من اعتبر ترك الشبهات
زاد عاشوراء
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النّار"
عدد الزوار: 168
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الدّاء كيف لا
يحتمي من الذنوب مخافة النّار"1.
الذنوب سبب الاندثار:
قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ
فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾2.
ممّا هو من دأب العقلاء أن يكون التاريخ وحوادثه وقصص الأفراد والجماعات عبرة لهم،
يقرؤونها، أو يستمعونها، فيستفيدون منها دروساً ومواعظ تعينهم في حياتهم الفرديّة
والاجتماعيّة والسياسيّة وغير ذلك، فآثار الأمم السابقة خير معين لاستفادة الخبرات
وأخذ العبر، وقد أمرنا الله تعالى بأخذ العبر من حوادث الزمان فقال عزَّ من قائل:
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ﴾3.
ولقد اعتمد القرآن الكريم أسلوب إيراد القصص لعلّة التذكّر والتدبّر: فقال عن ذلك:
﴿فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾4.
ولاستخلاص الدروس والعبر المشروطة بالكون من أصحاب القلوب اليقظة الفهمة فقال:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾5.
وفي عين ما هو مدح لمن صفتهم أخذ العبر من قصص الصالحين، فكذلك في ذلك ما لا يخفى
من الحثّ على ذلك.
وحقيقة ذلك أنّه لله في الأمم والاجتماع الإنسانيّ وفي التاريخ البشريّ سنن
وقوانين، والتفكّر والتدبّر، والاعتبار يعين الإنسان على اكتشاف هذه السنن، ويساعد
المؤمنين المأمورين بالاعتبار على التطوّر والتقدّم والبقاء لأنّهم سيكتشفون سننها
وكذلك تعين الأمّة والأفراد على اجتناب كلّ ما يورد في سنن التراجع، والتدهور
والاندحار. ومع مطالعة القصص القرآنيّة سنجدها تصرح بالتالي: إنّ سبب موت الأمم
واندثارها، وسبب تراجع الأفراد وتدهورهم وهلاكهم هو الغرق في الذنوب والآثام.
أمير المؤمنين يأمرنا بالاعتبار:
فيما نقل عن الإمام عليّ عليه السلام ما به الإشارة بل التصريح بالاستفادة العمليّة
وليس فقط العلميّة من قصص الماضين حيث قال عليه السلام: "فاعتبروا بما أصاب الأمم
المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته..."، ثمّ أضاف بما يعني أنّ من لا يعتبر
إنّما يكون ذلك بسبب الكبر... "واستعيذوا بالله من لواقح الكبر كما تستعيذونه من
طوارق الدهر"... ليصل إلى الدرس العمليّ قائلاً: "... فتذكّروا في الخير والشرّ
أموالهم واحذروا أن تكونوا أمثالهم..." ثمّ أمر عليه السلام قائلاً: "... فالزموا
كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم وزاحت الأعداء له عنهم ومدّت العافية به عليهم..." وأضاف
"... واجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم..."6.
هذا على الصعيد العامّ حيث: أمر بالوحدة واجتناب الفرقة وترك الضغينة والخصومات
والمقاطعة والمعاداة وترك التعاون.
ترك الشبهات نتيجة الاعتبار
وممّا جاء في أمر الإمام عليّ بالاعتبار مما يمكن الاستفادة منه على الصعيد الشخصيّ
والفرديّ قوله عليه السلام: "إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات، حجزه
التقوى عن التقحّم في الشبهات"7.
والمعنى البسيط هو أنّ من كشفت له المواعظ عن العقوبات التي نزلت بالنّاس كانت
التقوى رادعاً له عن ارتكاب الأمور التي لا يعرف أهي حقّ أم باطل صواب أم خطأ، حلال
أم حرام بسبب التباسها عليه.
وإنّما صرّحت هذه الحكمة بعلّة ترك الشبهات ذلك أن ما نزل بالأفراد والجماعات
الغابرة من عذاب وعقوبة مقطوع السبب وهو أنّه ناجم عن مخالفة أوامر الله وعدم طاعة
أولياء الله، فمن يستفيد هذه العبر، فاعتباره هذه يشكّل له رادعاً ليس فقط عن
ارتكاب واقتراف ما ارتكبوه، وإنّما يكون رادعاً ومانعاً عن الدخول فيما يشتبه أنّه
من المحرّمات، فمن اتّعظ بأحوال الماضين أمكنه الابتعاد عن المحرّمات.
