يتم التحميل...

آية الوضوء (2)

دراسات في التفسير

بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول: وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل) فالطهارة عندهم بعد القيام بالطّهارة المذكورة

عدد الزوار: 388

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ1.

اسم الكتاب: تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم
تأليف: السيد حيدر الآملي (719 - 787 هـ)
القرن: الثامن الهجري
المنهج: العرفاني
المصدر: ج4 ص 18- 26 و ص 29 - 41

بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول: وأمّا وضوء أهل الطّريقة (طهارة النفس والعقل) فالطهارة عندهم بعد القيام بالطّهارة المذكورة، عبارة عن طهارة النفس من رذائل الأخلاق وخسائسها، وطهارة العقل من دنس الأفكار الرديّة والشبه المؤدّية إلى الضّلال والإضلال، وطهارة السرّ من النظر إلى الأغيار، وطهارة الأعضاء من الأفعال الغير المرضيّة عقلاً وشرعاً.

وأمّا أفعال هذه الطهارة المعبّر عنها بالوضوء فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته لله خالصة دون غيره لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ2.

وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها، فإنّ الدّنيا جيفة وطلّابها كلاب، فالطالب والمطلوب نجسان، ولهذا قال عليه السلام: "حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة وترك الدّنيا رأس كلّ عبادة"3.

وقال عليّ عليه السلام: "يا دنيا غرّي غيري فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة فيها"4.
وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.
ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‏ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.
ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين وإلى مثل هذا الوضوء المضاف إلى الوضوء الأوّل أشار النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وقال: "الوضوء نور" "الوضوء على الوضوء نور على نور"5.
أعني صفاء الظّاهر مع صفاء الباطن على الوجه المذكور فهو نور على نور، أي نور البصيرة على نور الشرع سبب صفاء الظاهر والباطن وموجب ثبات السّالك على الطّريق المستقيم في الدّنيا والآخرة لقوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ6.
رزقنا الله الجمع بينهما والإقامة على كلّ واحد منهما، لأنّه المستعان وعليه التكلان.

وأمّا وضوء أهل الحقيقة
فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.
والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه، لأنّ كلّ من توجّه في الباطن إلى غيره فهو مشرك بالشّرك الخفيّ المتقدّم ذكره المشار إليه في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ7.
ولقوله: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ8.
والمشرك نجس لقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ9.

التوحيد الحقيقي:

فطهارته لا يكون إلّا بهذه النيّة الّتي هي عبارة عن التوحيد الحقيقي النافي للشرك مطلقاً، لأنّه معلوم،وبل مقرّر أنّ الخلاص من الشرك جليّاً كان أو خفيّاً لا يمكن إلّا بالتوحيد ألوهيّاً كان، أو وجوديّاً كما سبق ذكره مفصّلاً عند بحث الأصول.
وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم المشار إليه في قوله: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ10.
و لا يعرف غير ذاته المحيط المومئ إليه في قوله:
"واللّه بكلّ شي‏ء محيط" وعن هذا التّوجّه أخبر من لسان إبراهيم عليه السلام ، بقوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ11.

وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية، وفيه قيل: "سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك"12.

وفيه قيل: "خير الأعمال ذنب أحدث توبة، وشرّ الأعمال طاعة أورثت عجباً".

وإليه أشار صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: "الدّنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"13.

ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه لقول بعض العارفين فيه:
بيني وبينك إنّيٌّ ينازعني فارفع بفضلك إنّيِّ من البينِ‏

وفيه قيل: "وجودك ذنب لا يقاس به ذنب".
وقد سبق أنّ كلّ من شاهد الغير فهو مشرك، وكلّ مشرك نجس، والنجس ليس له طريق إلى عالم القدس والحضرة الإلهيّة لقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء14.
ومسح الرّجلين، عبارة عن تنزيه قوّتي العملية والعلمية عن السير إلّا باللّه وفي اللّه، لأنّهما كالقدمين.
والرجلين في الظاهر لأنّه بهما يسعى في طلب الحقّ وبهما يصل إليه، وعند التّحقيق: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى15.
إشارة إليهما، أعني إذا وصلت إلينا بواسطتهما فدعهما فإنّك بعد هذا ما أنت محتاج إليهما، ومعلوم عند الوصول يجب طرح كلّ ما في الوجود سيّما القوى والحواسّ وما اشتمل عليهما ظاهراً وباطناً.

