دور العقل في الاجتهاد
فكر الشهيد مطهري
في الفترة الزمنيّة التي تلت عصر الغيبة، وحيث كان العلماء قريبي عهد بعصر المعصوم عصر النص ، كان الفقهاء، أمثال الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد، يبذلون جهدهم في نقل الأحاديث فحسب، في المجال الفقهي،
عدد الزوار: 113
الفقه بُعَيد عصر
الغيبة
في الفترة الزمنيّة التي تلت عصر الغيبة، وحيث كان العلماء قريبي عهد بعصر المعصوم
عصر النص ، كان الفقهاء، أمثال الشيخ الصدوق وأستاذه ابن الوليد، يبذلون جهدهم في
نقل الأحاديث فحسب، في المجال الفقهي، بل حتى في علم الكلام كانت طريقة هؤلاء
الفقهاء نقل الأحاديث فقط، فطرق الاستدلال والأصول لم تكن قد اتضحت معالمها بشكل
واضح وبيّن، ولم تُرتّب عليها الفروع.
لذا كان السيد المرتضى والشيخ الطوسي وابن إدريس يعبّرون عن هؤلاء الفقهاء
بالمقلِّدة أو "أصحاب الحديث من أصحابنا" ووصفهم العلامة الحلي بأنهم "الاِخباريون
من أصحابنا".
تطوُّر طرق الاِستدلال
بعد فترة من الزمن لم تعد هذه الوسيلة ناجعة حيث بَعُد الفقهاء عن عصر النصّ،
وتشعّبت الفروع، بل أصبحت تلك الطريقة الأوليّة موضع انتقاد من علماء العامّة،
الذين كانوا يعتقدون بأنّ فقههم وطريقة اجتهادهم هي الحلّ الوحيد القادر على مواكبة
الزمان ومسائله:
يقول الشيخ الطوسي 1: "أما بعد، فإني لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من
المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع يستحقرون فقه أصحابنا الاِمامية، وينسبونهم إلى
قلّة الفروع وقلّة المسائل ويقولون إنّهم أهل حشو ومناقضة، وإنّ من ينفي القياس
والاِجتهاد لا طريق له إلى كثرة المسائل، (...) وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوّق
النفس إلى عمل كتاب يشتمل على ذلك وتتوق نفسي إليه فيقطعني عن ذلك القواطع وتشغلني
الشواغل، وتضعِّف نيَّتي أيضاً منه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه، وترك عنايتهم به،
لأنّهم أَلِفُوا الأخبار وما رووه من صريح الألفاظ، حتى أنّ مسألة لو غُيِّر لفظها
وعُبِّرَ عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم لعجبوا منها وقصر فهمهم عنها"
2.
دعت هذه الأمور المستجدّة علماء الشيعة إلى تطوير طرق الاستدلال، وظهر
الاجتهاد الحقيقيّ، وبدأ العمل على تحديد معالمه بما يتناسب مع العصر دون أن يخرج
عن تعاليم الشريعة وأهل البيت عليهم السلام .
ومن الأمور التي كان لا بدّ أن تحدّد وتوضّح: دور العقل في الاجتهاد
العقل والقياس عند الشيعة
اعترف فقهاء الإمامية بدور العقل في الإجتهاد وإدراك بعض الأحكام، وإنما رفضوا خصوص
القياس بالمعنى القديم، أي إعمال الرأي.
ولم يبتنِ رفض فقهاء الشيعة للقياس والعمل بالرأي على مسألة تعصبيّة، وأنّه من صنع
أهل السنة، وإنما كان رفضهم للقياس تابع للدليل العلمي:
الأول: عدم الحاجة إلى القياس في الاِستنباط، لأنّ فكرة القياس كانت تبتني
على دعوى قِلَّة الأحكام من جهة وكَثرةِ الحوادث من جهة أخرى، فاحتاجوا إلى إعمال
القياس، وهذه الدعوى باطلة عند الشيعة لما أكَّد عليه أهل البيت عليهم السلام مراراً:
من كفاية كليات الكتاب والسنة لجميع الموارد.
الثاني: لا يصح الاِعتماد على القياس لأنه أمر ظني يكثر فيه الخطأ.
