أنواع معرفة النفس
فكر الشهيد مطهري
إنّ الإنسان مدعوٌّ لمعرفة ذاته والعالم، لما في ذلك من أثرٍ على كلّ جوانب حياته. فالقرآن كتاب تربيةٍ وليس فلسفةً نظريةً لا انعكاس له على واقع الحياة. فمن عرف نفسه من أين، وفي أين، وإلى أين؟ يكون قد حدّد موقعه بدقّةٍ على خريطة الوجود، لكي يوصل نفسه إلى المنزلة السامية التي تليق به.
عدد الزوار: 113
بين معرفة النفس ومعرفة
العالم
إنّ الإنسان مدعوٌّ لمعرفة ذاته والعالم، لما في ذلك من أثرٍ على كلّ جوانب حياته. فالقرآن كتاب تربيةٍ وليس فلسفةً نظريةً لا انعكاس له على واقع الحياة. فمن عرف
نفسه من أين، وفي أين، وإلى أين؟ يكون قد حدّد موقعه بدقّةٍ على خريطة الوجود، لكي
يوصل نفسه إلى المنزلة السامية التي تليق به.
إنّ سعادة الإنسان وكماله يكمن في مدى اطلاعه ومعرفته بنفسه وبالعالَم، وكلّ من
هاتين المعرفتين حائزٌ على درجةٍ من الأهمّية، لكن أيّهما أهمّ من الآخر؟
هنا يكمن الصراع مع الفلسفات والمدنية الغربية، حيث أعطت درجةً كبيرةً من الاهتمام
لمعرفة العالَم ممّا أدّى إلى نسيان النفس وانهيار الإنسانية في الغرب.
وقد سلّط الضوء على ذلك زعيم الهند (المهاتما غاندي) ناقداً أفضل من الجميع
الثقافةَ الغربية ومشيراً إلى ما نتج عن نسيان النفس "وعندما يفقد الإنسان روحه
ماذا ينفعه فتح العالم"1.
ومن المحتمل أن يكون أحد وجوه الاختلاف هو أسلوب التفكير الشرقي وأسلوب التفكير
الغربي، كما أنّ أحد وجوه اختلاف العلم والإيمان، هو أنّ العلم أداة للاطلاع على
العالَم، بينما الإيمان رأس ماله الاطلاع على النفس.
ولو أعطينا لمعرفة النفس اهتماماً أكثر أو أعطينا معرفة العالَم اهتماماً أكثر أو
اهتممنا بهما بشكل متساوٍ فإنّ المتيقّن هو اتساع حياة الإنسان باتساع معلوماته،
والأوعى تكون روحه أكبر، ويكون حيويّاً أكثر، والفلاسفة يعتبرون الروح حقيقة
مشكِّكة ذات مراتب ودرجات، فكلّما تسمو معرفة الإنسان بنفسه تسمو درجة حياته
وروحيّته بالتدريج.
أنواع معرفة النفس
ويسعى العلم ليُطلع الإنسان على نفسه كما أطلعه على العالَم، لكن المعلومات التي
يُقدِّمها العلم ميتة لا تبعث الحماس في القلوب ولا توقظ الطاقات الكامنة في
الإنسان، بخلاف المعلومات التي يُقدِّمها الدِّين عن النفس، والتي تؤسّس بالإيمان،
فإنها تلعب دوراً في وجود الإنسان وتزيل عنه الغفلة، وتشعل الطاقات المختبئة فيه
لتصل إلى أسمى مراتبها وكمالها.
وليس المراد من معرفة النفس الإنسانية هو معرفة النفس الروتينية في دفتر النفوس،
ولا البيولوجية التي لا يفترق فيها عن الحيوانات إلّا باستقامة القامة، بل هي
"الروح الإلهية" الذّات التي تشعر بالشرف والكرامة، وتعتبر نفسها أسمى من أن تخضع
للرذائل، وعندئذٍ يدرك الإنسان قدسيّتها، ويفهم للمقدّسات الأخلاقيّة والاجتماعيّة
معنىً وقيمةً.
