يتم التحميل...

فريضة العلم

فكر الشهيد مطهري

في هذا البحث نتحدّث عن فريضة من الفرائض الإسلاميّة لا تقلّ شأناً عن بقيّة الفرائض، ألا وهي "فريضة العلم"، وأمّا تعبيرنا عن العلم بالفريضة فناشىء من وصف الأحاديث الشريفة لطلب العلم بأنّه فريضة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال

عدد الزوار: 98

العلم فريضة
قال الله عزَّ وجلَّ في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ1
في هذا البحث نتحدّث عن فريضة من الفرائض الإسلاميّة لا تقلّ شأناً عن بقيّة الفرائض، ألا وهي "فريضة العلم"، وأمّا تعبيرنا عن العلم بالفريضة فناشىء من وصف الأحاديث الشريفة لطلب العلم بأنّه فريضة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ"2, وفي كتاب بحار الأنوار إضافةُ كلمة "ومسلمةٍ"3, وهذا الحديث ممّا اتّفق عليه الفريقان، السنّة والشيعة.

معنى الفريضة
والفريضة تعني الواجب4, وبهذا يكون المراد من الحديث الشريف أنّ طلب العلم واحد من الفرائض والواجبات الإسلاميّة، وعليه يكون للإسلام فضلُ السبق في مضمار حثّ‏ِ الناس على طلب العلم، فبعد أن كان التعلُّم حقّاً وامتيازاً تتمتّع به فئات خاصّة وطبقات معيّنة في مجتمعِ ما قبل الإسلام، جاء الإسلام ليعتبر طلب العلم واجباً وفريضةً على كلّ فردٍ من أفراد المجتمع الإسلامي، دون أي فرقٍ بين المرأة والرجل، أو بين طبقةٍ أو جماعةٍ وأخرى.

إذاً تحصيل العلم والمعرفة فرض واجب على جميع المسلمين، كالصلاة والصوم والحجّ وغيرها من الفرائض الإسلاميّة.

المسلمون والعلم
ينقسم المجتمع الإسلاميّ، من حيث نظرته إلى العلاقة بين الدِّين والعلم، إلى فئتين:

الفئة الأولى: وهي تسعى لإظهار أنّ الدين والعلم متخالفان ولا يمكن أن يلتقيا أبداً، وهذه الفئة تنقسم بدورها إلى طائفتين:
أ- وهي طائفة الجهلاء المتظاهرين بالتديّن، وهؤلاء يعيشون ويرتزقون بسبب الجهل المتفشّي في الناس، ومن هنا كان العلم عدوّهم اللدود، فراحوا يشوّهون صورته أمام الناس، لكي يبتعدوا عنه، كانت دعواهم أنّ العلم يتنافى مع الدِّين.
ب- وهي طائفة المثقّفين المتعلِّمين، الّذين ضربوا بالمبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة عرض الحائط، فلكي يبرّروا أعمالهم المنكرة، قالوا لا يمكن أن يأتَلِفَ الدينُ والعلم، فإمّا أن تكون متديّناً، وإمّا أن تكون متعلِّماً ومثقَّفاً.

الفئة الثانية: وهي الّتي لم يخالجها قطُّ إحساس بأيِّ تناقضٍ أو تنافٍ بين الدِّين والعلم، فسَعَت إلى إزالة الظلام والغبار الّذي أثارته الفئة الأولى بطوائفها حول العلم والدِّين المقدّسين، وكان لها حظّ من كلّ من العلم والدِّين، كشاهدٍ على إمكانيّة الجمع بينهما في الواقع.