الثالث: رفض العمل بالرأي أو القياس لا يعني رفض العقل ودوره، لأن القياس لا
يساوي العقل، وإنما رفض فقهاء الشيعة القياس بمعناه القديم، أي إعمال الرأي 3،لا
دور العقل مطلقاً. ومما يدل على قبول الشيعة لدور العقل في الفقه أمور:
أولاً: عدُّهم العقل من مصادر التشريع حيث اتفقوا على أنها أربعة: الكتاب
والسنّة والإجماع والعقل.
ثانياً: قبولهم لنظرية المعتزلة بشأن الحسن والقبح الذاتيين، ودفاعهم عنها
كدفاعهم عن العدل الإلهي، حتى أطلق على فرقتي الشيعة والمعتزلة "العدلية" بل بالغ
الشيعة في تبني هذه النظرية حتى عُرِفَت باسمهم.
ثالثاً: اعتبارهم أنّ العدل أصل من أصول مذهبهم، ولا يخفى أنّ مسألة العدل
تابعة للقول باستقلال العقل في إدراك الحسن والقبح الذاتيين.
رابعاً: قولهم: "إنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع"، يعني أن
الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد وليست تعبدية محضة.
ظهور الحركة الإخبارية
برزت في الساحة الشيعية قبل أربعة قرون تقريبا الحركة الإخبارية على يد مؤسسها
السيد أمين الاسترابادي 4. وهي عبارة عن حركة تدعو إلى التَّعبُّد
والتسليم بالأخبار والأحاديث الواردة وإنكار كلّ قيمة اعتبارية للعقل، لكن
الإخباريون يدّعون أنّ حركتهم ليست بجديدة ولا هي من إبداع الملا أمين، إنما هي
امتداد
وإحياء لطريقة القدماء وأهل الحديث، الذين عاصروا أئمة أهل البيت عليهم السلام أو
قاربوا عصرهم كالشيخ الصدوق قدس سره وأمثاله، لكنّ انحراف الناس باتِّباع أقوال
ابن عقيل العماني والشيخ المفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي 5
وأمثالهم، أبْعَدَهُم عن الطريق المستقيم.
وينقل الشيخ يوسف البحراني وهو أخباري معتدل عن السيد نعمة الله الجزائري: "إنّ
أكثر أصحابنا قد اتّبعوا جماعة من المخالفين، من أهل الرأي والقياس، ومن أهل
الطبيعة والفلاسفة وغيرهم من الذين اعتمدوا على العقول واستدلالاتها، وطرحوا ما جاء
به الأنبياء عليهم السلام حيث لم يأتِ على وفق عقولهم..." 6.
ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فالإخبارية التي تقول بعدم حجية ظواهر القران، وعدم حجيّة
العقل وأمثال ذلك لم تكن في يوم من الأيام مدرسة لها أتباع، غاية الأمر أن حضور
الإمام بين القدماء وأهل الحديث، أو قربه من عصرهم، أغناهم عن اللجوء إلى الاِجتهاد
وردِّ الأصول إلى الفروع، فاقتصروا على سرد الروايات أو الإفتاء بمضمون الرواية.
أهم اراء الإخباريين
ويمكن تلخيص دعوى الإخباريين وارائهم في النقاط التالية:
1- إنكار ظهورات القران، فلا يمكن الإعتماد عليه، ودليلهُم: أنَّ القران لا يفهمُهُ
إلا من خُوطِب به وهُم النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت عليهم السلام ، فلا
يمكن الاعتماد على الكتاب من دون مراجعة الروايات وما ورد عنهم عليهم السلام ، فهم
وحدهم القادرون على تفسيره وتأويله.
2- إنكار قيمة العقل، بدليل أنه لا يمكن الاستدلال والاحتجاج به إلا في الأمور
الحسِّية أو القريبة من الحس كالرياضيات، وقد أورد الأمين الأسترابادي بحوثاً كثيرة
لإبطال حجية العقل، منكرا الاِجتهاد أيضا حتى بمعناه الجديد المقبول عند الشيعة
قائلاً: إنه بدعة في الدين، ولا يجوز لأحد أن يقلّد غير المعصوم.
