عدد من الاسئلة حول الجنة
الموضوعات الغيبية في القرآن
يـعترض البعض قائلا: ان مايستشف من الايات والروايات يشير الى ان النعم في الجنة ونمط الحياة فيها يسير برتابة وعلى وتيرة واحدة، ونحن نعلم ان هذا الوضع ـ ولاسيما اذا استمر لمدة طويلة ـ يـثير الملل ويطفي شعلة الشوق والحماسة والنشاط،
عدد الزوار: 1151. اليست الرتابة مملة؟
يـعترض البعض قائلا: ان مايستشف من الايات والروايات يشير الى ان النعم في الجنة
ونمط الحياة فيها يسير برتابة وعلى وتيرة واحدة، ونحن نعلم ان هذا الوضع ـ ولاسيما
اذا استمر لمدة طويلة ـ يـثير الملل ويطفي شعلة الشوق والحماسة والنشاط، لان تكرار
اجمل المشاهد واحلى المناظر واطيب الاطعمة يضفي عليها مسحة طبيعية ويجعل منها وضعا
عادي، حتى ان الانسان قد يلجا احيانا الـى اسـالـيـب حـيـاتـيـة ابـسـط او اكـثـر
مشقة من اجل كسر طوق الرتابة والملل وممارسة التجديد والتنوع وللاجابة عن هذا
السؤال ينبغي الالتفات الى ثلاث نقاط:
الاولى: يجب عدم تطبيق المقاييس والمعايير المادية والنفسية السائدة في هذا العالم
على ذلك العالم، فـلعل هذه الحالة النفسية الموجودة فينا وهي سرعة التعب والضجر
واللامبالاة في هذا العالم قد تكون على العكس تماما هناك، فكلما تكررت المشاهدة
ازداد الشوق وتضاعفت الرغبة، ومع تزايد التكرار تزداد اللذة،فيكون التكرار مدعاة
لمضاعفة اللذة المعنوية والمادية.
فما هو الدافع الذي يجعلنا نتصور الوضع النفسي للانسان في هذا المجال واحدا هنا
وهناك؟
الـثـانية: توجد في هذا العالم ايضا نعم لا يملها الانسان ولايشبع منه،فنحن كلما
تنفسنا هواء طلقا جـديـدا ومـلـيئا بالاوكسجين، لا نمله ولا نضجر منه، بل نلتذ به
ويثير فينا البهجة والارتياح: وكـذلك الماء هذا المشروب البسيط فلو اننا عمرنا مئات
السنين يبقى شرب الماء العذب عند العطش مـن اعظم اللذات بالنسبة لن، وهذا هو معنى
قولنا ان طعم الماء هو طعم الحياة، فلا يبعث فينا الملل ولاالضجر بل يبقى الماء
العذب جذابا ولذيذا في افواه العطاشى.
فما المانع في ان يجعل اللّه لدى الانسان حالة شبيهة بحالة العطش (العطش اللذيذ
الخالي من الازعاج والاذى، مـثـل الـعـطـش للقاء المحبوب ) لكي يلتذالانسان
بواسطتها من النعم الروحية والجسمية الموجودة في الجنة؟
الـثالثة: لما كانت ذات اللّه وصفاته غير متناهية، فلا شك ان مظاهره الروحية
والمعنوية لا نهاية لامده، فهو يفيض عليهم في كل يوم بالطاف جديدة ويمدهم في كل
لحظة بهداية متجددة لا تكرار فيها ولا رتابة وهل يمكن ان يتكرر مالانهاية له؟
والنعم المادية هي من مظاهر رحانيته ورحيميته، ولا حد لها ولاحصر.