وعند البعض المراد بالنّعلين الدّنيا والآخرة. وعند البعض عالم الظاهر والباطن، وعند البعض النّفس والبدن، والكلّ صحيح، وفي مثل هذا الحال وهذا المقام ورد في الحديث القدسي:
"لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله، فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي"16.

إشارة إلى السّير بالله الّذي هو مقام التكميل دون الكمال المشار إليه في قوله: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ17.
وأمّا بالنّسبة إلى اليدين كقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى18.
وهاهنا أبحاث وأسرار يطول ذكرها، يكفي الفطن اللبيب هذا المقدار، والله يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول:

و أمّا غسل أهل الطريقة
(حبّ الدنيا جنابة)
فالغسل عندهم بعد القيام بالغسل المذكور، طهارة من الجنابة الحقيقيّة الّتي هي البعد عن الله، دون المجازيّة الّتي هي الأحداث الشّرعيّة.
والجنابة الحقيقية على قسمين: قسم يتعلّق بهم، وقسم متعلّق بأهل الحقيقة.
أمّا الّذي يتعلّق بأهل الحقيقة فسيجي‏ء بيانه بعد هذا بلا فصل.
وأمّا الّذي يتعلّق بهم فهي الجنابة الحاصلة من محبّة الدّنيا، فإنّ الدّنيا في الحقيقة كالمرأة الّتي لها كلّ ساعة بعل آخر كما أشار إليها الإمام عليه السلام في قوله: "قد طلقّتك ثلاثاً لا رجعة فيها"19.
لأنّها لو لم تكن كالمرأة أو في حكمها ما خاطبها الإمام بهذا الخطاب، فكلّ من يلامس مثل هذه ويجامعها بالنّفس أو الروح أو القلب يكون جنباً بالحقيقة، والجنابة هي البعد عن الله تعالى، فكلّ من يحبّ الدّنيا على الوجه المذكور يكون بعيداً عن الله ضرورة، فإنّ محبّة الله وقربه، ومحبّة الدّنيا وقربها ضدّان لا يجتمعان، وإليه الإشارة في القول السّابق عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم الّذي قال: "الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدّنيا، وهما حرامان على أهل اللّه"20.

وكذلك ما قال تعالى في كتابه العزيز: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ21.

وكذلك ما أشار الإمام عليه السلام في قوله: "إنّ الدّنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحبّ الدّنيا وتولّاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب، وماش بينهما كلّما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرّتان"22.
فالغسل والطّهارة من هذه الجنابة يكون بترك الدّنيا وما فيها بحيث لا يبقى له تعلّق بها بمقدار شعرة، لأنّ في الغسل الشّرعي لو بقي على الجسد شعرة لم يصل الماء إليها: لم يصح غسله ولم يطهر صاحبه من الجنابة، فإنّ التعلّق من حيث التعلّق له حكم واحد وهو التعلّق سواء كان قليلاً أو كثيراً، كما قيل: "المحجوب محجوب سواء كان بحجاب أو ألف حجاب".
وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل السّالك أوّلاً رأسه الحقيقي- الّذي هو القلب هاهنا- بماء العلم الحقيقي النازل من بحر القدس، من حدث الأهواء المختلفة، والآراء المتشتّتة المتعلّقة بالدّنيا وبمحبّتها الموجبة للدّخول في الهاوية الّتي هي النّار لأنّ الهوى إذا أغلب انجذب صاحبه إلى عبادة الأصنام والأوثان الباطلة ذهناً كان أو خارجاً، أمّا الخارج فهو معلوم، وأمّا الدّاخل فذلك أيضاً قد سبق بحكم قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ23.

وكلّ من أطاع هواه لا بدّ وأن يدخل النار لقوله تعالى أيضاً: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ24.

أي من خفّت موازينه من العلم والعمل الصّالح الصّادران من العقل الصحيح والنفس الكامل، فهو في الهاوية الّتي هي أصلها وأمّها، لأنّ منشأ الهوى من النّفس الأمّارة، والنّفس الأمّارة منشأها ومنبعها الطبيعة الحيوانيّة، والقوى الشهويّة والغضبية اللّتان هما من جنودها وأعوانها، كذلك صادران من الطبيعة والنّفس، فلا تكون الهاوية في الحقيقة إلّا التوجّه إلى النّفس، الأمّارة والشّهوة

والغضب، وأسفل سافلين إشارة إليها في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ25.