3- إنكار الإجماع، لأنَّه بدعةٌ جاء من أهل السُّنة.
فلا يسْلَم عندهم من المصادر الأربعة للشريعة "الكتاب والسنة والعقل والإجماع"
إلا السنّة وهي: "الروايات والأخبار الواردة عن النبي وأهل بيته عليهم السلام ".
4- كما أنّهم يعتقدون بصحَّة جميع الأخبار، خصوصاً الواردة في الكتب الأربعة "الكافي
للشيخ الكُلَيْني (329 هـ ) ، التهذيب والإستبصار للشيخ الطوسي (460 هـ)، من لا
يحضره الفقيه للشيخ الصَّدُوق (381 هـ) "، واعتبروها قطعية الصدور عن المعصوم
عليه السلام .
وهاجم الملا أمين العلامةَ بعنف لأنه قسَّم الخبر إلى أقسام أربعة: الصحيح والحسن
وموثوق الصدور والضعيف.
مخالفة الأسترابادي لدور العقل
عمل الأسترابادي جاهداً على إبطال حجيّة العقل، وادعى أنه بدعة كالاِجتهاد، ورفض
تقسيم الأخبار وتوثيق الرجال وتضعيفهم، لأنّ هذه الأبحاث كالقياس وغيره معتمدة على
العقل، وبهذا ألغى دور العقل في غير الأمور الحسيّة أو القريبة من الحس لأن العقل
كثيراً ما يخطئ فيها، فرفض أيّ قيمة للفلسفة الأولى والعلم الإلهي، لأنه يعتمد على
العقل، وحصر بذلك حجية العقل وقيمته في موردين:
الأول: العلوم الطبيعية ذات المبادئ والمقدمات الحسيّة.
الثاني: في ما يقرب منها كعلوم الرياضيات والهندسة.
بهذه النظرة شابَهَ الأسترابادي كثيراً نظرية الماديين الغربيين الذين ظهروا في
أوروبا بعد القرن السادس عشر الميلادي، ومن الملفت أنّه كان يعيش في تلك الفترة،
وإن لم يتضح لنا هل ابتدع نظريته أو أخذها من الغرب 7؟.
مأساة خلَّفها الإخباريون
كان لظهور هذه الحركة اثاراً سلبية على التشيّع، فقدت أدّت إلى:
1- الإستهانة بالعقل والاستدلالات العقلية، وتحريم التفكير في القران.
2- جعل الحديث مقياساً للقران، بدلاً من أن يجعلوا القران مقياساً للحديث.
3- استهداف حجيّة ظواهر القران والطعن فيها بدعوى حماية الحديث والتمسّك به.
4- تقسيم الإمامية إلى فرقتين، مما سوّغ للبعض أن يصف الإمامية بالانقسام فقال: "ثمّ
لمّا اختلفت الروايات عن أئمتهم وتمادى الزمان اختارت كلّ فرقة طريقة، وصارت
الاِمامية بعضها معتزلة إمّا وعيدية وإما تفضيلية، وإخباريّة إما مشبهة وإما سلفيّة"
8.
5- إبطال أكثر مصادر التشريع، وعدم القبول إلا السنّة المتمثلة بالأحاديث الواردة
عن أهل البيت عليهم السلام .
6- محاربة الإجتهاد وإعمال النظر محاربةً عنيفةً وبإصرارٍ عجيب.
7- تحريم التقليد لغير المعصوم النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام
بل على الناس أن يرجعوا إلى الروايات مباشرة.
8- إنكار دور المجتهد كواسطة فيما يتعلّق بالحكم الشرعي.
9- الجمود على حرفيَّةِ النصوص الشرعيَّة بألفاظها وسيأتي بيان ذلك 9.
10- لا يرون أي قيمة للتواتر وذلك لعدم وروده في أيّ رواية أو نصّ شرعي.
