مراقبات القيم التربوية والاجتماعية
وتزودوا في شهر الله
جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان: "وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم وصِلُوا أرحامكم"
عدد الزوار: 131
جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في استقبال شهر رمضان:
"وتصدّقوا على
فقرائكم ومساكينكم ووقّروا كباركم وارحموا صغاركم وصِلُوا أرحامكم"1.
لا شكَّ أن شهر رمضان المبارك فرصةٌ لتفعيل الجانب الاجتماعيّ للإنسان ومراجعة
الخلل والنقص والهفوات التي ارتكبها خلال الأيام الماضية، فشهر رمضان ليس لمراقبة
البعد العباديّ الخاصّ، بل يتعدّاه لمراقبة البعد الإجتماعيّ، وما أحوجنا اليوم إلى
الخروج بالعبادات من الشكل والطقس إلى الأبعاد الأخرى لتكون أساساً في بناء المجتمع
السليم وتعاضده وتكاتف أفراده، وقد حرص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على
إبراز هذا الجانب ليكون الجانب الاجتماعيّ لكلٍّ منا بعد مرور الشهر الكريم ليس كما
قبله، وإلاوالعياذ بالله نكون ممن حُرم بركات الفيض الإلهيّ ولم ينل من عطاءات
المولى تعالى.
وقد تناول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في خطبته الغرّاء جانباً من
العلاقات الاجتماعية نقتصر في الحديث هنا على بعضها:
1- حُسن
الخُلُق: فقد جاء في خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أيّها
النّاس من حسّن منكم في هذا الشّهر خُلقه كان له جواز على الصّراط يوم تزلّ فيه
الأقدام"2.
ولا شكّ أنّ كلمة (حسّن) تعني الانتقال من حالة إلى حالةٍ أحسن منها، وهذا الانتقال
يحتاج لمراقبة ودراية بأهمّ الجوانب التي يجب مراقبتها سواء التي كان عليها أو التي
انتقل إليها حتى ينتقل المرء من حالٍ إلى حالٍ أحسن وأفضل.
وقد عرّف الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن حسن الخُلُق فقال: "تليّن جناحك،
وتطيّب كلامك، وتلقى أخاك ببشرٍ حسن"3. وفي روايةٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام
يبين فيها جوانب الخُلق العظيم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبالتالي فهذه
الرواية تبيّن لنا الجوانب التي يجب مراقبتها في هذا الشهر وتحسينها فيقول عليه
السلام: "كان أجود الناس كفّاً، وأرحب الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفى الناس
ذمّة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبّه،
يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله"4.
وإذا كان حسن الخُلق في غير شهر رمضان ثقيلاً في الميزان ويميت الخطيئة ويرفع صاحبه
في الناس فإنّ تحسين الخُلق في هذا الشهر يرقى بصاحبه ليجوز به على الصراط يوم تزلّ
الأقدام.
2- التصدّق: وهو ما ورد في خطبة النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم بقوله: "وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم"5.
والصدقة من أهمّ المستحبّات الدينية التي حثّ الإسلام عباد الله عليها مؤكّداً على
دورها الكبير في توطيد الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع, لأنها عطيّة يخرجها
الإنسان من ماله على نحو التبرّع ولا يريد بها المثوبة من الله تعالى، قال تعالى:
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ﴾6.
فالصدقة في المفهوم الدينيّ وفي نيّة المتصدّق لا ينبغي أن تكون من باب قضاء حاجة
المحتاج وإنما بنية تطهير المال وتزكيته، ولذلك كان بعض العرفاء يقول إنك عندما
تعطي مالاً لفقير ففي الواقع والحقيقة فإنّ الفقير هو الذي يمنحك فرصة زكاة
مالكوتطهيره، وبالتالي فهو له المنّة عليك، ولذلك كانت المنّة على الفقير من
المتصدق مبطلةً لعمله, لأنّ ذلك خلاف الصورة الحقيقيّة التي أرادها الإسلام، وهذا
معنى قول الإمام الصادق عليه السلام لأحدهم عندما شاهده يعطي مالاً لفقير فقال له:
"أنت أحوج لمالك في آخرتك من السائل إليه في دنياه".
والصدقة في شهر رمضان من الأمور التي ينبغي مراقبتها جيداً، هل تصدّقت؟ بماذا
تصدّقت؟ ولماذا؟ وكيف شعرت بعد التصدّق؟ وهل كانت نيتي خالصة لوجه الله تعالى؟ هل
تحسّن أدائي للصدقة خلال الشهر الكريم؟ هل كانت في السرّ أم في العلن؟.....
تقديم الأرحام بالصدقة: وإذا كان للصدقة كلّ هذه المفاعيل الاجتماعية فإنه من
الطبيعيّ أن تنطلق الصدقة في الدائرة الاجتماعية الأقرب فالأقرب، ومن الطبيعي أنّ
توطيد هذه العلاقات مع ذوي الأرحام، ولو سار الجميع على هذا المنهج لارتفع الفقر
منالمجتمع بعطاءات الصدقات وحدها بدون سواها، وهذا ما ورد عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في قوله: "لاصدقة وذو رحم محتاج"7.
فعليه فليراقب كلٌّ منّا صدقته، وليطفىء غضب الربّ بها، وليدفع البلاء بها،
وليتوسّم الاستظلال بها يوم لا ظلَّ إلا ظلُّ العمل الصالح.
3- صِلَةُ الأرحام: جاء في خطبة النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم: "وصِلُوا أرحامكم،... ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم
يلقاه، ومن قطع فيه رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه"8...