والنفس التي ينبغي على الإنسان التعرّف عليها ولا ينبغي الغفلة عنها هي تلك النفس
التي نبّه الله تعالى في كتابه على عدم نسيانها:
﴿وَلا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُون﴾2.
ولكي يتضح الغرض أكثر نشير إلى أنواع معرفة النفس:
1ـ معرفة النفس الفطرية:
فالإنسان يعرف نفسه بالذّات، وهو قبل أن يعرف أيّ شيء غير نفسه يدرك نفسه بالوجدان
وبالعلم الحضوري على حدّ تعبير المناطقة، وهذا النوع من الإدراك والمعرفة لا مجال
للشك فيه لأنّ الواعي والوعي شيء واحد، وظهور الذّات عين ظهور الوعي.
نعم، بعد أن يدرك الأمور الخارجية يجد نفسه شيئاً من هذه الأشياء، فهو يدرك في هذه
المرحلة ذاته بالعلم الحصولي وعلى نحو صورة مرتسمة في الذهن، فيكون الواعي وهو
الذّات غير الوعي وهو الصورة المرتسمة في الذهن، وفي هذه المرحلة يمكن حصول الشك بل
والخطأ، وبهذا البيان يظهر بوضوح خطأ ديكارت3 لأنّ "أنا موجود" لا يقبل
الشك لنحاول رفعه عن طريق "أنا أُفكِّر".
2- معرفة النفس الفلسفيّة:
حيث يقوم الفيلسوف بالبحث عن النفس الإنسانية ماهيتها وحقيقتها، هل هي جوهر أم عرض؟
ماديّ أم مجرّد؟ موجودة قبل الجسم أم معه؟ باقية بعد فناء الجسم أم لا؟ وأمثال هذه
الأمور. وسيأتي الكلام عنها أكثر عند الحديث عن معرفة النفس العرفانية.
3ـ معرفة النفس العالميّة:
وهي المعرفة في صلة النفس بالعالَم، من أين أتت؟ وأين هي الآن؟ وأين تذهب؟ فيكتشف
الإنسان أنّه جزء من هذا العالم الكبير، تابع له، ولم يأتِ ولم يذهب ولم يعش لوحده.
وهذه المعرفة التي أشار لها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "رحم الله إمرءً
علم من أين وفي أين وإلى أين؟".
وهذه المعرفة تلهب روح الإنسان في البحث عن الحقيقة، تؤلمه تعطّشاً للبحث عن
اليقين، فتوجد في وجدانه الشك لتجرّه من جهة إلى جهةٍ سعياً للوصول إلى الاطمئنان
وراحة البال.
4ـ معرفة النفس الطبقية:
وهي المعرفة في صلة النفس بالطبقة الاجتماعية التي يعيش فيها، ولذا تعدّ هذه
المعرفة صورة من صور معرفة النفس الاجتماعية، وكلّ إنسان ـ شاء أم أبى ـ يعيش في
طبقة من الطبقات ولون من ألوان الحياة.
وبعض الفلسفات التي ترى أنّ الركيزة الأساس في بناء المجتمع هي "الاقتصاد"، يكون
الحاكم الأصلي على الفرد هو المصالح المادّية، والذي يعطي لأفراد مجتمعٍ ما
"الوجدانَ المشترك" و"والذوقَ المشترك" و"الحكمَ المشترك" هو الحياة
المادّية والمصلحة المشتركة، ولذا نجد ـ بناءً على هذه النظرة الفلسفية ـ أنّ معنى
معرفة النفس الطبقية هو "معرفة الربح"، وهذه النظرة ستكون سبباً لأن يرى
الإنسانُ العالمَ والمجتمعَ من منظاره الخاصّ، ويُفسّره تفسيراً خاصّاً، ويكون ألمه
وهمّه وتحيزه وجهده الإجتماعي طبقياً4.
5ـ معرفة النفس القومية:
وهي المعرفة في صلة النفس مع الناس الذين تربطه بهم رابطة قومية وعنصرية، على أثر
الحياة المشتركة بينهم، بقانون مشترك وآداب ورسوم وتاريخ ولغة مشتركة، حيث يكون
للشعب الواحد "نفس" كما للفرد "نفس"، ويمكن القول إنّ معرفة النفس القومية تعني
معرفة الثقافة والشخصية القومية.