فـمـا المانع في ان تكتسب انهار الجنة واشجارها وازهارها وتلك الالوان والعطور وتلك
الاشربة الـطـاهرة، لونا وطعما وشكلا وعطرا جديدا في كل يوم وفي كل ساعة؟ فالوانها
في حالة تبدل دائم وهـي فـي تـغير مستمر، تكتسي على الدوام بحلل جديدة بحيث لا
يتكرر الطعام الواحد ولا المشهد الواحد على اهل الجنة الا مرة واحدة طوال حياتهم
فيها هـناك بعض الايات القرآنية والروايات التي تؤكد ما ورد في هذا الباب منهاالاية
(29) من سورة الرحمن:
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ِ﴾.
وقـد طـرح الـمفسورن آراء كثيرة متنوعة في تفسير هذه الاية ويشير كل واحد منها الى
فعل من افعال اللّه في مسالة خلق الناس وموتهم او رزقهم وحياتهم اوعزة ومذلة الامم
والاقوام او غفران الـذنـوب وكـشـف الهموم او جلب النفع ودفع الضر، ولا شك ان لهذه
الاية مفهوما اوسع يشمل اي تـغيير يطرا على اوضاع العالم،ونظرا لانعدام الدليل على
تخصيص هذه الاية في مجال الدني، بل وان مـجـيـئهـا بـعـد الاية الشريفة: (كل من
عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام)، يمكن اعتباره قرينة على استمرارية
التغير والتبدل في الدار الاخرة ايض، وان اصحاب الجنة كل يوم في شان بارادة اللّه.
وقـد اطلق بعض المفسرين عبارة "كل يوم " واعطاها عمومية اوسع لتشمل ايام الدنيا
والاخرة كليهما سوية .
جـاء فـي حـديـث عـن الامام الصادق (ع) انه قال: "ان اللّه خلق جنة لم ترهاعين ولم
يطلع عليها مخلوق، يفتحها الرب تبارك وتعالى كل صباح فيقول: ازدادي طيبا".
وورد حـديث آخر ايضا عن الامام الباقر(ع): "ان اهل الجنة توضع لهم موائد عليها من
سائر ما يشتهون من الاطعمة التي لا الذ منها ولا اطيب، ثم يرفعون عن ذلك الى غيره
".
تظهر هذه التعبيرات وبكل وضوح ان لا رتابة في الحياة هناك، بل في كل لحظة نعم
وعطايا جديدة.
نختم حديثنا هذا باشارة مقتضبة لاحد المفسرين حيث قال: "ان الاية تشير الى تجلي
الحق في كل زمن فرد ونفس فرد على حسب المتجلى له واستعداده ولا نهاية للتجليات ".
2_اتعرف قيمة اللذة بفقدانها؟
مـن الـمعروف ان "الفقدان " يبرز اهمية "الوجدان" وبعبارة اخرى: ان النعم الالهية
والعطا الرباني يعرف عند زواله فلو لم يكن للمرض وجود في العالم لماعرف واحد قيمة
الجوهرة الثمينة لنعمة السلامة ولولا الخوف لما عرفت قيمة واهمية نعمة الامان.
وعلى هذا فالجنة التي تخلو من الفقدان والخوف والمرض والتعب، ولاتعرف العوز والقحط
الخ لن تعرف قيمة كل هذه النعم وستنسى اهميتها بالتدريج،ولن يكون هناك اي شعور
باللذة.
والجواب عن هذا السؤال لا صعوبة فيه، لان اهل الجنة مشرفون على اهل النار وبامكانهم
الاطلاع على اوضاعهم ومقارنتها بماهم عليه، وحين يرون هذاالفارق الشاسع يلتذون
بالنعم اللامتناهية التي يعيشون فيه.
تـطرق القرآن الكريم مرات عديدة الى اطلالة اهل الجنة على اهل النار،فجا في الاية
(50) من سـورة الاعـراف: ﴿وَنَادَى
أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء
أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى
الْكَافِرِينَ﴾.
وفي سورة الصافات تحدثت عدة آيات منها عن هذا المشهد قائلة:
﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ *قَالَ قَائِلٌ
مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ *
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾ الصافات ـ50 ـ51 ـ55 ـ56.
