عالم الغيب والشهادة
فكر الشهيد مطهري
قد يعترض بعض على هذا البحث بأنّه في عصر العلم والتجربة وبعد إخضاع كلّ شيء للحسّ والمشاهدة، ما معنى البحث عن الغيب والإمداد الغيبي وكلّ ما هو وراء عالم الطبيعة؟
عدد الزوار: 103
تمهيد
قد يعترض بعض على هذا البحث بأنّه في عصر العلم والتجربة وبعد إخضاع كلّ شيء للحسّ
والمشاهدة، ما معنى البحث عن الغيب والإمداد الغيبي وكلّ ما هو وراء عالم الطبيعة؟
بين العلم والغرور العلمي
والحقّ أنّ هذا الاعتراض ناشئ من الجهل بل هو أقبح منه، فإنّ الجمود والغرور
العلميّ أقبح من الجهل، والعالم الحقيقيّ هو الّذي يعترف بجهله،
﴿...وَمَا
أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً﴾1.
وفي نفس الوقت لا يقبل أيّ حقيقة ولا يُنكر أيّ دعوى إلّا بدليل، وأمّا إذا اكتفى
العالم بما لديه من معلومات وجمد على ما وصل إليه فهو الغرور بعينه وهو أقبح من
الجهل بكثير.
وحسّ التحقيق أكثر قداسة من العلم نفسه، وإنّما يعتبر العلم مقدّساً حينما يلازم
روح التحقيق واتّباع الدليل، وهذه الروح لا توجد إلّا في العالِم الّذي يعترف بنقصه
العلمي والثقافي، وفي الحديث حول تقسيم العلم:"العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه
شبراً شمخ بأنفه وظنّ أنّه هو، ومن نال منه الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنّه ما
ناله، وأمّا الثالث فهيهات لا يناله أحد"2.
فالّذي ينال الثاني يتواضع فكيف بالّذي ينال الشبر الثالث. والدِّين لم يكن أبداً
ضدّ العلم، بل على العكس كان محفِّزاً للعلم باتّجاه التحقيق باعتراف الكثير من
العلماء3، ولذلك نحن علينا أن نقبل عالم الغيب ـ إن قبلناه ـ والإمدادات
الغيبيّة بالدليل ونرفض ذلك ـ إن رفضناه ـ بالدليل.
ما هو الغيب؟
لقد ورد في القرآن الكريم كلّمة الغيب في قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...﴾4.
وقوله: ﴿وَعِندَهُ
مَفَاتِحُ الْغَيْبِ...﴾5.
وكذلك قوله تعالى:
﴿...عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...﴾6.
والمراد به هو الأمور الخفيّة والغائبة عن الحسّ.
وقد اصطلح الفلاسفة على عالم الطبيعة بعالم الشهادة، وعلى عالم الملكوت بعالم الغيب7.
عالم الشهادة
هو العالم الّذي نراه ونلمسه ونسمعه وكلّ ما له علاقة بالحواسّ، وهذا العالم لا
يحتاج في إثباته والإيمان به إلى دليل غير الحواس الخَمس، نعم إنّما يدور التحقيق
في هذا العالم للكشف عن حقائقه بشكل أوسع وأكبر.
عالم الغيب
هو العالم الّذي يغيب عن الحواس، ولا تكفي الحواس وحدها للكشف والتعرّف على هذا
العالم ومن ثمّ الإيمان به، وإنّما بحاجة إلى مساعدة العقل8، وإلى قوّة
أكثر خفاء لمشاهدة الغيب، وهي فهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الوليّ.
فالأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا ويكلَّفوا بإقناع الناس بوجود عالم الغيب
والاعتقاد به، وإنّما بعثوا لأجل أن يؤمن الناس به وبالإمدادات الغيبيَّة، فكانوا
همزة الوصل بين الناس والغيب وما يُفاض عنه وفق الشروط الخاصّة، ومن هنا كانت
لمسألة الغيب علاقة بالواقع العملي للإنسان.ومن هنا كان لمسألة الغيب علاقة بالواقع
العملي للإنسان.