إنّ هذه المعرفة وإن لم تكن من مقولة معرفة الربح ولكنّها لا تخرج عن مقولة
الأنانية، ولها جميع عوارض التعصب والعجب وحبّ النفس وغضّ النظر عن عيوبها، ولذا
فهي كمعرفة النفس الطبقية تفقد الجانب الأخلاقي تلقائياً.
6ـ معرفة النفس الإنسانية:
وهي المعرفة في صلة النفس بجميع الناس، وهذه المعرفة ترتكز على الفلسفة القائلة إنّ
الناس يشكّلون بمجموعهم وِحدة واقعية، ويتمتّعون "بوجدان إنساني مشترك".
إنّ فلسفة الهيومانيسم (النزعة الإنسانية) التي ترى الإنسانَ فوق الطبقات والقوميات
والأديان والثقافات والألوان، وتعتبره وحدةً وتنكر أيّ تمايز واختلاف، وكذا
الفيلسوف "اوغست كونت" الباحث عن "دين الإنسانية"، وكذلك البيانات الصادرة عن لجنة
حقوق الإنسان، تعتمد وتدعو جميعُها إلى هذا النوع من المعرفة النفسية.
ويدّعي دعاةُ هذه المعرفة أنّه إذا حصلت هذه المعرفة للإنسان فسيكون ألمه ألماً
إنسانياً وسعيه وجهده وتحيّزه كلّه إنسانياً وأخلاقياً، ويصبغ حبّه وبغضه بصبغة
إنسانية، فيحبّ أصدقاءَ الإنسان أي العلم والثقافة والصحّة والرفاه والحريّة
والعدالة، و... ويكره أعداءَ الإنسان أي الجهل والفقر والظلم والمرض و....
وهذه المعرفة وإن كانت فوق القوميّة والطبقية وتظهر منطقيةً أكثر من غيرها، إلّا
أنّها أُمنية لا واقعية، وذلك لأنّ الناس إذا وصلوا إلى مرحلة الإنسانية وشكّلوا
جسداً واحداً "نحن" بالفعل عندها يمكن أن يكون الناس كأعضاء الجسد الواحد، وقد أشار
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه المعرفة، لكنّه كان دقيقاً في
تعبيره حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم:"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل
الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى"5.
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل جميع الناس بل قال "المؤمنين"
والمؤمن هو من وصلت إنسانيته إلى أعلى درجات الإنسانية وعندها يمكن أن يحبّ الخير
الإنساني لغيره قبل نفسه، ويكره أعداءَ الإنسانية. هذا المؤمن أمثال الرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم الذي بُعث رحمةً للعالمين، والإمام عليّ عليه السلام الذي
كان يقول لابن ملجم:
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي 6
لكن الواقع غير ذلك فالناس فيهم موسى عليه السلام وفرعون، وفيهم علي عليه السلام
ومعاوية وابن ملجم. إذاً هذه المعرفة وهذه النظرة لا تتحقّق إلّا في مجتمع المؤمنين
الواصلين إلى أعلى درجات الإنسانية.
7ـ معرفة النفس العرفانية:
وهي المعرفة في صلة النفس بذات الله تعالى، وهذه الصلة ليست كصلة الإنسان بأفراد
المجتمع، وإنّما هي صلة موجودين يقوم وجود أحدهما في عرض وجود الآخر، صلة الفرع
بالأصل والمجاز بالحقيقة، وحسب الاصطلاح صلة المقيَّد بالمطلق.
ويعتبر ألم الفيلسوف انعكاساً للآلام الخارجية في معرفة النفس، وألم المتنوِّر
اجتماعياً يحصل بعد اطلاعه، بينما ألم العارف باطني وجداني ويكون ألمه عينَ اطلاعه
كألم المريض ومعرفته به.