أي رددناه بأفعاله إلى أسفل عالم الطبيعة والنّفس الأمّارة بمتابعة الهوى ومخالفة الحقّ في أفعاله وأقواله، لقول أهل النّار فيه: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ26. ولهذا دائماً أهل الله الّذين هم أهل العلم الحقيقي والعمل الصّالح والعقل الصّحيح، موصوفون بالسّكينة والوقار، والطمأنينة والإخبات وأمثال ذلك لقوله تعالى فيهم: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ27 ﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ28.

وأهل الأهواء والبدع موصوفون بالخفّة وقلّة العقل، وعدم السكينة والوقار، لقوله تعالى فيهم: ﴿َالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ29.

وقد سدّ باب سؤال كلّ سائل في هذا المقام قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى30.

لأنّ هذا تحريض على منع النّفس عن الهوى، وتشويق إلى دخول الجنّة الّتي هي المأوى الحقيقي والموطن الأصلي من غير التراخي ولا التأخير وإليه أشار عليّ عليه السلام في قوله:

"تخففوا تلحقوا فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم"31 ، يعني تخفّفوا من أثقالكم الحاصلة من متابعة الهوى ومحبّة الدّنيا، فإنّ إلحاقكم بالحقّ وبالجنّة موقوف عليه، أي على تخفيفكم منها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ32.

ثمّ يغسل ويطهّر روحه وسرّه الّذي هو من الجانب الأيمن المعبّر عنه:بالرّوحانيّات عن محبّة العلويّات، والرّوحانيّات المعبّر عنها بالآخرة والجنّة، لأنّ أهل الآخرة مخصوصون بأصحاب اليمين والعلويّات، لقوله تعالى في الأوّل: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ * وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ * وَمَاء مَّسْكُوبٍ33
و لقوله في الثّاني: ﴿وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِه34.
ثمّ يغسل جانبه الأيسر، أي يغسل ويطهّر نفسه وجسده الّذي هو الجانب الأيسر المعبّر عنه: بالجسمانيّات عن محبّة السّفليّات والنفسانيّات المعبّرة عنها بالدّنيا، بماء الترك والتجريد وعدم الالتفات إليه، فإنّ الدّنيا مخصوصة بأهل الشمال، كما أنّ الآخرة مخصوصة بأهل اليمين لقوله تعالى: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ35، فانّ بهذه الطّهارة يحصل له استحقاق دخول الجنّة واستعداد قرب الحضرة العزّة، كما قال: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ36.
رزقنا الله الوصول إليها، فانّ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وأمّا غسل أهل الحقيقة

(البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة)
فالغسل عندهم عبارة عن طهارتهم من الجنابة الحقيقية الّتي هي مشاهدة الغير مطلقاً، لأنّ الجنابة كما سبق بيانها هي البعد، وكلّ من شاهد الغير فهو بعد عن الحقّ ومشاهدته، ولا يمكن إزالة هذا البعد إلّا بقربه إلى التوحيد الحقيقي الّذي هو مشاهدة الحقّ تعالى من حيث هو هو لقوله: ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ37، و قد مرّ بيان هذا التّوحيد مراراً.

وترتيب هذا الغسل وهو أن يغسل رأسه الحقيقي الّذي هو هاهنا روحه المجرّد بماء التوحيد الذّاتي عن حدث مشاهدة الغير، لأنّ محبّة الله تعالى كما هو وظيفة الباطن المعبّر عنه بالنفس المطمئنّة، معرفته وظيفة القلب، ومشاهدته وظيفة الرّوح، كما أنّ الوصول إليه وظيفة (السّر) الّذي هو باطن الرّوح.

والى هذا الترتيب أشار جعفر بن محمّد الصّادق عليه السلام في بعض أدعيته وهو قوله: "اللّهم نوّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتّصال حضرتك يا ذا الجلال والإكرام"38.