ما الذي يمنع ارتكاب الشبهات:
لقد صرّحت الرواية عن أنّ ما يشكّل مناعة من أمراض الذنوب، ومن العيوب وإتيان
المشتبهات هو التقوى، ولذا قال الإمام عليّ عليه السلام: "حجزه التقوى عن التقحّم
في الشبهات".
فالتقوى حقيقة تشكّل مقوّياً، يعضد جهاز المناعة من مخالفة الله تعالى والتعرّض لما
يبغضه، لأنّها تقوّي في الإنسان إرادته، وتشيد بنيان عزمه وتساعده على تحمّل مشاقّ
الصبر.
لكن ليست أي تقوى هي التي تحجز عن الشبهات فالتقوى أنواع منها:
1- تقوى العامّة وهي الاحتماء عن الذنوب.
2- تقوى الخاصّة هي من اجتناب الشبهات.
ولها أنواع ودرجات أرقى لا مجال لذكرها، فإذا قويت التقوى كانت مانعاً من ارتكاب
الشبهات، وحينها وفيما جاء عن ذلك عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: "إنّ لكلّ ملك حمى، وإنّ حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات
بين ذلك كما لو أنّ راعياً رعى إلى جانب الحمى لم يثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا
المشتبهات"8.
فالعلّة إذن هي أن يكون الإنسان في سيره في هذه الحياة بعيداً عن احتمال الوقوع في
ارتكاب ما يخالف أوامر الله والشرع الحنيف.
من القصص في اجتناب الشبهات:
ما دمنا بدأنا حديثنا بضرورة الاستفادة من القصص وأخذ العبر منها، ونحن بصدد الحثّ
على ترك الشبهات نورد هذه القصّة: دعا أبو عبد الله عليه السلام مولى له يقال له:
مصادف، فأعطاه ألف دينار وقال له: "تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإنّ عيالي قد كثروا"،
قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة
خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة وكان متاع العامّة
(أي ما يحتاجه عامّة النّاس) فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا
على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً فلمّا قبضوا أموالهم وانصرفوا إلى
المدينة، فدخل مصادف على أبي عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم: ومعه كيسان في كلّ
واحد ألف دينار، فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح، فقال عليه السلام:
"إنّ هذا الربح كثير ولكن ما صنعتم في المتاع؟" فحدّثه كيف صنعوا وكيف تحالفوا،
فقال: "سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين ألّا تبيعوهم إلّا ربح الدينار ديناراً"، ثمّ أخذ الكيسين فقال: "هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الربح"، ثمّ قال:
"يا
مصادف، مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال"9.
خاتمة: عليل بالحمية من الذنوب:
إنّ الإنسان المصدّق بالله تعالى وبوعده وبوعيده، يفترض أن يكون عاملاً بجدّ
واجتهاد لما وعد من الثواب والأجر والمقام والمنزلة عنده تعالى، وحذراً أشدّ الحذر
ممّا توعّد عليه العقوبة والعذاب، ولكن الأحذق واللبيب يفترض أن يكون ليس فقط حذراً
وإنّما أن يكون يقظاً منتبهاً لأفعاله وأقواله بل من أحاسيسه ومشاعره وظنونه
ووسوسات صدره.
وليعلم أنّ بعض المباحات قد تكون مزلقاً، تنزلق معه النّفس إلى المحرّمات فلو اعتاد
إنسان ما مثلاً على ذكر عيوب النّاس فيما يجوز، فإنّه لا يؤمن عليه أن يذكر ذلك حيث
لا يجوز فيكون قد اغتاب.
ولقد تعجّب المعصومون فجاء عن أحدهم: "عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لا
يحتمي من الذنوب مخافة النّار"10 والاحتماء من الذنوب يكون بالوقوف عند الشبهات.
* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- بحار الأنوار، المجلسي، ج70، ص347.
2- سورة آل عمران، الآية 137.
3- سورة الحشر، الآية 2.
4- سورة الأعراف، الآية 176.
5- سورة يوسف، الآية 111.
6- نهج البلاغة، الخطبة 192.
7- نهج البلاغة، الخطبة 16.
8- بحار الأنوار، ج2، ص259.
9- الكافي، ج5، ص162.
10- بحار الأنوار، المجلسي، ج70، ص347.