والفيلسوف يتألّم للحقيقة لكن ألمه لمعرفة الحقيقة والعلم بها، وينبع من فطرة
المعرفة، بينما ألم العارف للوصول والذوب والاتحاد بالحقيقة، هو ألم نابع من فطرة
الحبّ التي لا تستريح إلّا أن تُحلِّق لتلمس الحقيقة بكلّ وجودها، الشيء الذي لا
يوجد في الحيوان ولا في الملك.
العارف يعتبر معرفة النفس التامة كامنة في معرفة الله، وإنّ ما يعرفه الفيلسوف
بصورة "أنا" الإنسان الواقعي، ليس واقعياً من وجهة نظر العارف، إنّه روح نفس
وتعيّن، و"أنا" الواقعي بنظره هو الله بعد كسر النفس والأنا والتعيّن.
يقول محي الدِّين ابن عربي في فصوص الحكم الفص الشعيبي: "إنّ الحكماء
والمتكلِّمين قد أكثروا القول حول معرفة النفس، ولكن معرفة النفس لم تحصل عن هذا
الطريق، وكلّ شخص ظنّ أنّ ما وجده الحكماء حول معرفة النفس هو الحقيقة فقد استسمن
ذا ورم".
فالروح مظهر من مظاهر النفس، و"أنا" الواقعي هو الله وعندما يفنى الإنسان من نفسه
ويحطّم التعيّنات ويغضّ النظر عنها لم يبقَ للروح أثر، وعندما تعود هذه القطرة
المنفصلة عن البحر إلى البحر وتفنى فيه يصل الإنسان إلى معرفة النفس الواقعية،
وعندئذٍ يرى الإنسان نفسَه في جميع الأشياء، ويرى جميع الأشياء في نفسه، وعندئذٍ
فقط يطّلع الإنسان على نفسه الواقعية.
8 ـ معرفة النفس النبوية:
تختلف هذه المعرفة عن كلّ ما تقدّم، فإنّ النبيّ له معرفة إلهية وبشرية بالنفس، وهو
متألِّم لله ولمخلوقات الله، ولا يظنّ أنّ للنبي نصف قلبٍ عند الله ونصفه الآخرعند
الناس، أو إحدى عينيه إلى الله والأخرى إلى الناس، أو أنّ حبّه وأمنياته وأهدافه
موزّعة بين الله ومخلوقاته، يقول تعالى في كتابه:
﴿مَا
جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ﴾7.
والأنبياء عليهم السلام هم أبطال التوحيد ولا يوجد في عملهم أقلّ شرك، لا في المبدأ
ولا في الهدف والأمنية ولا في التألُّم.
والأنبياء عليهم السلام يحبّون العالَم ذرّةً ذَرّةً بسبب أنّ الجميع منه تعالى
ومظاهر أسمائه وصفاته، وإنّ حبّ أولياء الله للعالَم لمحة من حبّهم لله، لا حبّ في
مقابل حبّ الله.
الأسفار الأربعة لأولياء الله
والأنبياء والأولياء في سيرهم وسفرهم التكاملي يعبرون منازل ويقطعون أسفاراً وهو
ما اصطلح عليه العرفاء بالأسفار الأربعة:
1- السفر من الخلق إلى الحق
إنّ هذا الألم الذي يشعر به الأنبياء والأولياء في تكاملهم وتحرّكهم في السفر
والطريق الذي يعبّر عنه "بالسفر من الخلق إلى الحقّ" لا يجعلهم يهدؤون لحظةً
واحدةً حتى يوصلهم إلى قرار أمن.
2- السفر في الحقّ إلى الحقّ
وفي نهاية السير والسفر الأوّل يبدأ سفر آخر يعبّر عنه "السفر في الحقّ إلى الحقّ"،
وفي هذا السفر يمتلئ ظرفهم ويفيض وينالون نوعاً آخر من التكامل، حيث يكونون في
الحقّ، وإلى الحقّ، وكأنّ الحركة والتكامل دائري في الحقّ، اتحاد مطلق معه فيعطيهم
من فيضه كلّ الكمالات التي يمكن الوصول إليها، وتصبح كلّ قابلياتهم فعلية.
إنّ الباعث والدافع اللذَين يظهران في نهاية السفر الثاني يكونان بمثابة ولادة
معرفة نفس الناس من معرفة نفس الحقّ وولادة التألُّم للناس من التألُّم لله.
