الرسول القدوة
الهجرة النبوية
"فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله) فإنَّ فيه أُسوَةً لمن تأسَّى وعزاءً لمن تعزَّى، وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيّه..
عدد الزوار: 420بسم الله الرحمن الرحيم
من كلامٍ لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) يصف النبي (صلى الله
عليه وآله) الأسوة والقدوة الحسنة.
"فتأسَّ بنبيِّك الأطيب الأطهر (صلى الله عليه وآله) فإنَّ فيه أُسوَةً لمن تأسَّى
وعزاءً لمن تعزَّى، وأحبُّ العباد إلى الله المتأسِّي بنبيّه..
ولقد كان يأكلُ على الأرض ويجلسُ جلسَةَ العبدِ ويخصِفُ بيده نعلَهُ ويرقع ثوبَهُ
ويركبُ الحمار العاري...
فأعرَضَ عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها من نفسه وأحبَّ أن تغيب زينتها عن عينيهِ..
ولقد كان في رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما يدُلُّكَ على مساوئِ الدنيا
وعيوبِها إذ جاع فيها مع خاصَّتِهِ وزُوِيت عنه زخارفها مع عظيم زُلْفَتِهِ.
كيف نقتدي بالنبي (صلى الله عليه وآله)؟
كان النبي (صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى في سائر نواحي الكمال، اصطفاه الله
تعالى واختاره من العباد، وخصّه بأرفع الصفات والكمالات التي جعلها مع سائر
الأنبياء (صلوات الله عليهم)، ووصفه القرآن الكريم بما لم يصف به أحد من الأنبياء
بقوله تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ
عَظِيمٍ﴾1.
وقد دعانا الباري عزّ وجل إلى محبّته وطاعته وموالاته والاقتداء به والتعامل معه
على قاعدة كونه الأسوة الحسنة بقوله تعالى:
﴿لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ﴾2.
فشخصية النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) نالت القدر الأوفى من كلّ الشمائل الحسنة
والخلال النبيلة، والقيم الإنسانية العليا، وكان صلوات الله عليه يفيض رحمة في
خُلُقه وسلوكه وأدبه وشمائله، فقال تعالى فيه:
﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ
رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾3.
كل هذه المواصفات توجب على المؤمن بنبوّته، وكل من يدّعي المحبّة له، أن يتابعه
ويقتدي به في جميع جوانب حياهت سواء كانت الحياة الشخصية الفردية لأنه الصادق الذي
لا ينطق عن الهوى، وكذلك في الحياة الاجتماعية لأنه بُعث للناس كافة، ورحمة
للعالمين. ولا تصدق دعوى المحبّة له إلّا باتّباعه وسلوك نهجه وسبيله، فمن لم يكن
من أخلاقه وسيرته (صلى الله عليه وآله) نصيب، لم يكن له من المحبّة نصيب، ومن سلك
طريقه وتابعه في جميع أقواله وأفعاله فقد صدق في المحبة له.
وتتجلّى عملية الاقتداء بالنبي (صلى الله عليه وآله) بأمور عديدة، منها:
أولاً: الاقتداء بسلوكه الشخصي:
فالسلوك الشخصي للنبي (صلى الله عليه وآله) لوحة ترتسم أمام ناظر المؤمن يقتبس منها
كيفية السير في الحياة الدنيا، ومنهجاً يسلكه في حياته لتنعكس سلوكيات النبي (صلى
الله عليه وآله) في سلوكياته الفردية.
أ. زهد النبي (صلى الله عليه وآله): ونتلمس ذلك من خلال الاطلاع على نوعية طعامه
وكيفيته، وسلوكه ومسكنه وممتلكاته الدنيوية.
فأمّا طعامه: فقد روى العيص بن قاسم قال: قلت للصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام):
حديث يروى عن أبيك (صلى الله عليه وآله) أنه قال: "ما شبع رسول الله (صلى الله عليه
وآله) من خبز برّ قط"، أهو صحيح؟
فقال (عليه السلام): "لا، ما أكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خبر برّ قط،
ولا شبع من خبز شعير قط"4.
وأما لباسه: فتقول إحدى زوجاته: "ما اتّخذ من شيء زوجين، لا قميصين، ولا رداءين،
ولا من النعال، وكثيراً ما كان يلبس المرقّع من الثياب"5.
وأما مسكنه: فيروي أمير المؤمنين (عليه السلام) فيقول: " كان فراش رسول الله (صلى
الله عليه وآله) عباءة.. وكان كثيراً ما يتوسّد وسادة له من أدم حشوها ليف، ويجلس
عليها.. وكان له بساط من شعر يجلس عليه"6.
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
"إنّ رجلاً من الأنصار أهدى إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) صاعاً من رطب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
للخادمة التي جاءت به: أُدخلي فانظري هل تجدين في البيت قصعة أو طبقاً فتأتين به؟
فدخلت ثم خرجت إليه فقالت: ما أصبت قصعة ولا طبقاً، فكنس رسول الله (صلى الله عليه
وآله) بثوبه مكاناً من الأرض ثم قال لها: ضعيه هاهنا على الحضيض! ثم قال: والذي
نفسي بيده لو كانت الدنيا تعدل عند الله مثقال جناح بعوضة ما أعطى كافراً ولا
منافقاً منها شيئاً"7.
ب. علاقته بالدنيا: قال (صلى الله عليه وآله):
"عرض عليّ ربّي ليجعل لي بطحاء مكة
ذهباً، قلت: لا يا ربّ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك
وإذا شبعت شكرتك وحمدتك"8. وفي ذلك يقول الإمام علي (عليه السلام):
"عُرضت عليه
الدنيا فأبى أن يقبلها، وعلم أنّ الله سبحانه أبغض شيئاً فأبغضه"9.