الإسلام يوصي بالعلم

فالإسلام قد أولى مسألة تحصيل العلم أهمّيّةً قصوى، حتّى أنّه اعتبره فرضاً واجباً على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ، وقد تعرّضت جملة من الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة لبيان فضل العلم والعلماء وما لهم من الأجر الكبير عند الله عزَّ وجلَّ، وكلّ ذلك ترغيباً في العلم ودعوةً إلى تحصيله، ونحن هنا سنكتفي بذكر شي‏ء يسير من أحاديث النبيّصلى الله عليه وآله وسلم في الحثّ على طلب العلم:

الأوّل: "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ"5, وفي هذا الحديث تأكيد على أنّ طلب العلم أمر لا يتمايز فيه أحد عن أحدٍ، فهو واجب على الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الشابّ والشيخ، الحاكم والمحكوم، ولا يختصّ بطبقةٍ أو جنسٍ.

الثاني: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"6, وفيه إشارة إلى أنّ طلب العلم لا يختصّ بزمانٍ دون زمانٍ، فهو فريضة على كلّ مسلمٍ في كلّ زمان.

الثالث:
"اطلبوا العلم ولو في الصين"7, فليس لطلب العلم مكان معيّن، وكلّ مكانٍ مهما كان بعيداً يوجد فيه علم نافع ومفيد هو من الأمكنة الّتي يجب على المسلم أن يسعى للوصول إليها، لتحصيل ذلك العلم والإفادة منه، وهذا ما يجعل طلب العلم فريضةً متميّزةً عن كثيرٍ من الفرائض الإسلاميّة الّتي حُدِّد لها وقت معيّن، كالصلاة والصوم مثلاً، أو مكان معيّن، كالحجّ.

الرابع: "الحكمة ضالّة المؤمن يأخذها أينما يجدها"8, والحكمة هي الموضوع المحكَم المتقَن المنطقيّ السليم، وهي كلّ قانونٍ أو قاعدةٍ تتّفق مع الحقيقة، وليست صنيعة الوهم والتخيّلات، فالمؤمن يبحث عن الحقيقة في كلّ اتجاه، ولا يتحفّظ أن يطلبها ولو كانت عند كافرٍ أو مشركٍ، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، فَخُذِ الْحِكْمَةَ وَلَوْ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ"9, فالشرط الوحيد إسلاميّاً في أخذ العلم هو أن يكون ذلك العلم صحيحاً، ويتّفق مع الحقيقة والواقع.

العلم النافع، شرط واحد للعلم
نعم ينبغي لمنْ ليسوا من أهل الاختصاص أن لا يستمعوا إلى كلّ من ألقى بدَلْوه من الناس، بل لا بدّ لهم من الاستيضاح حول طبيعة الشخص الّذي يتلقَّوْن منه العلم، لئلاّ ينحرف بهم عن الخطّ المستقيم من حيث لا يشعرون، أمّا إذا كان لديهم من الخبرة ما يجعلهم يميّزون بين المفيد والمضرّ، والصحيح والفاسد من العلوم، فلا ينبغي لهم التوقّف في أخذ الصحيح والمفيد منها، ولو كان المعلِّم كافراً أو مشركاً أو منافقاً، وهذا أيضاً يميّز طلب العلم عن بعض الفرائض الإسلاميّة الأُخرى الّتي قُيِّدت بشروطٍ، كصلاة الجمعة الّتي يجب فيها الاقتداء بإمامٍ واحدٍ مسلمٍ مؤمنٍ عادلٍ، أمّا طلب العلم فلم يُقيَّد سوى بأن يكون العلم صحيحاً مفيداً، ويتّفق مع الحقيقة والواقع، وإلاّ انتفى الغرض من تحصيله.

حال المجتمع الإسلامي

ونحن لا نريد تفصيل الكلام في مدى عناية الإسلام واهتمامه بالعلم والترغيب فيه، وذلك لأنّه قد قيل وكُتِب الكثير حول ذلك، ومَنْ ينظر إلى مجتمعاتنا الغارقة في الجهل والأُمّيّة والتخلُّف لن يصدّق ما سوف نقوله له من عناية الإسلام الكبرى في طلب العلم، إذ كيف يكون الإسلام كذلك والمسلمون غارقون في الجهل؟!

