبات، ما يعني أنها تسنّ قانوناً للأصول الجزائية وتطبقه، في خرق واضح لمبدأ فصل السلطات (م 28)، وإن كان لها أن تسترشد بقانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني، وبالمواد المرجعية الأخرى التي تنم عن أعلى معايير الإجراءات الجنائية الدولية، بغية ضمان محاكمة عادلة وسريعة. إلا أن هذه الإمكانية يعود تقديرها إلى المحكمة نفسها.

ثم إن الحكومة اللبنانية ملزمة بالتمويل بنسبة 49% من موازنة المحكمة، التي يقرّرها القضاة بكل استقلالية، ولا يجوز للبنان أن يمارس أي قدر من المراقبة عليها (م 5 من اتفاق الحكومة مع الأمم المتحدة).

أما الصلاحيات الخارقة في المحاكمة فتتمثل بالآتي:
1- جواز أن تعيد المحكمة محاكمة أي شخص حوكم أمام محكمة لبنانية، وعدم جواز العكس (م 5 من النظام الأساس). هذا مع العلم أن الحكم الذي يصدر عن محكمة لبنانية ويتخذ الصفة القطعية يرتب للمحكوم عليه حقوقاً مكتسبة بألا تعاد محاكمته، كما يؤكده الدكتور محمد الحموري الوزير الأردني السابق5، لكن الحكومة اللبنانية تحرمه من هذا الحق باتفاقها مع الأمم المتحدة.

2- عدم جواز إصدار أي عفو، علماً بأن العفو سواء كان عفواً خاصاً يصدره رئيس الجمهورية (م 53-9 من الدستور) أم عفواً عاماً يصدره مجلس النواب، إنما يعبر في الحالتين عن صلاحية دستورية سيادية تمارسها أعلى السلطات في الدولة، ولا يجوز للحكومة أن تفرّط بها في أي حال من الأحوال6.

3- وهكذا مرة أخرى يُخرق الدستور اللبناني، ناهيك عن السيادة، استجابة للحرب الناعمة، التي تشن على لبنان.

4- كما أعطى النظام المحكمة صلاحية المحاكمات الغيابية، الأمر غير المعروف في المحاكم الدولية، والذي يسمح للمحكمة في حال تعذر حضور شخص ما أمامها لأسباب قاهرة، أمنية أو غيرها، أن تسطّر مذكرة جلب بحقه، وتطلب من الأنتربول أن يقبض عليه ويجلبه أمامها.

في الممارسة: من تقصي الحقائق إلى القرار الاتهامي
بدأت التحقيقات بواسطة لجنة تقصي الحقائق، التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة، بناء على طلب الحكومة اللبنانية في شباط 2005، وانتهت بتسجيل عدم كفاءة أجهزة التحقيق اللبنانية، وأوصت بتشكيل لجنة تحقيق دولية، علماً أن ما سيتوصل إليه التحقيق، بعد أربع سنوات، لم يتجاوز بكثير ما كانت توصلت إليه الأجهزة اللبنانية. كما أكدت لجنة تقصي الحقائق "التدخل السوري الكثيف في الشؤون التفصيلية اللبنانية".

شُكلت لجنة تحقيق دولية برئاسة القاضي الألماني ديتليف ميليس، في 13 أيار- مايو سنة 2005.
كان أهم ما قامت به لجنة ميليس أن أوصت بسجن الضباط الأربعة: اللواء الركن جميل السيد، مدير عام الأمن العام السابق، اللواء علي الحاج، المدير العام لقوى الأمن الداخلي، العميد ريمون عازار، مدير مخابرات الجيش اللبناني، العميد مصطفى حمدان، قائد الحرس الجمهوري، فزج بهم في السجن ما يزيد عن ثلاث سنوات ونصف، ولم يخرجوا إلا بعد إنشاء المحكمة الدولية في آذار 2009.