ثـم نـقرا ايضا في سورة الاعراف:
﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا
مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى
الظَّالِمِينَ﴾ الاعراف ـ44.
يفهم من مجموع هذه الايات انه لا اهل الجنة يجهلون اوضاع اهل النار،ولا اهل النار
محجوبين عن احوال اهل الجنة، فاطلاع اهل الجنة يضاعف ماهم فيه من السرور والنعمة
لنجاتهم من ذلك العذاب الالـيم، ويسعدون لما هم فيه من النعمة والرفاه على العكس
منهم اهل النار اذ يتضاعف عذابهم عند اجراء مثل هذه المقارنة.
وورد عن الامام الصادق (ع) حديث يقول: "ما خلق اللّه خلقا الا جعل له في الجنة
منزلا وفي النار مـنـزل، فـاذا سكن اهل الجنة الجنة واهل النار النار نادى مناد،
يا اهل الجنة اشرفو، فيشرفون على النار وترفع لهم منازلهم في النار ثم يقال لهم:
هذه منازلكم التي لو عصيتم ربكم دخلتموه، قال: فـلو ان احدا مات فرحا لمات اهل
الجنة في ذلك اليوم فرحا لما صرف عنهم من العذاب، ثم ينادون: يـا معشر اهل النار
ارفعوا رؤوسكم فانظروا الى منازلكم في الجنة فيرفعون رؤوسهم فينظرون الى منازلهم في
الجنة وما فيها من النعيم، فيقال لهم: هذه منازلكم التي لواطعتم ربكم دخلتموها ".
ان وجـود مـنزلين لكل انسان يدل على الطبائع والاستعدادات الموجودة في كل انسان
بالقوة، حيث يـحـدد منزله في الجنة او في النار وفقا لتلك الطبائع والاستعدادات،
ولا يتنافى هذا مع ماذكرناه سـابـقا من انه يبني تلك المنازل بعمله ويكملها من جميع
الجوانب، ويخرج كل تلك الاستعدادات من حـالـة الـقوة الى حالة الفعل، هذا من جهة،
ومن جهة اخرى فان اهل الجنة لاينسون ابدا ذكريات الدني،ويمكنهم معرفة قيمة واهمية
كل هذه النعم والفضائل من خلال مقارنة اوضاعهم الحالية مع ما كانوا عليه في الدنيا.
ذكرت الايات من (25) الى (27) من سورة الطور ما ياتي: ﴿وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي
أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُوم﴾ِ.
يظهر هذا التعبير وبمنتهى الوضوح ان اصحاب الجنة يتذكرون معاناتهم في الدنيا وشقاهم
ويقارنون بينهما وبين ماهم فيه، ومن الطبيعي ان هذه المقارنة تظهرلهم بوضوح عظمة
الفضائل التي يتنعمون بها.
3_هل يوجد في الجنة تكامل؟
رغم ان جواب هذا السؤال قد اتضح اجمالا من خلال الاجابة عن السؤال السابق، لكن من
الضروري هـنـا الـبـحث عن جواب اوسع، فنقول: نعم ان التكامل موجود هناك قطعا ولا
يبقى اهل الجنة في امـاكـنـهـم في حالة من السكون والمراوحة،بل هم يقتربون ـ بفضل
اللّه ولطفه ورحمته ـ نحو ساحة قدسه يوما بعد يوم،ويواصلون سيرهم في التقدم صوب
القرب الى اللّه.