3ـ من الحقّ إلى الخلق:
والنبيّ أيضاً لا يقف في هذه المرحلة، بل بعد أن يفيض من هذه الحقيقة ويطوي دائرة
الوجود ويعرف الطريق وآداب المنازل، يُبعث ويبدأ سفره الثالث من الحقّ إلى الخلق،
ويبدأ الرجوع، لكن هذا الرجوع ليس بمعنى التقهقر إلى النقطة الأولى والانفصال عمّا
حصل عليه، وإنّما يرجع مع كلّ ما حصل عليه ووصل إليه، لذا فهو حسب الاصطلاح "من
الحقّ إلى الخلق مع الحقّ" لا بعيداً عنه، وهذه مرحلة تكامل النبيّ الثالثة.
4ـ في الخلق مع الحقّ:
ويبدأ بالرجوع إلى الخلق سفره الرابع ودور تكامله الرابع أي السير في الخلق مع
الحقّ، السير في الخلق لدفعهم نحو الكمال الإلهي اللامتناهي عن طريق الشريعة، أي عن
طريق الحقّ والعدل والقيم الإنسانية وإيصال القابليات البشرية اللامتناهية الكامنة
إلى مرحلة الفعلية.
بين العارف والنبي
ويتّضح من هنا أنّ ما هو هدف للمتنوِّر هو للنبيّ منزل من المنازل التي يمرّ بالناس
منها، كما أنّ ما يدّعيه العارف يقع في بداية طريق النبيّ، فهو عندما يصل إلى الحقّ
لا يرجع، بل يبقى في ذلك المنزل ولا يرقى إلى منزل آخر، بينما النبيّ حاملٌ للشريعة
والذي له دور مع الخلق لا بدّ له من الرجوع من الحقّ إلى الخلق.
يقول إقبال في هذا الصدد: "ربما لا يمكن أن توجد كلمات في جميع الأدب الصوفي
تميّز معرفة النفس بين نوعي معرفة النفس النبوية والصوفية في جملة واحدة كهذه8،
إنّ الرجل الباطني (العارف) لا يريد أن يرجع إلى حياة هذا العالَم من الهدوء
والاطمئنان الذي يجدهما بالتجربة الاتحادية (الوصول إلى الحقّ ومعرفة النفس
العرفانية). وعندما يرجع بحكم الضرورة لم يكن في رجوعه نفعٌ كثيرٌ لجميع البشرية.
لكن رجوع النبيّ له جانبٌ إبداعيٌ مثمرٌ، يرجع ويرد في مجرى الزمان لغرض أن يسيطر
على مجرى التاريخ ويبدع عن هذا الطريق عالَماً جديداً من كمال المتطلبات"9.
وما هو مسلّم لدينا أنّ كلّ نبي يحمل ألم الله، والألم الذي يؤذي روحه هو ألم البحث
عن الله فيعرج إليه ويصعد، ويرتوي من ذلك النبع وحينئذٍ يحصل عنده ألم الناس، فإنّ
تألُّم النبيّ للناس يختلف عن تألُّم شخص متنوِّر للناس، لأنّ ألم المتنوِّر عاطفة
بشرية ساذجة، انفعال وتأثُّر، وربما يعتبر ضعفاً بنظر بعض الأشخاص أمثال "نيتشه"،
لكنّ ألم النبيّ ألم من نوع آخر لا يشبه أيّاً من تلك الآلام، كما أنّ معرفة نفس
الناس عندهم تختلف أيضاً، فالنار التي تلتهب في روح النبيّ نار أخرى.
وصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحصل له نفوذ الشخصية قبل كلّ شخص، فإنّه
يتّحد مع العالَم ويضمّ العالَم إليه، وصحيح أنّه يتعذّب من همّ الناس:
﴿لّقّدً جّاءّكٍمً رّسٍولِ مٌَنً أّنفٍسٌكٍمً عّزٌيزِ
عّلّيًهٌ مّا عّنٌتٍَمً حّرٌيصِ عّلّيًكٍم بٌالًمٍؤًمٌنٌينّ رّءٍوفِ رَّحٌيم﴾10.