ستار الغيب
ما هو ستار الغيب الّذي أسدل بيننا وبين الغيب؟
هل هو حجاب وستار مادّي أو أنّ التعابير المستعملة كنايات عن معنى ومفهوم، فقد
استعمل القرآن الكريم التعبير بالغطاء.
﴿..
َكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾9.
وكذلك ورد في القول المشهور المنسوب لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام:"لو كشف لي
الغطاء ما ازددت يقينا"10.
ومن المسلّم أنّ هذا الستار ليس ستاراً مادّياً محسوساً، وإنّما هي كنايات عن
حجاب المحدوديّة للحواس الّتي لا يتسنّى لها إدراك غير الأمور المحسوسة والمحدودة،
ولتوضيح هذا الستار بشكل أفضل ندخل في بحث:
المحدود واللامحدود
يمكن تقسيم الموجود بحسب القسمة العقليّة الحاصرة وهي الدائرة بين السلب والإثبات
إلى الموجود المحدود والموجود اللامحدود، ومن خلال معرفة المحدود نعرف اللامحدود،
وهذا ما يصطلح عليه (تعريف الشيء بضدّه أو بنقيضه)، ويستعمل هذا الأسلوب عندما لا
يمكن للحواسّ أن تتعرّف على الشيء.
المحدود: كلّ جسم يشغل حيِّزاً مكانيّاً فهو موجود فيه وغير موجود في غيره،
وإذا وجد في غيره فهو غير موجود في المكان السابق.
إذاًََ الجسم محدود بمكان خاصّ ولا يمكن له أن يتواجد في موضعين في نفس الوقت،
والكلام نفسه بالنسبة للزمان فهو موجود في هذا الزمان مثلا وغير موجود في الزمان
السابق أو اللاحق.إذاًَ الجسم محدود بزمان خاصّ أيضاً، وجميع الموجودات في عالم
الطبيعة الّتي ندركها بالحواس هي من هذا القبيل، أي هي محدودة بالزمان والمكان.
اللامحدود: وهو نقيض المحدود لأنّه كما قالوا في المنطق نقيض كلّ شيء رفعه
أو سلبه، فاللامحدود هو الموجود الّذي لا يحدّه الزمان ولا المكان.
وبتعبير آخر هو الّذي يشغل كلّ زمان ومكان ولا يخلو زمان ولا مكان منه، وبتعبير
ثالث هو الموجود المحيط بالزمان والمكان.
مثال توضيحي: عندما نسمع صوت الرعد مثلاً فإنّنا نلاحظ أنّ هذا الصوت يمتدّ
لثوان معدودة ثمّ ينقطع، فهذا الصوت لم يكن ثمّ كان ثمّ انقطع، وحاسّة السمع إنّما
تدرك هذه الأصوات المحدودة زماناً الّتي توجد تارة وتنعدم أخرى، ولكن لو فرض أنّ
هناك صوتاً ممتدّاً عبر الزمن كان وما زال ولا يزال مستمرّاً منذ الأزل وإلى الأبد،
فإنّ حاسّة السمع لا يمكن لها سماع هكذا صوت، لأنّه صوت غير محدود ونطاق عمل الحواس
هو الموجودات المحدودة لا غير.
ونفس الكلام يجري لو فرض موجود غير محدود بمكان فإنّ حاسّة البصر لا يمكن لها أن
تراه لأنّ مجال عملها هو الأجسام المحدودة المكانيّة.
تعرف الأشياء بأضدادها: إنّما نعرف النور لأنّ هناك ظلمة، فالنور قد يوجد
وقد لا يوجد فهو محدود بمكان وزمان.
أمّا لو كان غير محدود وكان النور شاسعاً مستمرّاً ولا وجود للظلمة عندها لا يمكن
لنا إدراك النور، وكان هذا الموجود، الّذي هو أظهر الأشياء وهو الظاهر بنفسه المظهر
لغيره من الأشياء، خافياً علينا.