وهذا الغسل لا يمكن إلّا بفناء العارف في المعروف، والشاهد في المشهود المعبّر عنه بالفناء في التوحيد، وذلك يكون بمشاهدة الحقّ من حيث هو هو، أعني يشاهده بحيث لا يشاهد معه غيره، أعني لا يشاهد في الوجود إلّا وجوداً واحداً، وذاتاً واحدة مجرّدة عن جميع الاعتبارات والتّعيّنات، وإليه أشار الحقّ تعالى في قوله: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ39.
وكذلك في قوله: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ40 ،وقد مرّ تحقيق هاتين الآيتين غير مرّة والتكرار غير مستحسن.

وحيث تقرّر هذا التّوحيد، هو الصّراط المستقيم الحقيقي، المأمور بالاستقامة عليه نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ41.

و الحدّ الأوسط المشار إليه في قوله: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ42

وتقرّر أنّ له طرفان: طرف إفراط، وطرف تفريط، اللّذان هما التّوحيد الإجمالي، والتوحيد التّفصيلي.

فالطّهارة من دنس جانب الإفراط المعبّر عنه بالأيمن يكون بخلاصه من التّوحيد الإجمالي، والطّهارة من دنس التفريط المعبّر عنه بالأسر يكون بخلاصه من التّوحيد التفصيلي، والاستقامة على الصّراط المذكور والحدّ الأوسط المعبّر عنه بالطّهارة الكبرى يكون بجمعه بين التّوحيدين، وقطع النّظر عن مشاهدة الغير أصلاً ورأساً مع اعتباره ومشاهدته من حيث الجمع المعبّر عنه بأحديّة الفرق بعد الجمع، وذلك صعب في غاية الصّعوبة، ولهذا وصفه النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: بـ"أحدّ من السّيف، وأدقّ من الشعر"43.

وقوله تعالى:
﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى44،إشارة إلى الطّرفين، وقوله: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى45 ،إشارة إلى التّوحيد الجمعي المحمّدي الجامع للتّوحيدات كلّها.

وبالجملة ليست الجنابة الحقيقية إلّا مشاهدة الغير على أيّ وجه كان، وليست الطّهارة الحقيقية عند التحقيق إلّا بعد الخلاص منها على أيّ وجه كان، وفيه قيل:

قنعتُ بطيفٍ من خيالٍ بعثتُمُ وكنتُ بوصلٍ منكُمُ غيرَ قانعِ‏
إذا رمتَ من ليلى من البعدِ نظرةً لتطوى جوى بين الحشا والأضالع‏ِ
تقول نساء الحيِّ تطمعُ أن ترى بعينيكَ ليلى مُتْ بداءِ المطامعِ‏
وكيفَ تَرى ليلى بعينٍ ترى به سواها، وما طَهَّرتَها بالمَدامع‏ِ

وأمثال ذلك في هذا المعنى كثير، فليطلب من مظانّها.
والله أعلم وأحكم وهو يقول الحقّ وهو يهدي السبيل.
هذا غسل الطّوائف الثّلاث بقدر هذا المقام.

الخلاصة
أوردنا نموذجَ من المنهج العرفاني من كتاب: تفسير المحيط الأعظم والبحر الخضم،للسيد حيدر الآملي، وذلك تفسيراً للآية التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ46.

بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن وضوء أهل الشريعة يقول: وأمّا وضوء أهل الطّريقة ﴿طهارة النفس والعقل، وأمّا أفعال هذه الطّهارة المعبّر عنها بالوضوء: فالنيّة فيه، وهي أن ينوي المكلّف بقلبه وسرّه أنّه لا يفعل فعلاً يخالف رضى الله تعالى بوجه من الوجوه، ويكون جميع عباداته للّه خالصة دون غيره.
وغسل الوجه، وهو أن يغسل وجه قلبه عن حدث التعلّق بالدّنيا وما فيها.
وغسل اليدين، وهو غسلهما وطهارتهما عمّا في قبضتهما من النقد والجنس والدنيا والآخرة، فإنّ طهارتهما حقيقة ليس إلّا بترك ممّا في تصرّفهما وحكمهما.
ومسح الرأس، وهو أن يمسح رأسه الحقيقي المسمّى بالعقل أو النّفس، أي يطلع عليهما حتّى يعرف أنّه بقي عندهما شي‏ء من محبّة الدّنيا وما يتعلّق بها من المال والجاه.
ومسح الرّجلين وهو أن يمنعهما عن المشي بغير رضى الله وطاعته ظاهراً وباطناً، والمراد بالرجلين في الظاهر معلوم وأمّا في الباطن هما عبارتان عن القوّة النّظرية والعمليّة عند البعض وعن القوّة الشهويّة والغضبيّة عند الآخرين. وأمّا وضوء أهل الحقيقة (طهارة السرّ عن مشاهدة الغير).

