يتم التحميل...

كيف تشبع الرغبات والميول؟

فكر الشهيد مطهري

هل الدِّين هو الوسيلة الوحيدة الّتي لا بديل عنها لإرواء وإشباع الحاجات والرغبات البشريّة؟ وأنّ العلم لا يمكن أن يكون ـ كما يدّعي أو يتصوّر بعض ـ بديلاً عنه مهما تقدّم وتطوّر؟

عدد الزوار: 97

الدِّين هو الوسيلة الوحيدة لإشباع الرغبات
لقد ثبت في محلّه1 أنّ الدِّين رغبة فطريّة عند الإنسان، والسؤال الّذي يبقى:
هل الدِّين هو الوسيلة الوحيدة الّتي لا بديل عنها لإرواء وإشباع الحاجات والرغبات البشريّة؟ وأنّ العلم لا يمكن أن يكون ـ كما يدّعي أو يتصوّر بعض ـ بديلاً عنه مهما تقدّم وتطوّر؟

طموحات الإنسان لا يرويها إلّا الدِّين
لقد تميّز الإنسان عن الحيوان بالفكر، وبهذا الفكر رأى عدم التوازن بين طموحاته الواسعة وبين حياته الدنيويّة المؤقّتة، فهو من ناحيةٍ يحبّ الخلود والأبديّة ويعمل في الحياة الدنيا على هذا الأساس، بينما يرى من ناحية أخرى جسمه وكلّ ما يملك من إمكانيّا ماديّة تفنى وتزول، فيعيش الاضطراب والتوتّر واليأس، جرّاء إحساسه بالحرمان من الخلود؛ وقد يغبط الحيوانات على ما تملكه من تعادل بين أفق تفكيرها المحدود ومساحة استعدادها الدنيويّ فلا تعيش ما يعيشه الإنسان من اضطراب.

وكثيراً ما سعى الإنسان للخلود بشتّى الوسائل والطرق، وليس ذلك إلّا ليروي تلك الحاجة وذلك الإحساس والأمل بالخلود، فتوهّم أنّه خالد بتمثاله أو بأعماله أو بمؤلفاته، لكن أيّ لذّة يشعر بها بعد تلاشيه في التراب؟! إذن لا يروي هذا الإحساس بشكل كامل ومقنع إلّا الاعتقاد الدينيّ بوجود حياة خالدة بعد الموت، وهذا الاعتقاد هو الّذي يهدّئ من روعه واضطرابه ويجعله يعيش التوازن في هذه الحياة.

أقوال لبعض العلماء
فروغي2 يقول في كتابه رسائل العظماء: "إنّ الإنسان حينما يعتقد بأنّه فان وأنّه لا يوجد بعد هذه الحياة إلّا العدم المطلق سوف يفقد قيمة الحياة ولذّتها، والشيء الوحيد الّذي يبعث فيه الإحساس باللذّة والنشاط والرؤية الوسيعة هو الدين، حيث يوفّر له الاعتقاد بالخلود في الحياة الأخرى وأنّ هذه الحياة الّتي يعيشها مؤقّتة".

تولستوي يقول في تعريف الإيمان: "هو الّذي يحيا به الإنسان، إنّه رصيد الحياة".

ناصر خسرو يقول: "أعرَضت عن الدنيا ووجّهت وجهي للدِّين، لأنّ الدنيا بدون دين كالبئر العميقة والسجن، إنّ للدِّين في أعماق قلبي ملك عظيم لا يتعرّض للدمار ولا للانهيار أبداً"3.

الدِّين رصيد الأخلاق والقانون

لقد ادّعى بعض أنّه بالإمكان أن يتحقّق المجتمع معتمداً على الأخلاق والقانون، ويكونان البديل عن الدِّين في كلّ شيء.

إلّا أنّ هذا البعض خفيَ عليه أنَّه لا يمكن لمجتمع بشريّ أن يقوم دون أن يعتمد على ركيزته الأساس وهي الدِّين، وحتّى القانون والأخلاق لا بدّ لهما من رصيد ومخزون داخليّ يعتمدا عليه، فالدِّين رصيد الأخلاق والقانون كما أنّ الذهب رصيد العملة الورقيّة.

ولولا وجود الدِّين لكان القانون والأخلاق كلائحة حقوق البشر الّتي اقترحتها فرنسا وروّجت لها بكلّ إمكانيّاتها، فهي من جهة دعت إليها ومن جهة أخرى أوّل من سحقها وخالفها، فقد كان اقتراح بعض القادة الفرنسيّين أمثال جورج بومبيدو هو إبادة الشعب الجزائريّ وعدم إعطائه الاستقلال.