إن أهم ما تميزت به تحقيقات ميليس أنها انطلقت من تاريخ العلاقة اللبنانية السورية، منذ إنشاء لبنان الذي عارضته سوريا، ثم اعتمادها على بعض الشهادات حول تهديد الرئيس الأسد للرئيس الحريري، وأخيراً اعتماد شهادات عن اجتماعات التحضير لاغتيال الحريري بين ضباط سوريين وضباط لبنانيين. وقد أتت اتهامات ميليس منسجمة مع الجو الذي أشيع من قبل ما سُمِّيَ بقوى 14 آذار في لبنان، ومع ما كانت تضعه بعض الصحف الخليجية المعادية لسوريا من سيناريوهات.
واستغلّت الإدارة الأميركية تقارير ميليس، وكان تعليقها على أحد هذه التقارير أن ادعت: أن التقرير خطير ويوجب تحرّك مجلس الأمن لاتخاذ إجراءات ضد سوريا.

كما أراد سعد الحريري من المحكمة أن تبقى أداة ابتزاز ضد إيران وسوريا، فهو حسب ويكيليكس يريدها سيفاً مصلتاً على رقبة إيران وسوريا، لإضعاف وكلائهما في لبنان.

كل هذا على الرغم من أن نتيجة الاختبارات أتت لتدحض الشهادات حول اجتماعات الضباط المزعومة، وما روي حول السيارة التي حملت المتفجرات، وما إلى ذلك، تلك الشهادات التي ستعدّ فيما بعد "شهادات زور". وقد بقي النظام السوري في دائرة الاشتباه إلى أن تغير الموقف الأميركي تجاه سوريا.

تمسكت الجهات اللبنانية المؤيدة للسياسة الأميركية بتقارير ميليس، وراحت تهاجم سوريا وتحرّض ضدها، كما تهاجم الطرف اللبناني الآخر المتحالف مع سوريا.

انتهت مهمة ميليس، أو أنهيت، بعد أن كادت تتحول إلى فضيحة، وحل محله القاضي البلجيكي سيرج براميرتز في كانون الثاني سنة 2006.
تميزت تحقيقات براميرتز بالرصانة الظاهرية والاحتراف لجهة الحفاظ على سرية التحقيق، إلا أن حقيقة عمله لم تكن في المتناول، بسبب تكتّمه الشديد، إلى أن انتهت مهمته، وحل محله القاضي الكندي دانيال بلمار في أول كانون الثاني- يناير 2008، الذي كلّف برئاسة مكتب الادعاء العام لدى المحكمة عند تشكيلها في آذار 2009.

راح دانيال بلمار يتابع مهماته التحقيقية. إلا أن التحقيقات راحت تتسرّب إلى الصحف وسائر وسائل الإعلام، وكشف أن عمليات بيع التحقيقات كانت تجري منذ أيام ميليس، حيث كان يعرض نائبه غيرهارد ليمان كامل التحقيق مقابل مبلغ مليون دولار.

راحت بعض الصحف العربية والخليجية تنشر أجزاءً من محتويات التحقيق، ثم تلتها صحف أجنبية: ديرشبيغل الألمانية والفيغارو الفرنسية، كما أدلت قنوات تلفزيونية بدلوها مثل CBS الكندية.

وإذ بالتحقيق ينحرف باتجاه المقاومة، ليتهم بعض أفرادها، واستبعد النظام السوري الذي تحسنت علاقاته مع الغرب عموماً، وأصبحت أقل سوءاً مع أميركا، التي تحتاج إلى جهوده للتخفيف عنها في العراق. ويظهر التواطؤ بين المحكمة وسعد الحريري بتصريحه في مصر أنه:"ليس ملائماً استثناء حزب الله من التحقيق الدولي"8.

وهكذا يتبين أن التحقيق هو أداة بيد أميركا توجهها بالاتجاه الذي تريده.وقد أصبح وسيلة في الحرب الصلبة التي تشنها على أخصامها، كما أنه من وسائل الحرب الناعمة تجاه الطرف اللبناني والعربي الآخر المسمى بـ "دول الاعتدال العربي" أو ما تبقى منه.

