حقيقة الشهادة، فضلها وثوابها
التربية الجهادية
إنَّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، وقد تكون هذه التضحيات على مستوى التضحية بالمال والجهد والوقت، وقد تصل في نهاية الأمر إلى بذل النَّفس والتضحية بالروح، وهو الذي يسمّى في ثقافتنا الإسلامية بالشهادة.
عدد الزوار: 1758
معاني الشهادة:
إنَّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحيات كبرى مكافئة لها، وقد تكون هذه
التضحيات على مستوى التضحية بالمال والجهد والوقت، وقد تصل في نهاية الأمر إلى بذل
النَّفس والتضحية بالروح، وهو الذي يسمّى في ثقافتنا الإسلامية بالشهادة. من
الناحية الفقهية يقول إمامنا الخميني قدس سره: "الشهيد هو المقتول في الجهاد مع
الإمام عليه السلام أو نائبه الخاصّ بشرط خروج روحه في المعركة حين اشتعال الحرب أو
في غيرها قبل أن يدركه المسلمون حيّاً، ويلحق به المقتول في حفظ بيضة الإسلام"1.
يقول الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله في معنى الشهيد وحقيقته: "الشهيد هو
الإنسان الذي يقتل في سبيل الأهداف المعنويّة ويضحّي بروحه - التي هي الجوهر الأصلي
لكل إنسان- لأجل الهدف والمقصد الإلهي. والله المتعالي يرّد على هذا الإيثار
والتضحية العظيمة بأن يجعل ذكر ذلك الشخص وفكره حاضراً دائماً في أمّته ويبقى هدفه
السامي حيّاً. هذه هي خاصيّة القتل في سبيل الله. فالأشخاص الذين يقتلون في سبيله
يحيون، أجسادهم تموت ولكن وجودهم الحقيقي يبقى حيّاً"2.
وقد ورد للشهادة والشهيد معان عديدة أيضاً، منها3:
الشهادة هي الحضور ويقابلها الغيب والضياع:
وهي عبارة عن حضور الإنسان في المحضر الإلهي باختياره وإرادته حيث يصل المجاهد في
عشقه لله إلى درجة من الشوق والوله للقاء المحبوب لا يرى معها الدنيا إلا سجنا
وقيداً ومانعا من الوصول إلى السعادة المطلقة. فيرفع حجاب الجسم المادي عن وجه
الروح المعنوي وحياتها الأبدية
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذينَ قُتِلُوا في سَبيلِ
اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾4.
الشهيد هو من عرف أسرار الحياة:
فشهد الدنيا بعين الحقيقة دار الغرور والقرية الظالم أهلها، ولم يغفل عن الآخرة
التي هي دار الحيوان5 أي الحياة الحقيقية
﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ
الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾6، فصار الموت عنده أمنية لأنه باب الوصول إلى
تلك الحياة، وباتت دنياه جهاداً للقاء المحبوب.
الشهيد هو الشاهد على أمّته ومجتمعه وزمانه:
﴿فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ
شَهيداً﴾7، فهو الذي اكتشف الحقيقة قبل غيره من الناس، فدعا إليها بكل وجوده، وبذل
نفسه في سبيل إيصال الآخرين إلى تذوّق حلاوتها.
الشهيد هو الذي سلك الطريق الأسرع والأقصر للقاء الله ونيل رضوانه:
﴿قالَ الَّذينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَليلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرينَ﴾8، فهل
هناك أسرع من القتل في سبيل الله للانتقال إلى عالم الحقيقة والآخرة وشهود الله
تعالى؟! هذا الشهود الذي هو غاية منى العاشقين وآمالهم، وأقصى مراد الطالبين، وهو
ثمرة حتميّة للشهادة.