ولهذا نرى أنّه لا بدّ من الالتفات إلى عيوب المجتمع الإسلامي، والتفكير في أسباب التأخّر العلميّ في هذا المجتمع، فلعلّنا نتمكّن أن نتخلّص من ذلك كلّه، لننطلق بعدها في طريق العلم الواسع الّذي سيقودنا إلى الرقيّ والحضارة الحقيقيَّيْن ما دام مقترناً بالإيمان والالتزام.

وتجدر الإشارة إلى تلك الحادثة الّتي حصلت مع العلاّمة السيّد عبد الحسين شرف الدين!، فإنّه أخذ في تأليف الكتب حول أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم رَدْحاً من الزمن، ولكنّه التفت بعد فترةٍ إلى أنّ الشيعة في لبنان كانوا مستضعفين، وليس فيهم العالم ولا المهندس ولا الطبيب إلاّ بأعدادٍ ضئيلةٍ جدّاً، فرأى أنّ كتبه لن يكون لها أيّ فائدةٍ ما دام الوضع على حاله، فانصرف بكلّ طاقته إلى النشاطات العمليّة الّتي من شأنها أن تنهض بهؤلاء، وعمد إلى تأسيس المدارس ومعاهد التعليم والجمعيّات الخيريّة، فتغيّر الوضع، وتبدّل الحال، وصار للشيعة علماء ومهندسون ومثقّفون، وهكذا وجدت الدعوة والحركة الإسلاميّة مناخاً ملائماً لها في لبنان.

المسلمون وأوامر الإسلام بطلب العلم
ممّا يثير الاستغراب والحيرة حقّاً أن ترى المسلمين، الّذين كان أوّل ما أُنزل على نبيّهم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ*اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ*عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم10, غارقين في الجهل والتخلُّف، ولا نريد هنا القول إنّ المسلمين على مدى العصور لم ينفّذوا أمر الله لهم بطلب العلم، فإنّ الإسلام قد خلق نهضةً علميّةً وثقافيّةً عظيمةً قلّ نظيرها في العالم، وظلّت قروناً طويلةً تحمل لواء الثقافة والتمدّن والإنسانيّة، وقد كانت هذه النهضة مدينةً للأمر الّذي أصدره الإسلام بخصوص طلب العلم، ولكنّ المسلمين في القرون الأخيرة قد أهملوا وهجروا هذه الأوامر والتعاليم، فلماذا كان ذلك؟

أسباب بُعْد المسلمين عن طلب العلم
1- سياسة التمييز
إنّ أحد الأسباب الرئيسة لعزوف فئةٍ من المسلمين عن الاهتمام بطلب العلم هو: ما جرى في المجتمع الإسلاميّ بعد وفاة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، فبعد أن كان المسلمون سواسيةً كأسنان المشط أخذ البعض ممّن تسلّم مقاليد السلطة وأمور الخلافة في التمييز بين المسلمين باعتبار نسبهم تارةً، وباعتبار أسبقيّتهم في الإسلام أخرى، أو مشاركتهم في بعض الحروب، كبدر مثلاً، ثالثةً فظهر مجتمع متعدّد الطبقات، لا يتّفق مع الإسلام مطلقاً، وانقسم المجتمع الإسلاميّ إلى طبقةٍ فقيرةٍ محرومةٍ تكدّ وتشقى للحصول على لقمة العيش، وطبقةٍ غنيّةٍ مسرفةٍ مبذّرةٍ مغرورةٍ لا تدري ما تصنع بما كانت تختزنه من الأموال، هذه الحالة جعلت شريحةً كبيرةً من الناس تنصرف تلقائيّاً عن السعي لتحصيل العلم، إذ صار هناك ما هو أولى من ذلك، وهو تأمين لقمة العيش، وانصرف كثير من الأغنياء عن ذلك أيضاً، لأنّهم قد أغرقوا أنفسهم في الملذّات والملاهي، الّتي حجبت عنهم كلّ فائدةٍ لطلب العلم في حياتهم.