إنّ جميع المقدّسات والقيم والقوانين أمثال: الحريّة والعدالة والمساواة والإنسانيّة والشعور بالمسؤوليّة لا بدّ أن تعتمد على الدِّين في تحقّقها ولولاه لا ضامن لتطبيقها أبداً.

يقول ألكسيس كاريل: لقد تقدّمت وتطوّرت العقول كثيراً ولكن مع الأسف لم تزل ضعيفة، والإيمان فحسب هو الّذي يبعث القوّة في هذه القلوب، وانحرافات البشر كلّها ناشئة من هذه الحالة وهي قوّة العقول وضعف القلوب.

فماذا فعلت الحضارة والمدنيّة الحديثة؟ إنّها تُخرج يوميّاً إلى الأسواق الكثير من البضائع والمنتجات الجديدة؟؟
لكن ماذا فعلت للإنسان حتّى توصله إلى أهدافه المقدّسة السامية؟
نعم ليس هناك غير الدِّين وهو الّذي يقود البشريّة لتحقيق أهدافها ولولا الدِّين لا وجود للأخلاق ولا للقانون ولا للإنسانيّة.

عوامل الانحراف عن الدِّين
س: إذا كان الدِّين رغبة فطريّة فلماذا الناس ينحرفون عن الدِّين ولا يتمسّكون بتعاليمه؟ وما هي العوامل الّتي أدّت للبعد عن الدِّين؟
ج: ذكر وولنز أوسكار لندبرج عاملين للانحراف4:

1 ـ سياسة الإلحاد: حيث تتبع بعض الجماعات أو المنظّمات الإلحاديّة أو الدولة سياسة معيّنة تحارب فيها الإيمان بالله لأنّه يتعارض مع مصالحها، وتدعو إلى شيوع الإلحاد بين الناس.

2 ـ التعصّب والتلقين في الصغر: فإنّ المنظّمات الدينيّة المسيحيّة تحاول جاهدة لكي يعتقد الناس في سِنّ الطفولة بإله على صورة الإنسان.

ولكن عندما تنمو العقول وتُحسن التفكير فسوف تتعارض أفكارهم مع ما تعلموه في الصغر، فتحاول الجمع والتوفيق بين التفكير الصحيح وما لُقّنوه وهم صغار، وحيث إنّه لا يمكن التوفيق بين التفكير العلمي والأفكار الدينيّة القديمة وبعد صراع داخلي ينبذ المفكّرون فكرة الله بالكليّة، ولا يحاولون البحث في أيّ موضوع يمتّ بالدِّين بصلة خوفاً من النتائج النفسيّة الّتي أصابتهم إثر اعتقاداتهم القديمة
الّتي جاهدوا للتخلّص منها.

نعم هذان عاملان أساسان للانحراف عن الدِّين، والكثير من المثقّفين انحرفوا لتعرّفهم على المفاهيم الدينيّة الخاطئة إبّان طفولتهم، فهم بعد النضج الّذي وصلوا إليه لا يمكنهم تقبّل مثل هذه المفاهيم المشوّهة والتصوّرات اللامعقولة فينكرون كلّ ما يتعلّق بالدين5.

عوامل إضافية
ويمكن أن نضيف بعض العوامل الّتي ساعدت أو أدّت إلى انتشار الإلحاد منها:
3 ـ تلوّث المحيط، فإنّ تلوّث المحيط بالأوحال الشيطانيّة والغرق في عبادة اللذّة والشهوة واتّباع الهوى يؤثّر ذلك على بقيّة الأفراد الموجودين في المحيط، ويؤجّج لهيب الشهوة ويحرّك الغرائز الحيوانيّة، ممّا يجعل المجتمع بعيداً عن القيم الأخلاقيّة السامية والتعاليم الدينيّة الرفيعة، لأنّ الّذي يتبع هواه لا تعني له كلّ القيم من شرف وعزّة وإباء ورجولة شيئاً ولا يعتني بشيء من التعاليم والقوانين.

وقد استخدم أعداء الإسلام هذا الأسلوب للسيطرة على الأندلس وإخراج المسلمين منه ونجحوا في إماتة روح الدِّين في المجتمع وأخرجوا المسلمين منها بكلّ سهولة.

والأسلوب ذاته يُستخدم اليوم في البلاد الإسلاميّة، وبعد أن يسود الفسق والفجور في المجتمع ولا يبقى منفذ لنور الإيمان يدخل منه فتحقّ عليه كلمة الله بأنّهم فاسقون..﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ6.