ج. عبادته وخوفه من الله تعالى: كان النبي محمد (صلى الله عليه وآله) النموذج
الأرقى والمثل الأعلى في الانقطاع إلى الله تعالى وعبادته حتى بلغ الحال به أن نظر
إليه الباري عزّ وجلّ نظرة رحيمة عندما رآه يجهد نفسه في العبادة، فعن الإمام
الباقر (عليه السلام) قال: "وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقوم على أطراف
أصابع رجله فأنزل الله سبحانه وتعالى:
﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى﴾"10.
ثانياً: الاقتداء بسلوكه الاجتماعي:
وهذا السلوك هو من الجوانب المضيئة التي ينبغي علينا جميعاً الاستضاءة والاستفادة
منها في ما تحمله من سموّ على مستوى العلاقات التي تحكم الإنسان بالآخرين.
فالنبي (صلى الله عليه وآله) فضلاً عن كونه الإنسان المعصوم الذي يوحى إليه، فقد
كان ذاك الإنسان الذي يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق كأي واحد من أفراد البشر
العاديين، وهذا ما يفرض وجود منظومة من القوانين التي تحكم كيفية ارتباطه بالناس
وعلاقته بهم.
وبقدر ما تسمح لنا هذه الصفات سوف نشير إلى بعض التجليات في سلوكياته الاجتماعية،
ومنها:
أ. حديثه وكلامه: كان حديث النبي (صلى الله عليه وآله) ومنطقه يوسف بأنه أحسن
الحديث والمنطق، فلم يكن صلوات الله عليه سباباً ولا فحاشاً، وكان إذا حدّث بحديث،
تبسّم في حديثه، وكان يكلّم الناس على قدر عقولهم.
ب. تواضعه: فمن علامات تواضعه أنّه كان يبدأ بالسلام على الناس، وينصرف إلى محدّثه
بكلّه: الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكان آخر من يسحب يده إذا صافح، وإذا أقبل
جلس حيث ينتهي به المجلس، وكان يذهب إلى السوق ويحمل بضاعته بنفسه، ولم يستكبر عن
المساهمة في أيّ عمل يقوم به أصحابه وجنده، فقد ساهم في بناء المسجد في المدينة،
وعمل في حفر الخندق في غزوة الأحزاب، وشارك أصحابه في جمع الحطب في أحد سفرائه.
ويصفه أبو ذر الغفاري قائلاً: "كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجلس بين ظهرانيّ
أصحابه، فيجيء الغريب فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلبنا إليه أن يجعل مجلساً
يعرفه الغريب إذا أتاه".
ج. حلمه وعفوه: فمدرسة هي التي تدعو إلى ضرورة التحلّم والعفو والصفح، والدافع
بالتي هي أحسن، فالحلم والعفو ليسا من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، بل من سمات
النبل، وسموّ الخلق.
وفي تاريخ السيرة النبوية بعض من كان يستحق القتل واستباحة الدم، ولكن النبي (صلى
الله عليه وآله) يعفو عنهم لمجرد أنهم يأتون إليه طالبين العفو، وعفى عن وحشي قاتل
عمه الحمزة عندما أعلن إسلامه.
وتجلّى العفو عنده (صلى الله عليه وآله) يوم فتح مكة، فبالرغم من القسوة والوحشية
اللتين عومل بهما من صناديد قريش في الفترة الأولى من الدعوة الإسلامية فإنه (صلى
الله عليه وآله) عفى عن أهل مكة يوم الفتح ووقف منهم موقفاً رحيماً بالرغم من كل
المعاناة والعذاب والآلام وأنواع الأذى الذي صبّته قريش عليه وعلى المسلمين قبل
الهجرة وبعدها. فقد وقف (صلى الله عليه وآله) على باب الكعبة بعد الفتح مخاطباً أهل
مكة: "ما ترون أنّي فاعل بكم"؟
قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.
قال (صلى الله عليه وآله): "فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم
يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وعندما قال أحد أصحابه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تُسبى الحرمة.
قال (صلى الله عليه وآله): "اليوم يوم المرحمة، اليوم تراعى الحرمة"11.
هذه الخصال وغيرها ما هي إلّا أخلاق القرآن الكريم، وأخلاق النبوة التي أراد لنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نقتبس منها ونهتدي بها ونسير على هديها، فيكون
النبي (صلى الله عليه وآله) القدوة والأسوة الحسنة وبذلك نحصل على المقامات العظيمة
التي قدّمها الله تعالى لعباده الصالحين والتي منها مقام الشفاعة. وفي ذلك يقول (صلى
الله عليه وآله): "أشفع لأمّتي حتى يناديني ربّي: أرضيت يا محمد؟ فأقول: نعم يا رب
رضيت"12.
* سماحة الشيخ خليل رزق
1- سورة القلم: 4.
2- سورة الأحزاب: 21.
3- التوبة: 128.
4- الأمالي، الشيخ الصدوق: 398.
5- سنن النبي، السيد الطباطبائي: 226.
6- بحار الأنوار، المجلسي: 16/252.
7- المصدر نفسه: 16/284.
8- سنن الترمذي: 4/518/ ح2377.
9- نهج البلاغة، الخطبة: 158.
10- أصول الكافي، الكليني: 5/6؛ سورة طه: 1 – 2.
11- الأنوار العلوية، الشيخ جعفر النقدي: 201.
12- الميزان في تفسير القرآن، السيد الطباطبائي: 20/308.