فالوضوء عندهم المعبّر عنه بالطهارة عبارة عن طهارة السّرّ عن مشاهدة الغير مطلقاً.
والنيّة فيها وهي أن ينوي السّالك في سرّه أنّه لا يشاهد في الوجود غيره ولا يتوجّه إلّا إليه.
وغسل الوجه فيها عبارة عن طهارة الوجه الحقيقي ونظافة سرّه عن دنس التوجّه إلى الغير، بحيث لا يشاهد غير وجهه الكريم ولا يعرف غير ذاته المحيط.
وغسل اليدين عبارة عن عدم الالتفات إلى ما في يديه من متاع الدّنيا والآخرة، من الدّنيا كالمال والجاه والأهل والولد، ومن الآخرة كالعلم والزّهد والطاعة وما يحصل منها كالثواب والجنّة والحور والقصور، لأنّ رؤية الطّاعة والعبادة واستحقاق التعظيم بهما عند أهل الله معصية.
ومسح الرأس عبارة عن تنزيه سرّه وتقديس باطنه الّذي هو الرأس الحقيقي عن دنس الأنانية وحدث الغيريّة الحاجب والحاجز بينه وبين محبوبه.

ثمّ بعد أن يتحدّث السيّد حيدر الآملي عن غسل أهل الشريعة يقول:
وأمّا غسل أهل الطريقة (حبّ الدنيا جنابة)، وأمّا غسل أهل الحقيقة (البعد عن الحقّ سبحانه ومشاهدة الغير، جنابة عند أهل الحقيقة).

* دراسات في مناهج التفسير، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة المائدة، الآية: 6.
2- سورة الأنعام، الآيتان:162-163.
3- بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 67، ص 315، الشطر الأوّل من الحديث: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».
4- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
5- ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة، الشهيد الأوّل، ج 2، ص 195.
6- سورة إبراهيم، الآية: 27.
7- سورة الجاثية،الآية: 23.
8- سورة يوسف،الآية: 106.
9- سورة التوبة،الآية: 28.
10- سورة البقرة،الآية: 115.
11- سورة الأنعام،الآية: 79.
12- نهج البلاغة، الحكمة: 46.
13- عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
14- سورة النساء، الآية: 48.
15- سورة طه،الآية:12.
16- أنظر: عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي، ج 4، ص 103. مع اختلاف بسيط.
17- سورة التوبة،الآية: 122.
18- سورة الأنفال،الآية: 17.
19- نهج البلاغة، الحكمة: 77.
20- عوالي اللئالي، ابن جمهور الأحسائي، ج 4، ص 119.
21- سورة الشورى،الآية: 20.
22- نهج البلاغة، الحكمة: 103.
23- سورة الجاثية،الآية: 23.
24- سورة القارعة،الآيتان: 7- 8.
25- سورة التين،الآيتان: 4-5.
26- سورة الملك، الآية: 10.
27- سورة القارعة، الآيتان: 6- 7.
28- سورة الغاشية، الآية: 10.
29- سورة الأنعام، الآية: 71.
30- سورة النازعات، الآيتان: 40 - 41.
31- نهج البلاغة، الخطبة: 21 و167.
32- سورة الصافات،الآيتان: 60-61.
33- سورة الواقعة، الآيات: 27- 31.
34- سورة الزمر، الآية: 67.
35- سورة الواقعة، الآيات: 41 43.
36- سورة القمر، الآيتان: 54-55.
37- سورة آل عمران، الآية: 18.
38- أنظر: موسوعة مؤلّفي الإمامية، مجمع الفكر الإسلامي، ج 2، ص 600، لكن الدعاء منسوب إلى الإمام عليّ عليه السلام.
39- سورة القصص، الآية: 88.
40- سورة الرحمن، الآيتان: 26- 27.
41- سورة هود،الآية: 112.
42- سورة الانعام،الآية: 153.
43- أنظر: فتح الباري، ابن حجر، ج 11، ص 295.
44- سورة النجم، الآية: 17.
45- سورة النجم، الآية: 9.
46- سورة المائدة، الآية: 6.

2015-08-07