الفساد والإفساد في الأرض
مواعظ الكتاب
خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وأنشأها على أحسن حال، إلى أن تدخّل فيها البشر، فغيّروا وبدّلوا وأفسدوا، فانطلقت حركة النبوّات فيها، ومضى رسل الله تعالى في مهمّتهم الرسالية الكبرى لإصلاح الأرض بعد فسادها، فكانوا حرباً على الفساد بكلّ أنواعه وأشكاله، وعملوا على نشر الفضيلة وقيم الخير في مواجهة الفساد والطغيان.
عدد الزوار: 141
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاس﴾1.
تمهيد
خلق الله سبحانه وتعالى الأرض وأنشأها على أحسن حال، إلى أن تدخّل فيها البشر،
فغيّروا وبدّلوا وأفسدوا، فانطلقت حركة النبوّات فيها، ومضى رسل الله تعالى في
مهمّتهم الرسالية الكبرى لإصلاح الأرض بعد فسادها، فكانوا حرباً على الفساد بكلّ
أنواعه وأشكاله، وعملوا على نشر الفضيلة وقيم الخير في مواجهة الفساد والطغيان.
ولقد بيّن الإسلام خطورة ظاهرة الفساد في الدنيا، والعواقب الوخيمة لها في الآخرة،
ليرتدع الناس عن الإقدام عليها ولينتهوا عنها.
ما المراد بالفساد؟
الفساد هو الخروج بالشيء عن حدّ اعتداله، وهو ضدّ الصلاح, ويقال أصلح الشيء بعد
إفساده. ومن معاني الفساد الجدب في البرّ والقحط في البحر2، وعلى هذا
المعنى فسّر الفساد في قوله تعالى:
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر...﴾3.
ويطلق الفقهاء لفظ الفساد في المعاملات بمعنى البطلان, كما يستعمل بمعنى الخروج عن
الاستقامة.
وقد ذكر الفساد في القرآن الكريم في أكثر من خمسين موضعا، اشتركت في التحذير من
الفساد والمفسدين, وفي الإنكار على سلوكيّاتهم وأفكارهم.
والفساد يكون بالإعراض عن المنهج الّذي رسمه المولى عزّ وجلّ وقرّره لما فيه مصالح
البلاد والعباد, إذ الإعراض عنه معناه أن يصبح كلّ واحد منّا عبد أهوائه. وإذا صارت
الأمور حسب أهواء الناس. كان الشقاء والشرّ والفساد بدلا من السعادة والخير
والصلاح.. قال تعالى:
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾4.
الفساد في الأرض
ورد هذا العنوان في أكثر من عشرين آية، منها قوله تعالى:﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ
عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ
يُحِبُّ الفَسَادَ﴾5.
ولو أنّ الإنسان استقام على الطريقة والتزم بمنهج الله لاستقامت الأمور في الأرض
كما استقامت في السماء. قال تعالى:
﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾6.
وما دام الحقّ قد رفع السماء ووضع الميزان، فالسماء لا تقع على الأرض والنظام
محكم تماما، ويسير في منتهى الدقّة والإبداع، كما قال سبحانه:
﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ
سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾7.
نعم، الفارق بيننا كبشر مخلوقين وبين مخلوقات السماء من نجوم وكواكب أنّ الله خلقها
وأجبرها على ما هي فيه من انتظام وليس لها أن تخالف عن أمره سبحانه.
بينما الإنسان قد أعطاه الله سبحانه الخيار وضرب له في الخلق نماذج استقامة وانتظام
حتّى يتأسّى بها؛ فإذا أراد البشر أن تصلح حياتهم، وأن تستقيم أمورهم كما استقامت
هندسة السماء والأرض فما عليهم إلّا أن يأخذوا الميزان القرآنيّ والنبويّ في
أعمالهم، وأن يتبعوا قول الحقّ سبحانه:﴿وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾8.
فإذا استقام الإنسان على منهج الله تعالى في حياته وصل إلى كمالاته وتحصّل له منها
ما فيه المنى والمراد.
ولكن للأسف فإنّ كثيرا من البشر لم يكونوا على هذه الصفة فأفسدوا وخرّبوا في الأرض
بعد إصلاحها، وكنتيجة حتميّة لهذا التخريب فإنّ بعض الأمور الطبيعيّة الّتي أثر بها
الإنسان تتجّه اليوم بالأرض ومن عليها إلى الفناء؛ من إفساد للهواء وإفساد للمياه
وإفساد للتراب، ناهيك عن الفساد الاجتماعي والسياسي والأخلاقي الّذي سيؤدّي أيضا
بنتيجة حتميّة إلى خراب وفناء الوجود البشري، إن لم يكن هناك من يتصدّى له.
يقول سبحانه:
﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾9.
إنّ المطلوب من الإنسان الّذي أنيطت به خلافة الأرض كما قال تعالى:
﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾
أن يعمرها ويحفظها ويكون أميناً عليها، قال سبحانه:﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ
الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾10.
وإن لم يفعل ذلك ولم يحافظ على هذه النِعم الّتي منحه الله إيّاه، فالعقاب
الشديد بانتظاره، قال تعالى:
﴿وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ
اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾11.