4 ـ الدعوة الخاطئة، وقد يتظاهر بعض الناس بالدِّين ويدعون للدِّين لكن بأسلوبهم الخاطئ مما ينفّر الناس من الدِّين ويجعلهم ملحدين؛ فيقولون مثلاً لو أردت أن تصبح مؤمناً عليك أن تقتل في نفسك كلّ الميول والغرائز فتقتل غريزة الثروة والجنس والمعرفة والجاه، والزهد عندهم عبارة عن عزلة وانفراد وترك كلّ العادات والغرائز المذكورة، وكذلك لو عرّف الدِّين للناس بأنّه عدو العلم ويؤدّي إلى قتل وإحراق العلماء وأفكارهم سيجعلهم يمقتون الدِّين والمتديّنين.

بينما نجد من مميّزات الإسلام أنّه يعترف بجميع الميول الفطريّة الإنسانيّة7 ويُعطي كلّا منها حقّها، ونجد التلاحم المنسجم بين التعاليم الإسلاميّة وكلّ الغرائز البشريّة، ويدعو لتوجيه هذه الغرائز بالشكل الصحيح ولإروائها بالطريق المناسب لا إلى إلغائها والقضاء عليها، فالله لم يخلق هذه الغرائز عبثاً كما لم يخلق أعضاء الإنسان عبثاً.

دعوة إلى الدُّعاة إلى الدِّين
ومن هنا ينبغي أن يهتمّ دُعاة الدِّين بأمور:

1 ـ التعرّف على التعاليم الدينيّة الأصيلة حتّى يصبحوا من المحقّقين فيها، وبالتالي نتخلص من الإلقاءات الخاطئة باسم الدِّين في النفوس الإنسانيّة الضعيفة، لأنّ ذلك يساعد على الانحراف عن الدِّين.

2 ـ تطهير البيئة الاجتماعيّة من كلّ التلوّثات الشهوانيّة والحيوانيّة واتّباع الأهواء.

3 ـ الإطلاع الدقيق على الغرائز البشريّة الفطريّة، وأن يكون لهم رؤية شاملة لها فلا يحاربوها باسم الدِّين ومن حيث لا يقصدون، وعندها سوف نرى الناس..﴿ ...يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا8.

خلاصة
لا شكّ أنّ للإنسان رغبات وميول يسعى لإروائها، فهو يحبّ البقاء والخلود وأشياء كثيرة أخرى، ولكن من الّذي يُشبع هذه الرغبات؟
الدِّين، نعم الدِّين هو الوسيلة الوحيدة الّتي تلبي حاجة الإنسان ورغباته الفطريّة هذه، ومن هنا نجد الكثير من العلماء قالوا أنّه لا غنى عن الدِّين وأنّه الشيء الوحيد الّذي يبعث على الإحساس بالخلود.
الدِّين أيضاً رصيد القانون والأخلاق، وبدونه لا قيمة لهما ولا يعمل بهما، ولكن ما السبب الّذي أدّى بالناس للانحراف عن الدِّين؟

أسباب كثيرة أهمّها: سياسة الإلحاد المتّبعة، والتعصّب والتلقين الخاطئ في سنّ الطفولة، والمحيط الملوّث الّذي يُنسي الإنسان حياته والاهتمام بآخرته ودينه، ومن الأسباب، الدعوةُ إلى الدِّين بشكل خاطئ يؤدّي إلى النفور منه، ومن هنا كان لزاماً عليهم أشياء كثيرة قبل التصدّي لنشر الدِّين.

*كيف تشبع الرغبات والميول؟، سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- في موضوع "لا بديل عن الدين"
2- وكذلك هناك رسالة لفيكتور هيغو تؤكّد هذا المعنى.
3- ولو قارنّا بين هذه الأقوال للعلماء وبين ما يدعو إليه اللادينيّون الّذين يرون أنّ الدِّين قيدٌ، واللادينيّة حريّةٌ وانطلاق، فهؤلاء يعتقدون أنّ الحريّة تحرّر من كلّ قيد، نسألهم: هل التحرّر ممّا يفرضه العقل والإنسانيّة والأخلاق والشرف والقيم وغيرها تحرّر وانطلاق؟!
4- نقلاً عن كتاب "الله يتجلّى في عصر العالم" بتصرف.
5- وللأمّهات والآباء والمبلّغين الجهلة دور كبير في شيوع الإلحاد لما يغذّون أبناءهم على التعاليم والمفاهيم الخاطئة، ومن هنا علينا بذل الجهد لنشر التعاليم الإسلاميّة الأصيلة وبصورتها الحقيقيّة غير المشوّهة ولا المنحرفة.
6- سورة المنافقون، الآية: 6.
7- من الميول الفطريّة الإنسانيّة حبّ الاستطلاع والمعرفة، والرغبة في الثروة والميل إلى تشكيل الأسرة، والغريزة الجنسيّة وحبّ الجاه والظهور.
8- سورة النصر، الآية: 2.

2014-11-25