يتم التحميل...

البركات المعنوية والأخروية للجهاد

باب الأولياء

إنّ لمفهوم الحياة مراتب عديدة، تبدأ بالحياة الدنيوية وتُختم بالحياة الأخروية للإنسان. وتقع الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الحياة الأخروية في درجة متدنّية جدّاً إلى الحدّ الذي وصفها القرآن المجيد في آياته - قياساً إلى الحياة الأخروية - باللهو واللعب،

عدد الزوار: 233

الموعظة القرآنية:

قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ1.

للجهاد مجموعة من الآثار المعنوية والأخروية، فيما يلي نذكر نبذة عنها:

الحياة الحقيقية

إنّ لمفهوم الحياة مراتب عديدة، تبدأ بالحياة الدنيوية وتُختم بالحياة الأخروية للإنسان. وتقع الحياة الدنيوية بالنسبة إلى الحياة الأخروية في درجة متدنّية جدّاً إلى الحدّ الذي وصفها القرآن المجيد في آياته - قياساً إلى الحياة الأخروية - باللهو واللعب، مشيراً إلى أنّ الحياة المطلقة والحقيقية هي الحياة الآخرة. يقول تعالى: ﴿وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ2.

وقـوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ3.

وقوله تعالى أيضاً: ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ4.

فلم يكن الهدف من إرسال الأنبياء عليهم السلام ونزول الكتب السماوية والشرائع الإلهية سوى العمل على جعل الحياة الدنيوية للإنسان حياة أخروية، ليستفيد من نعيمها ويتمتّع ببركاتها.

ومن جملة الآيات التي تدعو الإنسان إلى هذا الأمر المهم، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ...5.

وعلى الرغم من أنّ هذه الآية مطلقة، ويستفادُ منها أنّ إجابة الله والرسول في قبول كلّ المعتقدات السماوية والعمل بجميع التعاليم والأحكام يؤدّي إلى حياة الإنسان وعيشه عيش الآخرة، إلاّ أنّ وجودها بين آيات الجهاد يجعلها ناظرة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ المؤمنين يوصلون أنفسهم إلى نبع الحياة الخالدة في حال استجابوا لدعوة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم للجهاد في سبيل الله والتزموا بأحكامه. وهذه الاستجابة وحدها هي التي سترتقي بهم بعيداً عن هذه الحياة الدنيا، وتربطهم بالأحياء الحقيقيين.

ولعل الحديث الذي نُقل عن الإمام علي عليه السلام بهذا الشأن ناظر إلى هذا المعنى، حيث قال عليه السلام: "المجاهدون تُفتّح لهم أبوابُ السماء"6، فلفظ "أبواب السماء" يشير من ناحية إلى علوّ المنزلة والمقام الذي يحوزه المجاهدون، والى الحياة المعنوية الخالدة من ناحية أخرى.

وعنه أيضاً عليه السلام: "ألا وإنّه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلاً، وأقبل منها ما كان مدبراً، وأزمعَ التِّرحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى، ما ضرّ إخواننا الذين سُفِكت دماؤهم بصفّين ألا يكونوا اليوم أحياء... أين إخواني الذين ركبوا الطريق، ومضوا على الحق؟!... الذين تعاقدوا على المنية، وأبرد برؤوسهم إلى الفجرة"7.

النجاة من العذاب

لقد عبّر القرآن المجيد عن الجهاد في سبيل الله بتعبير التجارة المنجّية، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ8.

وحول هذا الأمر، يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يَجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانٌ في جهنّم"9.

غفران الذنوب

يُعدّ شمول الوعد الإلهي بغفران الذنوب للمجاهدين، أحد آثار الجهاد في سبيل الله، حيث يفيض سبحانه عليهم هذه النعمة الكبرى. ويشير القرآن المجيد إلى هذه الحقيقة، في قوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ10.

والسرّ وراء هكذا إكرام، يكمن في أنّ المجاهد بمجرّد وضعِ قدمه في ساحة الحرب، يكون قد أعرض عن الدنيا وزخارفها، ووضع نصب عينيه تهذيب النفس وإصلاحها، والوصول إلى المقامات المعنوية السامية، حيث تتكامل روحه في أجواءالقتال والجبهة، ويقع مورداً لعناية الله تعالى ولطفه. بل ليس تغفر ذنوبه الماضية فحسب، بل يتشكّل في باطنه استعداد أعلى يمنعه عن ارتكاب المعاصي.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل الله إلا الدَين، فإنّه لا كفارة له إلا أداؤه، أو يقضي صاحبه، أو يعفو الذي له الحقّ"11.