وقد تجلّى الفساد والإفساد في الأرض من خلال مظاهر عديدة ذكرتها الآيات
القرآنيّة:
1 - الكفر والصدّ عن سبيل الله
قال الله تبارك وتعالى :
﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ
عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُون﴾12.
وهذا الصدّ عن سبيل الله يكون من خلال إضلالَ الناس وتشكيكَهم في دينهم وصرفَهم عن
الطريق المستقيم، والعدولُ عن الحقّ بعد معرفتِه
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِين﴾13.
ومن خلال البدع المخالفة لشرع الله: ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وآله وسلم
قوله: "لا ترجعنَّ بعدي كفاراً، مرتدّين، متأوّلين للكتاب على غير معرفة،
وتبتدعون السُنّة بالهوى لأنّ كل سُنّة وحديث وكلام خالف القرآن فهو ردّ وباطل"14.
2 - النِّـفاق
قال الله تبارك وتعالى :
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا
نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُون﴾15.
3 - قتل النفس
قال جلّ جلاله عن فرعون :
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا
يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ
إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾16.
4 - بخس الموازين والتطفيف بالكيل
قال الله تبارك وتعالى على لسان شعيب:
﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ
تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين﴾17.
5 - قطع الأرحام
قال الله تبارك وتعالى :
﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ
وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُم﴾18.
6 - الإسراف ومجاوزة الحدّ في الغيّ والتمادي في المعاصي
قال الله تبارك وتعالى على لسان موسى عليه السلام:
﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي
الأَرْضِ مُفْسِدِين﴾19.
7- ارتكاب المنكرات والفواحش
قال الله تبارك وتعالى على لسان لوط:
﴿إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ
مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ
السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَر﴾
فماذا كان جواب القوم المفسدين
﴿ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
فكانت دعوته
﴿قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِين﴾20.
ويلاحظ من مجموع هذه العناوين وهي بعض من كلّ أنّها عامّة وتشمل جميع المناحي
الإنسانيّة فهناك:
إفساد النفوس بالقتل وبقطع الأعضاء
وإفساد الأبدان بتعريضها للحرام والمفاسد وما يضرّها كشرب الخمور
وإفساد الأموال بالغصب والسرقة والربا وأكل المال بالباطل و...
وإفساد الأديان بالكفر والشرك والبدع والغلوّ والتشكيك و....
وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على الزنا واللواط..
وإفساد العقول بسبب شرب المسكرات، والخمور ووسائل الإعلام.
وفي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام - لمحمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله-
ذكر المفاسد المترتبة على جملة من الأفعال الّتي حرمها الله تعالى، فقال: "حرّم
الله قتل النفس لعلة فساد الخلق في تحليله لو أحلّ، وفنائهم، وفساد التدبير...
وحرّم الله تعالى الزنا لما فيه من الفساد من قتل الأنّفس، وذهاب الأنساب، وترك
التربية للأطفال، وفساد المواريث، وما أشبه ذلك من وجوه الفساد. وحرّم الله عزّ
وجلّ قذف المحصنات لما فيه من فساد الأنساب، ونفي الولد، وإبطال المواريث، وترك
التربية، وذهاب المعارف، وما فيه من الكبائر والعلل الّتي تؤدي إلى فساد الخلق..."21.
نتاج الكلام
إنّ كثيراً من الأمور الإفساديّة والّتي ذكر بعض منها في القرآن الكريم وفي أحاديث
السنّة الشريفة يدركها الإنسان بفطرته السليمة ويدرك سوءها وضررها وتأثيرها على
نفسه ومجتمعه، ونتيجة لهذا الإدراك فإنّ عليه أن يبادر إلى مواجهتها وتركها وتأديب
نفسه وتهذيبها ومن ثمّ نهي مجتمعه عنها حتّى لا يكون من الهالكين أو المهلكين بها،
ولنعم ما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "عجبت لمن يحتمي من الطعام
مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة النار!"22.
* قد جاءتكم موعظة , سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة الروم،
الآية: 41.
2- راجع: تاج العروس، الزبيدي، ج5، ص164-165.
3- سورة الروم، الآية: 41.
4- سورة محمّد، الآية: 22.
5- سورة البقرة، الآيتان: 204 - 205.
6- سورة الرحمن، الآية: 7.
7- سورة يس، الآية: 40.
8- سورة الجنّ، الآية: 16.
9- سورة البقرة، الآية: 30.
10- سورة هود، الآية: 61.
11- سورة البقرة، الآية: 211.
12- سورة النحل، الآية: 88.
13- سورة آل عمران، الآية: 63.
14- خصائص الأئمّة، للشريف الرضي، 75.
15- سورة البقرة، الآية: 11.
16- سورة القصص، الآية: 4.
17- سورة هود، الآية: 85.
18- سورة محمّد، الآية: 22.
19- سورة البقرة، الآية: 60.
20- سورة العنكبوت، الآية: 30.
21- من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج3 ، ص565.
22- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص246.