لقد كان تسييس المحكمة من الاحتمالات المرجحة منذ إنشائها، إذ كان من اللافت، كما يقول الدكتور الحمّوري، حالة الاستعجال في مجلس الأمن للانتهاء من إعداد مشروع المحكمة... فأقرها في يوم 21-11-2006.. وفي الوقت نفسه تمّ إرسال المشروع إلى الحكومة اللبنانية للموافقة عليه9.

وكان الأستاذ داوود خير الله تخوّف من تسييس المحكمة، منذ أن كان مشروع إنشائها قيد التداول، إذ كتب في أول تشرين الثاني 2006 يقول:"لكن المقلق هو أن تصبح المحكمة الدولية الخاصة وسيلة لتحقيق أهداف سياسية خارجية وداخلية، من دون أن تبلغ العدالة هدفها، فتصبح في أيدي محركيها كـ "المسار السلمي" (للقضية الفلسطينية). إذ إن المسار أصبح هو الهدف وهو الوسيلة للابتعاد عن السلم... وقد تخرج القضية كلياً عن سيطرة السلطات اللبنانية ويتحكّم بها المسيطرون على "الشرعية الدولية"10.

على أن المحكمة وكل ما تعلق بها لم تستخدم أدوات في الحرب الصلبة من قبل الخارج فقط، بل استخدمها بعض الداخل وسيلة من وسائل تلك الحرب، وقد رأينا دفاعه عن كل ما صدر عنها واستخدامه ضد أخصامه المحليين والإقليميين. وهو لم يكتفِ بهذا، بل تمسك حتى بما لم تستطع المحكمة التمسك به، من مثل قضية "شهود الزور"، الذين أعلن القاضي براميرتز أن شهاداتهم لا يمكن الوثوق بها، لا سيما بعد تراجع بعضهم عنها.

غير أن "قوى 14 آذار" ما زالت تصرّ على عدم محاكمتهم على ما جروه على الضباط، وما تسببوا به من تضليل التحقيق وإهدار وقت المحققين، وكذلك، وهذا هو الأخطر، من أجل أن يكشفوا عمن دفعهم إلى الشهادة، ليصار إلى الادعاء عليهم بجرم التستر على المجرمين الحقيقيين، ودفع التحقيق باتجاهات مضللة.

إن الحرب ما زالت قائمة بفرعيها الصلب والناعم، والمحكمة الدولية. ما تزال تحاول أن تؤدّي الدور الذي رسم لها حتى الآن.

4 - الأساليب التقليدية الاخرى للحرب الناعمة
تتمثل هذه الأساليب، فيما يخص لبنان، بمساعدات "وكالة التنمية الأميركية"، وبالمساعدات العسكرية وبالتدريب لضباط وأفراد من قوى الأمن الداخلي والجيش، وصولاً إلى المدفوعات إلى وسائل الإعلام.

فوكالة التنمية الدولية الأميركية تموّل مشاريع مختلفة تشمل أبحاث مثقفين وأساتذة جامعيين ومراكز دراسات، وتشمل مشاريع تنموية في مختلف المناطق، وخاصّة في المناطق الجنوبية، حيث تتمكن من ذلك، فقد ورد في الصحف أن السفيرة الأميركية "سيسون" ونائب مدير وكالة التنمية كانا يجولان في الجنوب على مشاريع زراعية موّلتها الوكالة المذكورة11.

أما المساعدات العسكرية، فتشمل عتاداً وأسلحة خفيفة ووسائل نقل وغيرها، مما لا يستخدم إلا في القمع الداخلي، وما يتوافق مع مطالب حلفاء أميركا، الذين لا تهمهم مشاريع العدو الصهيوني واعتداءاته واحتلالاته.