فضل الشهادة في الإسلام:
إن قطرة من دماء الشهداء ليست كباقي القطرات، إنها تختصر كل شيء، إنها التوحيد
العملي والحقيقي الذي نطق به لسان العمل والفعل والتضحية، وإن تلك القطرات لأكبر
شاهد على الإخلاص لله تعالى، من هنا يقول الإمام الخميني قدس سره أنّه "لا يمكن
للألفاظ والتعابير وصف أولئك الذين هاجروا من دار الطبيعة المظلمة نحو الله تعالى
ورسوله الأعظم وتشرّفوا في ساحة قدسه تعالى"10. وقد زخر تراثنا الإسلامي بفيض
الآيات والروايات التي تتحدّث عن الجهاد والشهادة وفضلهما والتي تكاد تنضح لكثرتها
وتنوّعها وسعة معانيها وأبعادها.
من الآيات الكريمة قوله تعالى:
﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا
وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمينَ﴾11،
وفيها
إشارة واضحة إلى أن الله تعالى يصطفي من هذه الأمة ثلّة من المؤمنين يتّخذهم شهداء،
لما لديهم من الفضل والكرامة عند الله. وقوله تعالى أيضاً
﴿وَالشُّهَداءُ عِنْدَ
رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهمُ﴾12 الخاص بهم والذي خصّهم المولى عزّ
وجلّ به لأنهم ببساطة أبوا إلا أن يشتروا الدنيا بالآخرة فكان أجرهم عند الله عظيماً
وعظيماً جداً:
﴿فَلْيُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ الَّذينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ
الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ في سَبيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ
يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتيهِ أَجْراً عَظيماً﴾13.
ومن الروايات الشريفة: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أشرف الموت قتل
الشهادة"14، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كل ذي برٍّ برٌّ حتى يُقتل
الرجل في سبيل الله، فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"15، والبرّ هو الخير
وهو الطّاعة، وكمال الخير ومظهر الطّاعة الحقيقيّة لله تعالى هي مرتبة الشّهادة.
وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: "أفضل الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول،
فلا يلفتون وجوههم حتى يقتلوا، أولئك يتلبَّطون في الغرف العلى من الجنة، يضحك
إليهم ربك، فإذا ضحك ربك إلى عبد في موطن فلا حساب عليه"16.
وعن الإمام زين العابدين عليه السلام قال: "ما من قطرةٍ أحبُّ إلى الله عزّ وجلّ
من قطرتين: قطرة دم في سبيل الله، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلا
الله عز وجل"17. ولذلك كان الأئمة عليهم السلام يتمنّون دائماً الشهادة في سبيل
المولى تعالى لمعرفتهم بأهمّيتها وفضلها العميم، ففي الدعاء عن الإمام السجاد عليه
السلام: "حمداً نسعدُ به في السّعداء من أوليائه، ونصيرُ به في نظم الشهداء
بسيوف أعدائه"18. وها هم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يتحلّقون حوله
كالفراشات ورغم أنه أذن لهم بالانصراف إلا أنهم أبوا وكان لسان حالهم جميعاً ما
قاله سعد بن عبدالله الحنفي للإمام عليه السلام: "والله لا نخلّيك حتّى يعلم
الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم، والله لو أعلم
أنّي أقتل ثمّ أحيا ثمّ أحرق ثمّ أذرى ويفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتَى ألقى
حمامي دونك وكيف أفعل ذلك وإنما هي موتة أو قتلة واحدة ثمّ هي بعدها الكرامة التي
لا انقضاء لها أبدا"19. هذا هو العشق الحقيق لله ولوليّه في الأرض، هذا هو الحب
الخالص الذي لا حدود له ولا أمد.
الشهادة موت الأذكياء:
ينبغي أن نميّز بين نوعين من الموت قد يتمنّاها الإنسان، أوّلهما الشهادة والثاني
الانتحار. ففي حين يمثّل الأول أعلى درجات الإنسانية وأرقاها وأسماها، يمثّل الثاني
قمة التسافل والانحطاط. الشهيد يتمنّى الموت والأمل يخالجه على الدوام ويحيط به من
كل حدب وصوب لأنه يتمناه حباً بالآخرة وطلباً للقاء الله، أما المنتحر فيتمنى الموت
هروباً ويأساً من هذه الحياة، وحزناً عليها كونها تشكل أقصى مراده وغايته ومناه.