نماذج من الجمود الفكري عند الإخباريين
وقد يستغرب البعض من أفكار الحركة الإخبارية، لكن الوقوف على بعض النماذج من جمودها
الفكري يؤكّد سلبية الاثار التي منيت به الشيعة جراء هذه الحركة، وهذه بعض الأفكار
التي روَّجوا لها وعملوا بها:
أ- فقد تعبّدوا بكلّ شيء ورد في الروايات، حتى أنّهم كانوا يأمرون بكتابة
الشهادتين على كفن كلّ ميّت بهذه العبارة: "إسماعيل يشهد أن لا إله إلا الله"
ولا يكتبون اسم الميِّت المعروف به، وما ذلك إلا لأنّ الإمام جعفر الصادق عليه
السلام كتب على كفن ولده إسماعيل تلك العبارة.
ب- إذا ورد حكم لمناسبةٍ مّا ثمّ َزالت تلك المناسبة فإنهم يُبقون الحكم كما هو حتى
وإن كان بقاؤه مخالفاً للعرف والطبيعة وظروف الحياة المستجدَّة 10.
الوقوف بوجه الإخباريين
كان مسرح الصراع بين أقطاب المدرسة الأصولية من جهة والمدرسة الإخبارية من جهة
ثانية مدينة كربلاء المقدسة، فبما أنّ هذه الحركة كانت مضادَّةً للعقل، ومتميّزة
بالجمود والجفاف، تصدى لها أعلام المجتهدين في ذلك العصر من المدرسة الأصولية، وعلى
رأسهم الوحيد البهبهاني 1216 هـ ، وهو أصولي مقتدر، ثمّ َالشيخ الأنصاري 1281 هـ ،
وهو مشيِّد القواعد الأصولية حتى قال: لو أنّ الأمين الأسترابادي حياً لقنع بما
أقوله.
وقد كان أبرز أقطاب المدرسة الأخبارية انذاك متمثلاً بالشيخ يوسف البحراني 1186 هـ
، المعروف بالتقى والورع والاعتدال، وعلى عهده انتهى الصراع الفكري بالتسليم
للمجتهدين بالغلبة والصواب.
وانتقال عدد من طلاب 11 الشيخ يوسف "الإخباري" إلى حلقة درس البهبهاني "الأصولي"،
علماً أن هذا الصراع لم يكن سهلا البتة بعد أن انتشرت هذه الحركة وأصداؤها وطرق
تفكيرها بين الناس.
شواهد من الصراع الفكري
يرى الإخباريون أنّهم أهل التسليم للروايات ولأقوال المعصوم تعبداً، وأنّهم من
أصحاب "قال الصادق عليه السلام وقال الباقر عليه السلام "..."، وأنّ ذلك كمال
الإيمان.
ينقل الشيخ الأنصاري 12 أنهم يقولون: "هل يجوِّز أحدٌ أن يقف عبد من
عباد الله فيقال له: بما كنت تعمل في الأحكام الشرعية؟ فيقول: كنت أعمل بقول
المعصوم وأقتفي أثره وما ثبت من المعلوم، فإن اشتبه عليَّ شيء عملت بالاِحتياط،
أَفَيَزِلُّ قدم هذا العبد عن الصراط؟! ويقابل بالإهانة والاِحباط؟! فيؤمر به إلى
النار ويُحرم مرافقة الأبرار؟! هيهات هيهات أن يكون أهلُ التسامح والتساهل في الدين
في الجنة خالدين، وأهلُ الاحتياط في النار معذبين" 13.
وفي كلامهم المنمّق هذا، خلط بين قول المعصوم عليه السلام وبين ما ينسب إليه عليه
السلام ، وجمود على ظاهر كلامه عليه السلام دون الوصول إلى عمق ومغزى كلامه، ولذا
ردّ عليهم قادة الاجتهاد قائلين: "إنّنا أيضاً من أهل التسليم بكلام المعصوم
عليه السلام الحقيقي، لا بكلّ كلام لا يُميَّز فيه السقيم من السليم والصحيح من
الضعيف، ولا يُتدبّر في لبّ كلام المعصوم وروحه، وفي الحقيقة فعل الاِخباريين تسليم
بالجهالة لا بقول المعصوم عليه السلام "14.