وكذلك الله تعالى اسمه، فالعالم بأسره فيض من فيوضاته، وهو موجود في كلّ مكان
وزمان، ولكنّ شدّة ظهوره كانت سبب خفائه، فهو خفيّ لأنّه ليس له غياب فحيثيّة
الظهور والخفاء واحدة فيه11:
يا من اختفى لفرط نوره
الظاهر الباطن في ظهوره12
مثال السمكة: السمكة لا تُدرك الماء الّذي يحيط بها من كلّ جانب فلذلك هي لا
تعرف الماء، لكن عندما توضع على اليابسة (ضدّ الماء) تدرك معنى الماء وتشعر
بأهميّته بالنسبة لها، فتأخذ ترمي بنفسها باتجاه هدير الموج، فلولا اليابسة ما عرفت
معنى الماء ولولا الماء ما عرفنا نحن معنى اليابسة.
النتيجة
إذاً الغيب إنّما هو غيب بالنسبة لنا لقصور قدراتنا الحسّية عن التعلّق باللامحدود،
لا أنّه هناك حائل وحاجب بين قدراتنا الإدراكيّة والحسيّة وبين الغيب.
محدوديّة الحواس
لقد كتبت عدّة دراسات في العصر الحديث عن حدود الإدراكات ومداها، وأهمّها ما كتبه "عمانوئيل
كانْت" في كتابيه نقد العقل النظري ونقد العقل العملي، إلّا أنّ الفلاسفة
الإسلاميّين بحثوا ذلك بصورة أكمل وأدقّ13.
وقد تعرّض الشاعر الفارسي "مولوي" قبل قرون لفكرة قصور الحسّ البشريّ حيث ضرب
مثالاً لذلك في أبيات جميلة اشتهر من بعده بمثال الفيل.
فقد صوّر أنّ الهنود جاؤوا بفيل لعرضه في بلد لم يرى أهلُه الفيل من قبل ولكنّهم
وضعوه في الليل في غرفة مظلمة، وعندما تهافت الناس للتعرّف على هذا الموجود الجديد
بدؤوا بتحسّسه؛ باللمس لأنّه لا مجال للبصر في الليل، فمن لمس خرطومه قال إنّه
موجود كالميزاب، ومن لمس أذنه قال إنّه كالمروحة اليدويّة، ومن لمس قدمه قال إنّه
كالأسطوانة، ومن لمس ظهره قال إنّه كالسرير، ولكن لو حمل كلّ واحد شمعة بيده وأعمل
حاسّة بصره لزال الاختلاف من الأساس.
إذن الحاسّة اللامسة أكثر محدوديّة من الباصرة الّتي تدرك الحجم الكبير بصورة موجود
واحد، ونسبة حدود اللامسة إلى الباصرة تشبه حدود الحاسّة المحدودة إلى الحاسّة
اللامحدودة (النسبي)، ونفس هذه النسبة بين الحواسّ كلّها إلى مدركات العقل.
كيف ندرك عالَم الغيب؟
إن كانت الحواسّ لا تمتدّ إلى غير المحدود، فكيف يمكن التعرّف على عالم الغيب
الّذي هو بعيد عن متناول الحسّ؟ وأيّ طريق يسلكه العقل وما هي الآثار والدلالات
الّتي ترشده إلى عالم الغيب؟
الحركة الجوهرية14
وفي مقام الجواب على السؤال نتعرَّض للنظريّة الّتي أثبتها صدر المتألِّهين
الشيرازي (رضوان الله عليه) في أبحاثه الفلسفيّة وهي نظريّة الحركة الجوهريّة.
فقد أثبت العلم والفلسفة15 أنّ الأصل في الأشياء المادّية هو الحركة، فالفلسفة ترى
بأن كلّ الأشياء متغيّرة في ذاتها وجوهرها، والعالَم كلّه كقافلة تنتقل دائماً من
وجود إلى وجود، لا من مكان إلى مكان، بحركة مستمرّة متّصلة، فجواهر العالَم كلّها
تتجوهر (تخرج من جوهر وتدخل في جوهر جديد) على الدوام، فالعالَم في حدوث وفناء
مستمرَّين16.
وبناء على هذه النظريّة تكون فكرة أنّ العالَم بأسره معتمد على غيره وليس له أيّ
استقلاليّة واضحة جدّاً، وبالتعبير الفلسفي يكون قائماً بالغير لا قائما بالذات،
فهو لم يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود بمعونة العلّة (الغير) وعندها ينتهي دور
العلّة بهذا الحدوث، بل هو بحاجة إلى العلّة (الغير) بكلّ آنات وجوده لأنّه في حدوث
وفناء مستمرَّين.