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "من قُتِلَ في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته"12.

عدم الافتتان في القبر

فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من لقي العدو فصبر حتى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"13.

وعنه أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم لمّا سُئل عن عدم افتتان الشهيد في القبر: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة"14.

الفوز بالجنّة

إنّ الجنّة محلّ ضيافة الله تبارك وتعالى لعباده الصالحين وأحبائه المقرّبين، أولئك الذين قدّموا إرادة الحبيب في الدنيا على أهوائهم، والتزموا طاعته وعملوا بأوامره.

والمجاهدون هم الفئة الأبرز من بين عباد الله الصالحين هؤلاء، إذ إنّهم قد ترفّعوا عن أرواحهم وأموالهم وكل وجودهم، وقدّموها رخيصة للحبيب. فبهجرتهم وجهادهم نصروا دين الله، وبسيوفهم فتحوا أقفال الجنّة، كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "السيوف مفاتيح الجنّة"15.

وفي هذا بيان لما وعد الله تعالى به المجاهدين في القرآن الكريم حيث قال: ﴿...وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ16.

مجاورة الربّ

يسعى المؤمنون عن طريق الجدّ والالتزام الدائم بأداء العبادات وترك المعاصي نحو الوصول إلى محضر الحقّ عزّ وجل، وهم يتحمّلون لذلك مصاعب جمّة. إلا أنّ وجود العلائق يدعو الإنسان بشكل متواصل إلى عالم الدنيا المادّي، ويمنعه من السير إلى الله سبحانه.

ومن بين الواجبات الإسلامية، يتمتّع الجهاد بخاصّيّة فريدة تُمكّنه من قطع تعلّقات الإنسان، نظراً للشدائد في الحرب ومواجهة العدو. فهو يجعل من المجاهد حقّاً شخصاً يتوجّه إلى مبدأ القدرة، ويتوكّل على الله، ويُدنيه من مقام القرب الإلهي.

فبعد أن يأمر القرآن المجيد المؤمنين بابتغاء الوسيلة للتقرّب من الله، يأتي على ذكر الجهاد مباشرة، وفي ذلك إشارة إلى عظمة الجهاد وأثره في تحقيق هذا القرب. حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ17.

وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذا الموضوع أيضاً، فقال: "أيها الناسُ استعدّوا لقتالِ عدوّ في جهادهِم القربةُ إلى الله عزّ وجل ودركُ الوسيلة عنده"18.

* كتاب باب الأولياء، سلسلة الدروس الثقافية، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة التوبة، الآيات 20 - 22.
2- سورة العنكبوت، الآية64.
3- سورة آل عمران، الآية 169.
4- سورة البقرة، الآية 154.
5- سورة الأنفال، الآية 24.
6- الآمدي، عبد الواحد بن محمد تميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، انتشارات دفتر تبليغات اسلامي، قم، 1366هـ.ش، ح1347.
7- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، مؤسّسة إسماعيليان، ج10، ص99.
8- سورة الصف، الآيتان 10 و11.
9- مستدرك الوسائل، ج11، ص13.
10- سورة الصف، الآية 12.
11- العروسي الحويزي، الشيخ عبد علي بن جمعة، تفسير نور الثقلين، صححه وعلق عليه أشرف على طبعه الحاج السيد هاشم الرسولي المحلاتي، مؤسسة اسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع، قم - إيران، ج1، ح402، ص517.
12- وسائل الشيعة، ج15، باب 1 من أبواب الجهاد، ح19، ص16.
13- المتقي الهندي، كنز العمال، الطبعة: 1989م – 1409هـ، مؤسسة الرسالة – بيروت، لبنان، ح10662.
14- م. ن، ح10662.
15- مستدركُ الوسائل، ج11، ح12293، ص13.
16- سورة الصف، الآية 12.
17- سورة المائدة، الآية 35.
18- شرح نهج البلاغة، ج2، ص194.

2015-01-10