ولـيـس مـفهوم هذا الكلام وجود العبادات والطاعات والاعمال هناك، لان الجنة ليست
دار التكليف فـالـمـقـومـات الاولية للتكليف معدومة هناك، بل هم يواصلون مسيرتهم
التكاملية في ظل اعمالهم الـمـنـجـزة فـي الدنيا تماما كالاشجارالمثمرة التي يغرسها
الانسان مرة واحدة، فتمتد جذورها وتخرج منها فروع واغصان هنا وهناك حتى تعم السهول
والصحارى، او كسفينة الفضا التي تحتاج فـي بـداية انطلاقها وخروجها عن مجال جاذبية
الارض الى طاقة عظيمة، ولكنها بعد الخروج من هذا المجال تواصل حركتها ـ اذا لم
تصطدم بمانع ـ من غير حاجة الى اي وقود جديد.
وهـنـاك آيـات قـرآنية تشير الى هذه القضية، كما هو الحال في الاية (62) من سورة
مريم التي تتحدث عن اصحاب الجنة:
﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾.
ويتضح جليا من خلال الايات السابقة لهذه الاية بان هذا الوصف ينطبق على جنة الاخرة
التي عبرت عنها بكلمة (جنات عدن ) لا على جنة البرزخ وهنا يتبادر السؤال الى
الاذهان وهو اذا كانت الايات الـشـريـفـة تـشـير الى ان اهل الجنة لهم فيها ما
يشتهون في اي وقت وزمان، فما هي هذه العطايا والفضائل التي تمنح لهم في كل بكرة
وعشي؟
مـن الـمـؤكد انها فضائل وارزاق مادية ومعنوية تقدم لهم في هذه الاوقات،اضافة الى
رفعهم نحو درجات اسمى واعلى.
وورد حديث عن النبي يلقي الضؤ على هذا الموضوع يقول فيه: "وتاتيهم طرف الهدايا من
اللّه تـعالى لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدني، تسلم عليهم الملائكة
".
وهنا يـثـار سؤال آخر تفرزه تعابير الاية فحينما لاوجود لليل ونهار في الجنة فكيف
تكون هناك بكرة وعشيا؟
ويمكن الاجابة عن هذا السؤال كما ياتي:
ان الجنة وان كانت مضيئة بالنور دائما الا ان ذلك ليس على وتيرة واحدة على الدوام
بل هو في حالة توهج وخفوت يتيح لاهل الجنة تحديد الليل من النهارتماما مثل المناطق
القطبية التي تمر عليها ستة اشـهـر كـامـلة والوقت فيها نهار، الا انه يمكن تحديد
الليل والنهار من خلال زيادة ونقصان درجة النور.
وبـالـنظر لاستعصا هاتين القضيتين (قضية الرزق الجديد وقضية البكرة والعشي ) على
الكثير من الـمـفسرين، فقد طرحوا بشانها آرا وتبريرات متعددة تتعارض في الغالب مع
ظاهر الاية ككونها كـناية عن دوام النعمة، حيث كان من المتعارف بين العرب ان من
يملك طعام الصباح والمسا (البكرة والـعـشـي ) يـعتبرغني، او ان النعم الالهية
تاتيهم متوالية وبفواصل زمنية تعادل الليل والنهار في هذه الدنيا.
ومـن الـواضـح ان جميع هذه الارا تخالف ظاهر الاية اليس من الافضل القول بوجود نوع
من الليل والـنهار الحاصلين من خلال اشتداد وانخفاض درجة الضياء ووجود نوع من الرزق
مستمد من فضل اللّه والطافه ومبشر بطي مسيرة التكامل، بحيث ينطبق مع ظاهر الاية
اولا يتعارض معه كثيرا؟ وهـناك حديث نقل عن النبي انه قال: "والذي انزل الكتاب على
محمد ان اهل الجنة ليزدادون جمالا وحسنا كما يزدادون في الدنيا قباحة وهرما".
وهـذا الـحـديث يظهر بوضوح التكامل التدريجي لاصحاب الجنة وان كانت فيه اشارة الى
الجوانب الجسمانية فقط، لكن من البديهي انه يتضمن ايضا الابعادالروحية من باب اولى
.
*نفحات قرأنية /6/ بحث الجنة / اية الله مكارم الشيرازي.
2015-02-01