العالَم والله
إذا كان كلّ العالَم في حركة جوهريّة مستمرّة فهو قائم بالغير وهذا الغير هو العلّة
الموجودة له دائماً وهو الله سبحانه، فلا يستغني موجود من الموجودات عن الله سبحانه
لحظة بل آناً من الآنات، وإذا أردنا تشبيه ذلك بطاحونة الماء فإنّها لا يمكن أن
تدور من دون سيلان ماء النهر وبمجرّد قطع الماء عنها تقف عن الحركة:
يا خفيّ الذات محسوس العطا
أنت كالماء ونحن كالرحى17
الخلاصة
لا ينبغي أن ننكر أيّ فكرة إلّا بالدليل، ولعل الإنكار من دون دليل أقبح من الجهل،
والغيب أحد الأفكار الّتي لها التأثير العمليّ على حياة الإنسان، وهو اصطلاح في
مقابل عالم الشهادة، وستار الغيب ليس حجابا مادّياً وإنّما هو محدوديَّة الحواسّ عن
إدراك اللامحدود، وطريق الاطّلاع على هذا العالَم الحركة الجوهريَّة الّتي قال بها
صدر المتألّهين، حيث يرى أنّ كلّ موجود هو عين الفقر والتعلُّق بالله سبحانه بدءاً
واستمراراً.
* عالم الغيب والشهادة , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة الإسراء، الآية:
85.
2- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمنّاوي ج 4، ص 509.
3- يقول وليم جيمس: "إنّ الدين يشير إلى بعض الأمور والأشياء الّتي لا طريق للعلم
والعقل لمعرفتها، ولكنّ هذه المؤشرات هي الّتي حفّزت العلم والعقل على التحقيق
وبالتالي هي توصل الكثيرين إلى الاكتشافات والاختراعات في مختلف الميادين"، نقلاً
عن مجموعة الآثار للشهيد مرتضى مطهري ج 3، ص 336.
4- سورة البقرة، الآية: 3.
5- سورة الأنعام، الآية: 59.
6- سورة الزمر، الآية: 46.
7- وقد استوحوا ذلك من التعبير القرآني في آية الزمر.
8- يعتبر العقل مرتبة من مراتب الغيب كما سيتّضح إن شاء الله.
9- سورة ق، الآية: 22.
10- منتهى المطلب للعلامة الحلي ج 3، ص 44، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج 1،
ص 317، ومستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي ج 5، ص 163. ومن كلام لهعليه السلام
بعد تلاوة ألهاكم التكاثر: "... فلو مثّلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك.."
نهج البلاغة من خطب الإمام علي عليه السلام، ج2 ص 208، تحقيق الشيخ محمّد عبدو.
(المحرّر).
11- وقد ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة "... أيكون لغيرك من
الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك،
ومتى بعُدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك..." (المحرّر).
12- شرح المنظومة، الملّا هادي السبزواري، قسم الحكمة.
13- ولهذا البحث مجال آخر لا يسعنا التعرّض إليه الآن.
14- لسنا بصدد إثبات هذه النظرية لأنّ ذلك موكول للدراسات الفلسفية، وقد تعرّض
الملا صدرا لإثبات نظريته بالأدلة المحكمة، وإنّما نريد عرض النظرية بالمقدار الذي
يساعد على الإجابة عن السؤال.
15- علما أنّ الطريق الذي يسلكه العلم للوصول إلى أصالة الحركة في الأشياء يختلف عن
طريق الفلسفة.
16- بينما نجد رأي أرسطو وأبي علي سينا خلاف هذا الرأي، فالجواهر في العالم برأيهما
ثابتة لا تتغيّر.
17- وهنا ينقل الشهيد أبياتاً من الشعر الفارسي العرفاني الجميل للشاعر مثنوي من
الدفتر الثالث ص 88، ولعلّ ترجمته إلى العربية تخرجه عن رونقه، لكنّ مضمون الأبيات
يصبّ في هذه الخانة وهي أنّ كلّ الوجود فيض من الله لا يستغني لحظة عن الجود والفيض
الإلهي، ولو ترك لحظة لانتهى، فكلّ شيء قائم بحوله وقوّته.