أما الشهيد فإنه يرى الدنيا حجاباً ومانعاً يحول بينه وبين مراده الفعليّ وغايته
الحقيقية وهي لقاء الله ومجاورة أوليائه وأنبيائه. والمنتحر يرى الدنيا غايته التي
يأسف لعدم الوصول إليها فيترجم هذا الأسف من خلال قتله لنفسه ظناً منه أنه بذلك سوف
يرتاح من آلامه وعذاباته. فالفناء بالنسبة له يصبح أفضل من إعراض الدنيا عنه وعدم
حصوله على مبتغاه منها، إنه يطلب الموت أسفاً على الشهوات والملذّات الدنيوية التي
لم تصل يده إليها. أمّا الشهيد فإنه يطلب الموت إقامة للدين ونصرة للحق. الشهيد
إنسان واع، صاحب مبادئ وقيم إنسانية سامية، هدفه خدمة الناس ورفع الظلم عن البشرية
ونصرة المستضعفين، قد ربح الدنيا والآخرة، أما المنتحر فأنانيٌّ ومجرم بحقّ نفسه قد
خسر الدنيا والآخرة.
إذاً، قد يتشابه العملان (الشهادة والإنتحار) في الدنيا من حيث الظاهر، ولكن في
الحقيقة والواقع هناك فرق جوهري بينهما، فمرّة يقتل الإنسان في سبيل الله وشوقاً
إليه، وأخرى يقتل في سبيل نفسه وحسرة عليها وانتقاماً لهواها!!! يقول السيد القائد
الخامنئي دام ظله: "الموت للجميع ونحن إذا توفّينا في سبيل الله لم نفقد شيئا بحسب
الموازين المادية الظاهرية، والموت هو المصير الذي لا مفرّ منه لكل واحد منّا، وهذا
المتاع (أي الروح) سنفقده لكن فقدانه يكون على نحوين: الأول أن نضيّعه والثاني أن
نبيعه فأيهما أفضل؟! أولئك الذين لم يقتلوا في سبيل الله قد أضاعوا أرواحهم وفي
المقابل لم يحصلوا على شيء. بينما الذين قدّموا هذا المتاع في سبيل الله وبذلوا
أرواحم لأجل الله هم الأشخاص الذي باعوا واستعاضوا بذلك: فالشهيد يبيع روحه وفي
المقابل يحصل على الجنة والرضا الإلهي الذي هو أفضل الأجور، علينا أن ننظر إلى
الشهادة في سبيل الله من هذا المنظار. الشهادة هي موت الأذكياء الفطنين الذين لا
يفقدون هذه الروح بدون ثمن، فهي رأسمالهم الأصلي"20. من هنا نفهم معنى ما ورد عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: "أشرف الموت قتل الشهادة"21.
روحيّة الشهادة:
يقول سماحة الإمام القائد الخامنئي دام ظله: "للشهداء حركتان وموقفان في منتهى
الروعة والعظمة، وكلّ واحد منهما يحمل نداءً عميقاً: أحدهما موقف من الإرادة
الإلهية المقدّسة وإزاء دين الله وعباده الصالحين، والموقف الآخر أمام أعداء الله.
ولو أنكم وضعتم موقف الشهيد ومعنويّاته ودوافعه موضع التمحيص والدراسة لاتّضح لكم
هذان الموقفان"22.