﴿فّلّعّلَّكّ بّاخٌعِ نَّفًسّكّ عّلّى" اثّارٌهٌمً إن
لَّمً يٍؤًمٌنٍوا بٌهّذّا لاًحّدٌيثٌ أّسّفْا﴾11.
وصحيح أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يتلوّع من جوع الناس وعريّهم ومظلوميتهم
وحرمانهم ومرضهم وفقرهم، ويتألّم لذلك إلى حدّ لا يتمكّن أن ينام في مضجعه شبعاناً
وهناك جائع في أقصى البلاد:"هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر
الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت
مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى"12.
ولكن يجب أن لا يحمل هذا كلّه على رقّة القلب والترحّم والعطف الساذج في مستوى
مواساة الناس السذّج. إنّ عمل النبيّ من حيث إنّه بشر له جميع المزايا البشرية في
اللون والشكل، ولكن بعد أن يلتهب جميع وجوده بالشعلة الإلهية تأخذ كلّ هذه الأمور
صبغة إلهية.والاختلاف بين من يربّيهم النبيّ والمجتمع الذي يصنعه وبين من يربّيهم
المتنوِّرون والمجتمعات التي يصنعونها كما بين السماء والأرض.
والاختلاف الرئيس أنّ النبيّ يجهد لإيقاظ الطاقات البشرية الفطرية ليلهب الشعور
الغامض والحبّ الكامن في وجود الناس، ويدعو النبيّ نفسه "مذكِّراً" يبدع في
الإنسان حساسية في مقابل جميع الوجود وينقل معرفته النفسية بالنسبة لكلّ الوجود إلى
أمّته، ولكن المتنوِّر يوقظ ـ على الأكثر ـ الشعور الاجتماعي عند الأفراد ويطلعهم
على مصالحهم القومية أو الطبقية.
الخلاصة
كلّما اتسعت معلومات الإنسان اتسعت حياته. ولمعرفته بالعالَم وبنفسه دور أساس في
تحديد شخصيته وسلوكه ومستقبله، ومن هنا كان الإنسان باحثاً عن الحقيقة في كلّ
الأمور.والغرب قد صبّ اهتمامه على معرفة العالَم، وابتعد عن معرفة النفس، وإذا أدلى
دلوه وأعطى رأيه في معرفة النفس، فإنّها معرفة ميتة لأنّها تفتقد إلى الإيمان.
بينما معرفة الأديان للنفس مختلفة تماماً فهي تلهب الشعور والوجدان حتى يستقر في
قرار أمن، عند الوصول إلى الله سبحانه.
إنّ معرفة النفس على أنواع عدّة فطرية فلسفية، عالمية، طبقية، قومية، إنسانيّة،
عرفانية، وأرقى من ذلك كلّه هي المعرفة النبوية.
*انواع معرفة النفس , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- راجع مقدمة كتاب
"هذا مذهبي".
2- سورة الحشر، الآية: 19.
3- وهو الفيلسوف الفرنسي كان في القرن السابع عشر، بدأ فلسفته بالشك في كل شيء حتى
في البديهيات، لكنّه لم يشك في أنّه يفكِّر وأنّه يشك، ومن شكه وتفكيره أثبت وجوده
واستنتج وجود الله
وسائر الأشياء.
4- يمكن تسمية هذا النوع من المعرفة بمعرفة النفس الماركسية.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج109، البال الثالث والأربعون، ص173.
6- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص18.
7- سورة الأحزاب، الآية: 4.
8- إشارة إلى كلمة أحد شيوخ أهل الطريقة وهو عبد القدوس جنجهي عندما كان يتحدث عن
ذهاب الرسول في المعراج إلى السماء ورجوعه قال: "أقسم بالله لو كنتُ أنا الواصل إلى
تلك النقطة لم أرجع أبداً".
9- إقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص143 ـ 144.
10- سورة التوبة، الآية: 128.
11- سورة الكهف، الآية: 6.
12- نهج البلاغة، من كتابه عليه السلام إلى وليه عثمان بن حنيف.