واللافت في هذا المقطع من خطبة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّ شهر رمضان كما
أنه فرصة لزيادة العطاء لمن أدّى أعماله على أحسن وجه، كذلك فإنه من الأوقات التي
يتضاعف فيها العقاب فيما لو لم يحسن المرء أداء أعماله، فكما أنّ صلة الرحم باب
عبور إلى الرحمة الإلهية في هذا الشهر فإنّ قطيعة الرحم باب عبور إلى الحرمان من
الرحمة الإلهية يوم القيامة.
وهذا الأمر يسري على بقية الفضائل والرذائل في هذا الشهر، فالصدق له ثوابه الكبير،
والكذب له عقابه الأكبر وهكذا، وهذا أمرٌ طبيعيّ عندما نكون ضيوف الرحمن والجالسين
إلى مأدبة الكرم الإلهيّ.
ومن المهمّ لَفْتُ النظر إلى تعريف معنى صلة الرحم, لأنها باتت اليوم من الأمور
التي تحتاج أن نذكّر بعضنا البعض به, روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ
الرَّحِمَ معلّقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافىء، ولكنّ الواصل من الذي إذا انقطعت
رحمه وصلها"9.
فصلة الرحم عندما تصل من يصلك أمرٌ لا لبس فيه، لكنّنا إذا شعرنا أنّ فلاناً يحاول
أن يقطع هذه الصلة فإننا سرعان ما نبادر إلى القطيعة فنبادل القطيعة بالقطيعة
والهجران بالهجران والجفاء بالجفاء فتتكسّر أواصر المحبة والوئام والتعاون
والألفةوتنهار أعمدة الرحمة والمودة ولذلك نرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم وأهل البيت عليهم السلام كانوا يدعون الناس إلى صلة الأرحام فيجميع الأحوال،
وأن تقابل القطيعة بالصلة حفاظاً على الأواصر والعلاقات، وترسيخاً لمبادىء الحبّ
والتعاون والوئام.
ففي رواية أنّ رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله،
أهل بيتي أبوا إلاّ توثّباً عليَّ وقطيعة لي وشتيمة، فأرفضهم؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "إذن يرفضكم الله جميعاً. قال: كيف أصنع؟"
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمَّن ظلمك،
فإنّك إذا فعلت ذلك، كان لك من الله عليهم ظهير"10.
وتتجلّى مظاهر الصلة بالاحترام والزيارات وتفقّد أوضاعهم الروحية والمادية وكفّ
الأذى عنهم. وأدنى الصلة الصلة بالسلام, روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
"صلوا أرحامكم ولو بالسلام"11 وأدنى الصلة المادية السقاء, روي عن الإمام
جعفرالصادق عليه السلام: "صِلْ رَحِمَكَ ولو بشربة ماء"12.
ومن جملة الأمور التي يمكن بها الاستفادة من بركات الشهر المبارك التأكيد على
التواصل مع الأرحام من خلال مأدبات إفطار الصائمين، فأَوْلى الناس بالدعوة ذوو
الرحم من الأبناء والأهل والأخوة والأخوات والأقرب فالأقرب.
4- تكريم الأيتام: جاء في خطبة النبيّ صلى
الله عليه وآله وسلم: "وتحنّنوا على أيتام الناس يتحنّن على أيتامكم" "... ومن أكرم
فيه يتيماً أكرمه الله يوم يلقاه"13.
فاليتيم وديعة الله فينا، والله ينظر إلى عباده بمقدار نظرهم إلى أيتامهم، فهُم أحد
أهمّ معايير سلامة المجتمع وتدينه أو فسقه وانحرافه، ولذلك وجب علينا المراقبة
المشدّدة سيّما في شهر رمضان للخطوات التي نريد القيام بها تجاه الأيتام من عناية
فائقة ورعايتهم والمحافظة على أموالهم، والحذر من التجاوز على حقوقهم.
وقد عبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله "تحنّنوا" ليؤكّد البعد الروحي
والعاطفي والنفسي التي ينبغي التعامل بها مع اليتيم، وأنّ مدّ يد العون المادية
لليتيم لا يغني عن مسح رأسه معنوياً وعاطفياً، لذا فقد أهابت الشريعة بالمحسنين أن
يراعوا الأيتام كما يراعيالوالد أبناءه.
ويمكن اختصار أهمّ الواجبات التي يجب على المجتمع المسلم مراعاتها والاهتمام بها
في رعاية اليتيم بالآتي:
1- رعاية شؤونه المادية وحفظ حقوقه وممتلكاته حتّى يبلغ. قال تعالى:
﴿وَآتُواْ
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ
تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرً﴾14.
2- تربيته على متطلّبات الحياة وتأهيله لخوض غمارها بثبات ونجاح وسعادة.
3- احتضانه معنوياً وعدم التعرّض لأيٍّ من حقوقه المعنوية كما عبّر أمير المؤمنين:
"ولا يضيعوا بحضرتكم"15.
* كتاب وتزودوا في شهر الله، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- الأمالي، الشيخ الصدوق،
ص154.
2- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص154.
3- الكافي، ج2، ص103.
4- مكارم الاخلاق، ص 18.
5- الأمالي، ص 154.
6- سورة التوبة، الآية 103.
7- ميزان الحكمة، ج2، ص1599.
8- الأمالي، ص 154.
9- الأمالي، ص 155.
10- الكافي، ج2، ص 150.
11- الخصال، الشيخ الصدوق، ص613.
12- الكافي،ج2،ص 151.
13- الأمالي، ص 150.
14- سورة النساء، الآية 2.
15- نهج البلاغة، ج 3، ص 77.