الموقف الأول: والذي يرتبط بالله وعباده ونصرة دينه فإنه يتجلّى ويظهر عند الشهيد
بواسطة أمرين أساسيين هما التضحية والإيثار. إن المبدأ الأول الذي يحكم حياة الشهيد
ومسيرته الجهادية هو إنكاره لذاته وعدم إدخالها في حساباته على الإطلاق، لأن همّه
أبداً ودائماً هو الله وعباده لا نفسه، وهذا هو الإيثار بعينه. فالمجاهد الذي ترك
الأهل والأولاد وانطلق إلى ميادين القتال لا لشيء إلّا لإعلاء كلمة الدين وقتال
أعداء الله والإنسانية الذين استباحوا الأرض والحرم والمقدّسات أوقعوا أشدّ الظلم
بالمسلمين، هذا المجاهد قد ضحّى بنفسه وراحته ودنياه وقرّر أن يسخّر وجوده النافع
في سبيل الله وابتغاء لنيل محبته مرضاته على القاعدة التي سنّها رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم حين قال: "الخلق كلّهم عيال الله، فأحبّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم
لعياله"23. ألم يضحّ أصحاب الحسين عليه السلام بكل ما يملكون في سبيل نصرة ابن بنت
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحفاظ على دين الإسلام؟ ألم يضحّ الشعب
الإيراني المسلم في إيران بالآلاف من أبنائه من أجل نصرة دين الله وحماية الجمهورية
الإسلامية الفتيّة؟ ألم يضحّ أبناء جبل عامل بأغلى ما لديهم من أجل طرد الغزاة
الصهاينة أعداء الدين والإنسانية عن ديارهم وحرمهم؟ إن موقف الشهيد ولسان حاله إلى
كل الأحرار أن: يا أيها الناس من أراد أن يعمل لله وينال رضوانه فلينكر ذاته، لينسى
أهواءه ويضع نصب عينيه الأهداف الإلهية فقط.
الموقف الثاني: للشهيد هو صموده وثباته أمام أعداء الله بحيث يصير مصداقاً حقيقياً
لما أوصى به أمير المؤمنين عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية حين أعطاه الراية يوم
الجمل قائلاً: "تزول الجبال ولا تَزُل، عَضَّ على ناجِذِكَ، أَعِر الله جمجمتك، تِدْ
في الأرض قدمك، ارْمِ ببصرك أقصى القوم، وغُضّ بصرك واعلم أنّ النّصر من عند الله
سبحانه"24.
بهذه الصفات يوصي أمير المؤمنين عليه السلام أن يكون المجاهد أمام أعداء الله،
والشهيد يوصل لنا هذا النداء من خلال عمله وسعيه. فهو الصامد، الثابت القدم في
ميادين القتال، وهو على الدوام في طليعة المجاهدين وأوائل المضحّين، المطمئنين على
الدوام في أصعب المواقف، الذين لا يتّخذون المواقف الانفعالية، وتراهم مستعدين
دائماً لمواجهة العدو بكلّ ما أوتوا من قوّة دون أي استخفاف أو استهانة بقوّة العدوّ
في الوقت عينه. ويوصي سماحة السيد القائد الخامنئي المجاهدين قائلاً: "الشهادة هي
دليل الصلابة، والشهداء غالباً من يكونون العناصر الفولاذية في جبهة الحرب، عليكم
أن تظهروا هذه الروحية والإرادة ذاتها أنتم أيضاً".
هذا هو نداء الثاني للشهيد لأمّته بأن لا تخضع لإرادة عدو الدين والإنسانية، وأن لا
تهابه في محضر الله ووجوده المقدّس
﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ
بِما تَعْمَلُونَ بَصيرٌ﴾25 فتدرك بذلك نفحة من أسرار التوكّل عليه في جميع الأمور،
والاستمداد الدائم منه للمواجهة إلى أقصى الحدود
﴿بَلى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ
آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمينَ﴾26.
هذه الروحية عند الشهداء هي التي حقّقت وما زالت تحقّق الانتصارات، وتصون هذه
المسيرة الإيمانية والجهادية حتى بلوغ الأهداف والغايات الإلهية، وتحافظ على عزّة
وشرف ومناعة هذه الأمّة.
جزاء الشهيد وثوابه:
إنَّ الشهيد في ديننا الإسلامي ذو منزلة عظيمة عند الله، وهذا ما يتبيّن لنا من
خلال أنواع الجزاء الأخرويّ الذي سوف يلقاه ويحصل عليه الشهيد.