لقد تمكَّن المجتهدون والأصوليّون من بيان الحق، وإبطال أدّلة الإخباريين، إلا أنّه
لم يزل هناك بعض أتباع هذه الحركة، بل لو دقّقنا النظر لوجدنا مواضع من فكرنا لا
يزال يحكمها الجمود الإخباري، أو تجتهد بعقلية إخبارية.
تبيين دور العقل واثاره
وخلاصة القول إنّ فقهاء الإمامية المتقدمين قد اعترفوا بدور العقل في الإجتهاد
وإدراك بعض الأحكام، ووقفوا بوجه من حاول الجمود وإغفال دور العقل، حيث أدركوا
أهميته والنفع الذي يعود على الفقه بواسطته، ووصلوا بذلك إلى نتائج باهرة.
وكان على المتأخرين منهم أن يتابعوا مسيرة القدامى ويفردوا باباً خاصاً باسم "العقل"
ودوره في إدراك الأحكام الشرعية، وإني أعتقد أنّ تركهم لهذا الأمر سبَّب شيئاً من
الضرر للفقه والاِجتهاد عندهم، ولو فتح الأصوليون باباً في أصولهم يُبحث فيه عن مدى
تدخل العقل وبطلان القياس 15 لوجدوا أنّ الدين يواكب متطلبات الحياة
والعصر، ولا يتنافى مع تقدم العصور وتكامل الحياة من دون حاجة إلى إعمال القياس أو
الرأي، فالمطلوب من العقل هو الإدراك السليم والقوي القادر على استخلاص رموز قوانين
الإسلام الكبير، الذي يمكن أن نطلق عليه اسم "رمز الاِجتهاد الكبير".
ولو فتحوا هذا الباب لفسدت كلّ الأساليب السطحية في الاِستدلال الفقهي الجامدة،
وانقرضت كانقراض الظاهرية والداوودية و...
الخلاصة
1- اعترف فقهاء الإمامية بدور العقل في الإجتهاد وإدراك بعض الأحكام، وإنما رفضوا
خصوص القياس بالمعنى القديم، أي إعمال الرأي، ولم يبتنِ رفض فقهاء الشيعة للقياس
والعمل بالرأي على مسألة تعصبية، وأنه من صنع أهل السنة، وإنما كان رفضهم للقياس
تابع للدليل العلمي.
2- يلعب العقل دوراً مهماً في مجال الفقه، ولو تمّ توضيحه وتبيين معالمه لتمكّن
الفقه الإسلامي من مواكبة العصر دون حاجة إلى إعمال القياس أو الرأي، ولبطلت كلّ
المذاهب السطحية والجامدة على أمور قشرية في الاستدلال.
3- نشأت الحركة الإخبارية في المذهب على يد الأمين الإسترابادي، وهو تيّار جامد ضرب
العقلَ وحجيّته بدعوى أنه كثير الخطأ، كما ضرب الإجماعَ بدعوى أنه بدعة، ونهى عن
التمسّك بظهورات القران الكريم، وحرّم التفكير في الأمور التي لم يبيّنها المعصوم .
4- تعبّد الإخباريون تعبداً ساذجاً بالسنّة والأحاديث الواردة عن أهل البيت عليهم
السلام ، وخلّف ذلك اثاراً سلبية في الاجتهاد عند الشيعة.
5- حارب الفقهاء والمجتهدون الواعون من المتأخرين هذا الاتجاه، وأبطلوه حتى انقرض
في زماننا هذا، إلا في بعض الأماكن ومن بعض الاجتهادات المتأثرة به.
* دور العقل في الاجتهاد, سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- الطوسي محمد بن
الحسن شيخ الطائفة الشيعية ومجددها في القرن الخامس، توفي عام 460هـ ، قدم خدمات
جليلة للتشيع، وواجه التيارات الأخرى، ومن أبرز كتبه التهذيب والإستبصار، وله كتاب
"عدة الأصول" فنّد فيه الاِجتهاد بمعناه القديم، وأفرد أبواباً خاصة لذلك كباب
القياس وباب الاِجتهاد وله كتب استدلالية ضخمة ككتابي الخلاف والمبسوط وكتب في
الرجال والعقائد وغيرها.
