يتم التحميل...

التذكير بأيّام الله

زاد عاشوراء

لقد تكرّر في القرآن الكريم التصريح بأنّ هدف بعثة الأنبياء إخراج من أرسلوا إليهم من الظلمات إلى النور، وهذا الإخراج الذي يراد منه انعتاق النّفوس البشريّة من التيه في أودية الضلال إلى التوحيد والاستضاءة بنور الهداية الإلهيّة.

عدد الزوار: 127

قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ1.

الحريّة قضيّة رساليّة

لقد تكرّر في القرآن الكريم التصريح بأنّ هدف بعثة الأنبياء إخراج من أرسلوا إليهم من الظلمات إلى النور، وهذا الإخراج الذي يراد منه انعتاق النّفوس البشريّة من التيه في أودية الضلال إلى التوحيد والاستضاءة بنور الهداية الإلهيّة. ومحوره أنّ الهداية والضلال في أيدي النّاس؛ ومن جملة مهامّ الأنبياء إخراج الناس من ظلمات العبوديّة، والظلم وتحريرهم من سطوات الطواغيت، فحريّة النّاس من أهمّ بل وأولى مهامّ القادة الربّانيّين، فالظلام منه الكفر والشرك وكذلك منه الذلّ والقهر والفساد والاستعباد والظلم، والنور كما أنّه الحقّ والتوحيد والإيمان والتقوى كذلك هو الحرّيّة والاستقلال والعزّة والشرف وعن ذلك قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ2 وفي معرض تفسيره لهذه الآية يقول العلّامة الطباطبائيّ في الميزان: "في الآية أعلاه دليل على أهمّيّة الحرّيّة والاستقلال في مصير الأمم"3.

ثمّ يعود مكمّلاً ما بدأه قائلاً: "ولهذا السبب كان العمل الأوّل للقادة الإلهيّين هو تحرير الشعوب من التبعيّة الفكريّة والثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة..."4 وبهذا يتحصّل أن تحرّر الشعوب واستقلالها وبناء عزّتها قضيّة رساليّة يتولّاها القادة الإلهيّون كما يتولّون مسألة الهداية الدينيّة بالمعنى الأخصّ.

أيّام التحرّر أيّام الله

ويكمل المولى تعالى في نفس الآية أي الخامسة من سورة إبراهيم بيان وظيفة من وظائف الأنبياء إضافة إلى العمل على تحرير شعوبهم واستقلاله، فيشير إلى أنّها أيّام الله فينسبها إلى نفسه ثمّ يأمر نبيّه موسى بأن يذكّر أمّته بهذه الأيّام بقوله تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ5.

صحيح أنّ كلّ الأيّام، وكلّ الأمكنة، وكلّ الخلق، هي أيّام لله وأمكنة لله، وعباد لله، ولكن ثمّة خصوصيّة للمكان ليصبح بيت الله، وللمخلوق ليصبح وليّ الله، وكذلك كتاب الله، وكذلك شهر الله ويوم الله؛ فكلّها لله، لكن لميزة خاصّة بها استحقّت هذا الانتساب، ولنعد إلى الأيّام التي نسبها الله لنفسه لنجد في الآية التي تليها ما يلي:

﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ6.

فالآية تشير إلى كيفيّة امتثال النبيّ موسى للأمر الإلهيّ بالتذكير بأيّام الله؛ فذكر مسألة يوم مصيريّ في حياة بني إسرائيل، وهو يوم نجاة بني إسرائيل من سطوة وجور فرعون وهلاكه وجنده بالغرق.

فيوم هلاك الطاغية وجنده ويوم تحرّر أمّة موسى عليه السلام هو يوم الله، ولا بدّ من التذكير به وقد أورده تعالى في الآية السابقة حيث ذكر موسى بهذا اليوم بالخصوص مع ما في حياة بني إسرائيل من الأيّام المليئة بالآيات الإلهيّة، والأمر بالتذكير بها دليل على ما لقضيّة التحرّر والاستقلال من أهمّيّة محوريّة في حياة الأمم ومهامّ القادة الرساليّين.

لماذا التذكير بأيّام الله؟

إنّ تذكّر الأيّام العظيمة والحسّاسة، والمصيريّة، والتي تجلّت فيها العناية والألطاف الإلهيّة مدعاة للاستفادة من دروسها وأخذ العبر منها ومعرفة السنن الإلهيّة الجارية فيها سياسيّة أو اجتماعيّة أو تاريخيّة أو غير ذلك، إضافة إلى أنّ لها دوراً مؤثّراً في كلّ ما له علاقة ببناء النّفوس والجماعات وترسيخ القيم وكذلك في بناء الوعي العامّ، ولها كذلك مؤثّريّة في يقظة الشعوب، وبناء عزّتها وثقتها بالقدرة على الفعل، وصنع النّفوس المتأهّبة لصيانة الشعوب والأمم وحرّيّاتها وكياناتها والذود عن حماها، وتأصيل بعض الصفات في النّفوس كالصبر والتحمّل والشجاعة والإباء، والجدّ والاجتهاد والتعاون وغير ذلك؛ وفي التذكير بأيّام الله تنويه بأبطال الحدث وتقديمهم قدوات.