1- سبع خصال من الله: أول ما يناله الشهيد وهو في اللحظة الأخيرة من عالم الدنيا
واللحظة الأولى للمرحلة التي بعده، قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم
"للشَّهيد سبع خصال من الله:
من أول قطرةٍ من دمه مغفورٌ له كلّ ذنب.
والثانية يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين، وتمسحان الغبار عن وجهه، وتقولان:
مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما.
والثالثة يُكسى من كسوة الجنة.
والرابعة تبتدره خزنة الجنة بكل ريح طيّبة أيّهم يأخذه معه.
والخامسة أن يرى منزله.
والسادسة يقال لروحه: اسرح في الجنة حيث شئت.
والسابعة أن ينظر في وجه الله وإنها لراحة لكل نبي وشهيد"27.
2- ثلاث مواهب سنيّة: يقول الله سبحانه وتعالى في سياق بيانه لمقام الشهيد
﴿وَالَّذِينَ قُتِلُواْ فىِ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ
سَيهَدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالهَمْ وَيُدْخِلُهُمُ الجْنَّةَ عَرَّفَهَا لهَمْ
يَأَيهُّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكمُْ﴾28، تذكر الآية الشريفة ثلاث مواهب خصّ الله تعالى بها الشهداء وهي:
- أنه تعالى سيهديهم إلى منازل السعادة والكرامة، والكمالات الإنسانية، والمقامات
السامية، والفوز العظيم، ورضوانه.
- أنه سيصلح حالهم بالمغفرة والعفو فيصلحون لدخول الجنة، ويحييهم حياةً يصلحون بها
للحضور عند ربّهم بانكشاف الغطاء، ويهبهم هدوء الروح، واطمئنان الخاطر، والنشاط
المعنوي والروحي.
- أنه سيدخلهم الجنّة التي وعدهم بها وادّخرها لهم، والتي سبق وأن عرّفها لهم إمّا
في الدنيا عن طريق الوحي والنبوّة، وإما بالبشرى عند القبض.
3- الحياة الحقيقية: إن الله تعالى خصَّ الشهداء في سبيله بمرتبة الحياة بعد الموت
فيقول
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾29، لكن ليس المقصود من هذه الحياة هي
الحياة العادية، إذ أنّ الآخرين من الناس هم أحياء في عالم البرزخ. مؤمنين منعّمين
أو كفارا معذّبين. بل لهم حياة خاصّة لأن الشهداء يدخلون البرزخ أحياء ولا يغفلون
عن حوادث الدنيا بل هم يطّلعون على أحوال الذين يسعون سعياً حثيثاً لحفظ النهج
المحمدي الأصيل، ويستبشرون بهم كما قال تعالى:
﴿فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ
مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ
خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾30.
4- تكفير كل الذنوب سوى الدَّيْن: قال الله تعالى
﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبيلِ
اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا
يَجْمَعُونَ﴾31، وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
"الشهادة تكفر كل شيء إلا
الدَّيْن"32.
وعن الإمام الصادق عليه السلام "من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من
سيئاته"33.
5- لا يفتتن الشهيد في القبر: فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "من لقى العدو
فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"34، والمقصود من عدم الافتتان في القبر، هو
عدم تخلّي الميّت عن دينه وعقائده الحقّة التي كان يحياها في الدنيا، ذلك أن شدّة
الموت والنزع وهول المطّلع والرهبة من منكر ونكير لا يثبت أمامها إلا من كانت
عقائده ثابتة في قلبه، والشهيد الذي لم ترهبه الأسلحة ولا هول الحروب أجدر بأن
يُؤمَن خطر الافتتان في القبر.
6- الدخول إلى عرصة القيامة بمراسم البهاء: ورد عن الإمام علي عليه السلام عن رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "فو الذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على
طريقهم لترجَّلوا لهم ممّا يرونَ من بهائهم..."35.