2- الطوسي محمد بن الحسن، المبسوط في المقدمة ج1، ص1، ط. المطبعة الحيدرية طهران.
3- وقد تعرّض الشهيد مطهري لمعاني الإجتهاد، ورد في بحث الإجتهاد من هذه السلسلة
فراجع.
4- هو محمد أمين الأسترابادي، من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، فقيه أخباري عرف
بالذكاء والتقى، قال عنه البحراني في اللؤلؤة: كان فاضلاً محققاً مدققاً ماهراً في
الأصوليين والحديث أخبارياً صلباً توفي (1034 هـ) اللؤلؤة ص217. ويبدو أن الملا
أمين كان ذكياً فطناً كثير المطالعة واعياً، وهذا الأمر مكّنه من تأسيس مدرسة وجلب
أتباع لها، له كتاب "الفوائد المدنية"، ناقش فيه المتكلمين والفلاسفة والحكماء
والفقهاء، مدعياً أنه وصل إلى أمور لم يسبقه إليها أحد من الأولين والاخرين.
5- هؤلاء كلهم اتبعوا طرق جديدة ومتطورة في الاستدلال تعتمد على تفريع الفروع عن
الأصول وهي طريقة المجتهدين من علماء الشيعة.
6- المحدث البحراني، الشيخ يوسف، الحدائق الناضرة ج1، ص 116.
7- ينقل الشهيد مطهري أنه حضر درس آية الله السيد البروجردي قدس سره "مرجع تقليد
وأستاذ الإمام الخميني قدس سره " في بلدة بروجرد وسمع منه أن فكرة الإخباريين جاءت
على أثر موجة الفكر المادي في أوروبا، وأشار إلى غفلة الإخباريين عن أن الماديين
ينكرون كل شيء غير محسوس، وبالتالي ينكرون التوحيد الذي هو ركن الدين، لكن عندما
انتقل السيد البروجردي إلى قم المقدسة وواصل التدريس ووصل إلى نفس البحث لم يتعرض
لذلك أبدا، وندم المطهري لمَ لم يسأل أستاذه عن حقيقة الأمر.
8- الشهرستاني الملل والنحل ج1، ص165
9- لمزيد من التفاصيل حول الإخباريين راجع "الفوائد المدنية" للأسترابادي و"مقدمة
وسائل الشيعة" للحرّ العاملي، و" هداية الأبرار" الشيخ حسين الكركي.
10- ومثال ذلك التحنّك، أي إرسال حنك عمامة الرأس من جهة الكتف اليمين وإمرارها من
تحت اللحية ورميها على الكتف اليسار، لا في حال الصلاة فقط، بل في كل الأحوال، وذلك
لأنه ورد: "الفرق بين المؤمنين والمشركين التلحّي"، دون ملاحظة عمل المشركين سابقاً
)الاقتعاط( أي وضع الحنك على الرأس، وأن الحديث كان في قبال المشركين، وأما اليوم
لم يعد هناك موضوع للحديث، بل إنّ وضع التحنّك قد يعدّ من لباس الشهرة المحرّم.
11- أمثال السيد بحر العلوم والسيد مهدي الشهرستاني والشيخ كاشف الغطاء، وقد قضى
على مباني الإخباريين العلامة الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه "فرائد الأصول" بحث
الأصول العملية البراءة.
12- الأنصاري الشيخ مرتضى، فرائد الأصول، مبحث البراءة ومبحث الاشتغال، وقد رد على
الإخباريين وحطّم أسطورتهم وشيّد القواعد الأصولية بشكل متين، الأمر الذي جعل كتابه
واحداً من أهم الكتب الدراسية.
13- الشيخ الأنصاري، مرتضى بن أمين، فرائد الأصول، ج1، ص111، نقلاً عن الوحيد
البهبهاني في الرسائل الأصولية ص377، وقيل إن القائل هو المحدث الإخباري نعمة الله
الجزائري.
14- وجدنا ما يشبه هذا الرّد في كتاب فرائد الأصول للأنصاري المصدر السابق.
15- إذ لا حاجة للقياس بعد قيام كليات الكتاب والسنة بكلّ ما يحتاجه المسلمون في كلّ
حياتهم الدينية.