2- احترام لغير أهله
يعزو بعضٌ عدم اهتمام المسلمين في القرون الأخيرة بطلب العلم إلى أنّهم قد صرفوا اهتمامهم عن العلم إلى العلماء أنفسهم، فبدلاً من أن يتّجهوا إلى إزالة الأمّيّة عن أنفسهم وأولادهم، ممتثلين أوامر الله عزَّ وجلَّ في الحثّ على طلب العلم، أخذوا يبالغون في احترام العلماء وتقديسهم، إلى درجةٍ صاروا يرَوْن فيها أنّ الأجر كلّ الأجر، والفضل كلّ الفضل، في الخضوع للعالِم، فأعطَوْا ما أعطاه الله للعلم وطلبه إلى العلماء والمحقّقين.

وهذا القول صحيح إلى حدٍّ ما، فإنّ بعض الكتابات الساذجة السطحيّة، وبعض ما يقال على المنابر، يتوافق مع هذا المنطق، والناس وللأسف الشديد يتّبعون هؤلاء دون أن يُعيروا أيّ اهتمامٍ للعلماء والمحقّقين الّذين يوضّحون لهم الحقيقة.

3- فهم خاطئ
هناك أمر آخر، كان له التأثير الكبير في انصراف الناس عن طلب العلم، ألا وهو ما يثيره بعض علماء الإسلام، ذوي الجمود الفكريّ، من أنّ ما أراده النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في قوله "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ" هو العلم الدينيّ الّذي يملكونه، وهذا ما جعل الناس ينصرفون عن طلب بقيّة العلوم النافعة والمفيدة.

هل هناك علوم دينيّة وأخرى غير دينيّة؟

لقد جرى الاصطلاح على القول بأنّ هناك علوماً دينيّةً، وأخرى غير دينيّة. ويقصد بالعلوم الدينيّة تلك العلوم الّتي تتحدّث في مسائل الدِّين الاعتقاديّة أو الأخلاقيّة أو العمليّة، أو تلك العلوم الّتي تعتبر مقدّمةً لتعلُّم المعارف الدينيّة وأحكامها، مثل الأدب العربي أو المنطق11 في حين يُنظَر إلى بقيّة العلوم النافعة والمفيدة على أنّها غريبة تماماً عن الدين، ولهذا فقد ذهب جماعة إلى أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من "طلب العلم فريضة" هو طلب العلم الدينيّ دون غيره.

الفهم الصحيح
ولكنّ الصحيح أنّ هذا اشتباه محض، فإنّ الإسلام قد أمر بطلب كلّ علم نافعٍ ومفيدٍ، والدليل على ذلك عدّة أمورٍ:
1- لو كان الإسلام قد أوصى بطلب العلم الدينيّ فقط فهذا معناه أنّه قد أوصى بنفسه، وبالتالي يكون توجُّه الإسلام نحو العلم وطلبه صِفْراً، لأنّ كلّ مذهبٍ من المذاهب، مهما يكن عداؤه للعلم والمعرفة، لا يمكن له أن يقف معارِضاً الاطّلاع على ذاته، بل سيقول حتماً: تعرّفوا عليّ‏َ، ولا تتعرّفوا على غيري.

وبعبارةٍ أخرى، لو كان المقصود من العلم الّذي يأمر الإسلام بطلبه هو العلم الدينيّ فقط لكانت نظرة الإسلام إلى العلم سلبيّةً، وهذا ما ثبت خلافه فيما تقدّم من البحث.

2- إنّ القرآن الكريم قد طرح عدداً من المواضيع وطلب من الناس التأمّل فيها، وما هذه المواضيع سوى موضوعات تلك العلوم الّتي نطلق عليها اليوم أسماء العلوم الطبيعيّة والرياضيّة والحياتيّة والتاريخيّة وغيرها، فقد قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ12, وغيرها آيات كثيرة13 تدعو الناس إلى التأمّل في مخلوقات الله، والاطّلاع على أسرار الكائنات وأحوالها، وهذا خير دليلٍ على أنّ الإسلام لم يحصر العلم المطلوب تحصيله بالعلم الدينيّ.