ويجب أن لا يغيب عن البال أنّه مع هذا التكريم الخاص للشّهداء في يوم القيامة إلا
أنّ حال عامّة النّاس مختلفٌ كثيراً، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه
قال: "مثل النّاس يوم القيامة إذا قاموا لربّ العالمين مثل السّهم في الْقُرْبِ ليس
له من الأرض إلا موضع قدمه كالسّهم في الكِنَانَةِ36 لا يقدر أن يزول هاهنا ولا
هاهنا"37. أي كما تُسطر السهام وتُرصُّ في الكِنانة جنباً إلى جنب، بحيث لا يمكن
تحريكها لشدّة تماسكها ببعضها من التضايق والتزاحم.
وقوله تعالى
﴿إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعينَ
مُقْنِعي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ
هَواءٌ﴾38، فمهطعين أي مسرعين، ومقنعي يعني رافعي رؤوسهم إلى السماء فلا يرى الرجل
مكان قدميه من شدّة رفع الرأس، وذلك من هول يوم القيامة. وفي تصوير آخر لهذه الحالة
يكون الناس في يوم القيامة ناكسي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم، فلا ترجع إليهم
أعينهم ولا يطبّقونها ولا يغمضونها، وقلوبهم خالية من كل شيء فزعاً وخوفاً. قد
فصّلت الآيات الكريمة في حال الناس في العديد من السور إلى أن قالت في وصف تلك
اللحظات الشديدة
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخيهِ وَأُمِّهِ وَ أَبيه
وَصاحِبَتِهِ وَبَنيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنيهِ﴾39.
7- الشفاعة: فعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "ويشفعُ الرجلُ منهم في سبعين ألفاً
من أهل بيته وجيرته، حتى أنَّ الجارين يختصمان أيهما أقرب"40.
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاثة يشفعون إلى الله فيُشفّعهم:
الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء"41. فقد اتّفقت الإمامية على أنّ رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر والذنوب من شيعته،
وأنّ المؤمن البرّ يشفع لصديقه المؤمن المذنب، فتنفعه شفاعته ويشفّعه الله42.
8- مرافقة الأنبياء والصدّيقين والصالحين: وهي قول الله تعالى
﴿فَأُوْلَـئِكَ مَعَ
الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً﴾43.
* كتاب التربية الجهادية، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- تحرير الوسيلة، ج 1، غسل الميت.
2- عطر الشهادة،ص13.
3- راجع لسان الميزان، ج3، ص241-246.
4- آل عمران،169.
5- هي دار الحياة الدائمة والخالدة كما ورد في تاج العروس،ج19،ص356.
6- العنكبوت،64.
7- النساء،41.
8- البقرة،249.
9- الأنعام، 162.
10- صحيفة النور، ج19، ص40.
11- آل عمران،140.
12- الحديد،19.
13- النساء،74.
14- بحارالأنوار،ج97،ص8.
15- ميزان الحكمة، ج2، ص1510.
16- م.ن.
17- م.ن.
18- ميزان الحكمة، ج2، ص1510.
19- بحار الأنوار،ج45،ص70.
20- عطر الشهادة،ص15.
21- ميزان الحكمة، ج2، ص1512.
22- عطر الشهادة،ص25.
23- وسائل الشيعة،ج16،344.
24- بحار الأنوار،ج32،ص195.
25- الحديد،4.
26- آل عمران،125.
27- وسائل الشيعة، ج15، ص16.
28- محمد، 4-7.
29- آل عمران، 169.
30- آل عمران، 170.
31- آل عمران،157.
32- ميزان الحكمة، ج2، ص1514.
33- الكافي، ج5، ص54.
34- كنز العمال، ج4، ص282.
35- مستدرك الوسائل، ج11، ص12.
36- الكنانة، جعبة السهام.
37- بحارالأنوار،ج7،ص111.
38- ابراهيم،42،43.
39- عبس،34-37.
40- م.ن.
41- مستدرك الوسائل،ج11،ص 20.
42- راجع، أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص29.
43- النساء، 69.