ولكن يبقى أن نشير إلى أنّه تعالى عقّب على الآية التي ذكرت كيف أدّى موسى عليه السلام التكليف بالتذكير بأيّام الله؛ بخطاب وجّهه إلى بني إسرائيل قائلاً: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ7 وفيه إشارة إلى أنّ التذكير من فوائده عرفان النعمة وحقّها وحقّ المنعم وأداء الحقوق في كلّ ذلك وفي ضوئه.

عاقبة عدم الشكر

في الآية السابقة جعل تعالى، بإشارة ليست بخفيّة، حسن التعامل مع أيّام الله والتذكير بها الزيادة فإن كانت النعمة هي التحرّر والاستقلال فإنّ الزيادة هي زيادة في نعمة الحرّيّة والاستقلال بزيادة الأسباب المثبتة له، والزيادة في مراتب التحرّر والاستقلال بما يعني زيادة الاقتدار والقوّة، والعزّة والمنعة، والدولة والسلطان؛ وليكون هذا الشكر شكراً عمليّاً - وهو المطلوب هنا- يفترض أن يكون كلّ ذلك بإقامة العدل ونصرة الحقّ ونشر الهدى والصلاح كما جاء في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ8.

ولكن قوم موسى عليه السلام كما نجحوا أحياناً فكان نصر طالوت على جالوت، وكانت دولة سليمان وداود عليهما السلام كذلك أخفقوا مرّات، ولأنّ الله عالم بما سيكون منهم قال لهم متوعّداً على عدم الشكر العمليّ على القوّة والسلطات والاستقلال بقوله تعالى على سبيل الإخبار: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ9.

عاشوراء يوم الله؟

بناء على القول إنّ أيّام الله هي الأيّام العظيمة والمصيريّة في حياة الأمم والحسّاسة والتي انتصرت فيها الحرية، والعزة، والقيم، فإنّا نستطيع القول إنّ عاشوراء ذلك اليوم الذي تجلّت فيه البطولة والفداء، والإيثار، والتوحيد وإباء الضيم والعزّة، وأشرقت من صعيدها شمس آل بيت الطهر نوراً عصيّاً على أن تطفئه ظلمات، سيوف، وجيوش، ونفوس، وأفواه على مدى الزمن.

ولئن كان للبعض أن يقول: إنّ يوم الله في الظاهر هو اليوم الظاهر فيه اللون الإيجابيّ، وفي كربلاء فإنّ ظلام المأساة، قد يجعلنا نتردّد في كون يوم عاشوراء يوماً لله.

إلّا أنّنا نقول: يكفي ما جاء على لسان السيّدة زينب عليها السلام ردّاً على ابن زياد عندما حاول التشفّي بمصاب أهل البيت عليهم السلام إذ قالت: "ما رأيت إلّا جميلاً"10.

فضلاً عن قول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم: "أيّام الله نعماؤه وبلاؤه ببلائه سبحانه"11.

يوم وليّ الله يوم الله

لقد شكّل يوم العاشر من المحرّم سنة إحدى وستّين للهجرة يوماً فارقاً في حياة الأمّة الإسلاميّة بل في حياة الإنسانيّة، وقد استخدم أهل البيت عليهم السلام في الإشارة إلى ذلك اليوم مرّات كثيرة بدل عبارة يوم عاشوراء، تسمية يوم الحسين عليه السلام. فيوم عاشوراء هو يوم تجلّي الحسين عليه السلام وظهور شيء من كمالاته الإنسانيّة والروحانيّة التي تبقى مدهشة للعقول على طول الدّهر.

ولقد أثبت إحياء ذلك اليوم كلّ عام الذي هو نحو من التذكير به أثره في بناء النّفوس وإعلاء القيم وبثّ المفاهيم.

ولذا فإنّ إحياء عاشوراء هو تذكير بيوم الحسين عليه السلام ويوم وليّ الله يوم لله تعالى، فالتذكير به تذكير بأيّام الله.

كما علينا أن لا ننسى أيّام الله في هذا البلد لا سيّما يوم التحرير ويوم النّصر الإلهيّ وغير ذلك.

* كتاب زاد عاشوراء، إعداد معهد سيد الشهداء للمنبر الحسيني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة إبراهيم، الآية 5.
2- سورة إبراهيم، الآية 5.
3- تفسير الميزان، الطباطبائيّ، ج7، ص463.
4- نفس المصدر.
5- سورة إبراهيم، الآية 5.
6- سورة إبراهيم، الآية 6.
7- سورة إبراهيم، الآية 7.
8- سورة الحجّ، الآية 41.
9- سورة الأعراف، الآية 167.
10- اللهوف في قتلى الطفوف، ص29.
11- تفسير نور الثقلين، ج2 ص526.

2015-10-13