وتقوم الولايات المتحدة بإجراء دورات تدريبية لضباط قوى الأمن الداخلي وأفرادها، وقد كثفت دورات التدريب بشكل ملحوظ. ففي مدى سنة مثلاً، ما بين نيسان 2008 ونيسان 2009، تحدثت الصحف عن ثماني دورات تدريب لقوى الأمن الداخلي12. كما تدرب الولايات المتحدة الجيش، وإن بوتيرة أقل، حسبما يرد في الصحف13.

أما وسائل الإعلام فنالت نصيباً لا بأس به من المساعدات الأميركية، فقد أدلى السفير الأميركي السابق فيلتمان بشهادة أمام مجلس الشيوخ الأميركي، اعترف فيها بتقديم خمسمائة مليون دولار أميركي لوسائل الإعلام، لتشويه سمعة حزب الله.

النتيجة
هذه الأساليب الحربية منها ما باء بالفشل ومنها ما آتى أكله.
فأما التي آتى أكلها فهي الحرب الناعمة، فمنذ أواسط القرن التاسع عشر، استطاعت القوى الغربية أن تستميل جماعات من سكان جبل لبنان، نتيجة لدعمها لها في حروب داخلية نشبت بينها وبين جماعات أخرى، كما ودعمها لها في مواجهة السلطات العثمانية، ثم استطاعت، بعد الحرب العالمية الأولى، أن تكسب زعامات طائفية وشرائح من طوائف مختلفة، لمشاريعها، حتى وإن ظهرت خلافات مؤقتة أو جانبية، وما زال الأمر سارياً حتى اليوم.

وهكذا قامت في لبنان شخصيات قادت جماعات وشرائح لبنانية، وهي تنفّذ سياسة الغرب الطامع بخيرات منطقتنا وبأسواقها وموقعها الاستراتيجي. وآتت أكلها أيضاً الحرب المختلطة الصلبة والناعمة، في مواجهة جهات كانت ترفض تدخل الغرب، ولكنها رضخت أمام قوته وإغرائه، أي سياسة "العصا والجزرة". وهكذا، فبعد أن قاوم الزعماء العرب، وخاصة في المشرق، الاحتلال الغربي محاولين عدم الاعتراف بما قام به في المنطقة من تحكم وتفتيت وأساليب إدامة للهيمنة، رضخ الكثيرون من هؤلاء الزعماء لمغريات الحكم واعترفوا بما رتّبه الاحتلال من نتائج، واستراحوا إليها، ورتبوا مصالحهم على أساسها.

*الحرب الناعمة مقومات الهيمنة وإشكاليات الممانعة ، سلسلة الندوات الفكرية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- البطريرك اسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، دار لحد خاطر، ص 609
2- د. عبد العزيز نوار، وثائق أساسية من تاريخ لبنان الحديث، جامعة بيروت العربية 1974، ص 84
3- مجلة المقتطف، مجلد 26، ص 260 وما بعدها
4- Archives diplomatiques (françaises)، Série E-Levant، doc، 313. P.112.
5- راجع صحيفة المدار بتاريخ 23 و24- 12-2006.
6- المرجع نفسه.
7- الوثيقة رقم 06BEIRUT2602 بتاريخ 24 آب 2006 -الأخبار 16-3-2001
8- ويكيليكس، وثيقة رقم 06beirut2604 بتاريخ 12-8-2006 الأخبار 15-3-2011
9- صحيفة المدار المذكورة سابقاً.
10- راجع جريدة الأخبار بتاريخ 1و2 تشرين الثاني- نوفمبر 2006.
11- راجع جريدة النهار 10 أيلول 2008.
12- راجع: النهار 16-4-2008 و 22-7-2008 و12-8-2008 و3-4-2009 والسفير 19-8-2008 الأخبار 11-3-2008 والأنوار 9-9-2008 والبيرق 11-12-2008.
13- راجع: المستقبل والسفير 20-9-2008، السفير 12-7-2008، المستقبل 15-4-2009، والشرق الأوسط 15-4-2009.

2016-01-04