3- الشيعة والموالين لأهل البيت عليهم السلام يعتقدون أنّ سيرة الأئمّة وأقوالهم سُنّة، ومن المعلوم أنّ المسلمين في أواخر القرن الأوّل وأوائل القرن الثاني الهجريّ قد تعرّفوا على علوم الدنيا عن طريق ترجمتها عن اليونانيّة والهنديّة والفارسيّة، فقد ترجموا الكتب المتعدّدة في الفلك والمنطق والفلسفة والطبّ والحيوان والأدب والتاريخ، ولم يصدر من الأئمّة عليهم السلام، الّذين لم يتوانوا قطّ في توجيه الانتقاد إلى الخلفاء أنفسهم إذا ما صدر منهم ما هو خلاف تعاليم الإسلام، أيُّ ردعٍ عن ذلك، ممّا يدلّ على أنّ ترجمة وتلقّي هذه العلوم هو من الأمور المَرْضِيَّة عندهم عليهم السلام، الأمر الّذي يعني أنّ الإسلام يوافق إذا لم نقل يشجِّع على التعرّف على هذه العلوم ودراستها، لفائدتها وتأثيرها العظيم في حياة المسلمين.

4- ذكرنا فيما تقدّم من البحث حديثين، واحد للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وآخر للإمام عليّ عليه السلام، وكلّ من هذين الحديثين يدلّ، ولو احتمالاً، على أنّ المقصود من العلم بنظر الإسلام ما هو أعمّ من العلم الدينيّ.

فقد ورد عنه عليه السلام "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وقد ذُكرت الصين هنا، إمّا لأنّها أبعد مكانٍ معروفٍ في العالم يومئذٍ، أو لأنّها كانت مركزاً من مراكز العلم والصناعة في العالم، ولم تكن الصين لا قديماً ولا حديثاً مركزاً من مراكز العلوم الدينيّة.

وجاء عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الحكمة ضالّة المؤمن فاطلبوها ولو عند المشرك تكونوا أحقّ بها وأهلها"14, وهذا لا معنى له لو كان المراد بالحكمة العلم الدينيّ فقط، إذ أيُّ علمٍ دينيّ سيأخذه المؤمن من المشرك؟! فالمراد إذاً ما هو أعمّ من العلم الدينيّ.

5- ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم جملة من الأحاديث تحدّد المراد من العلم، ولكن ليس بالنصّ على العلم الفلانيّ
والفلانيّ، بل ذكر بعنوان العلم النافع15, فكلّ علمٍ يتضمّن فائدةً وأثراً يقبل بهما الإسلام ويعتبرهما مفيدين ونافعين، هو مقبول في الإسلام، وطلبُه فريضة.

6- ذهب الفقهاء إلى أنّ العلم واجب تهيُّئيّ مقدِّميّ، بمعنى أنّ وجوبه ناشىء من كونه يهيى الإنسان ويعدّه لإنجاز الوظائف الملقاة على عاتقه، وبما أنّ وظائف الإنسان المسلم لا تقتصر على الصلاة والصوم والحجّ وما شاكل ذلك، بل هناك أعمال هي بحكم الفرائض من حيث الوجوب، كالطبابة مثلاً، فإنّها واجب كفائيّ، وهكذا كلّ ما يحتاجه المجتمع الإسلاميّ من الأعمال الّتي لا تستقيم الحياة إلّا بها، كالزراعة والصناعة والتجارة، هي واجبات كفائيّة، إذ بكلّ هذه الأمور يتخلّص المجتمع الإسلامي من الخضوع للملل غير الإسلاميّة، ويعيش الاستقلال والحرّيّة والعزّة في اقتصاده وسياسته وأمنه وكلّ شؤون حياته، وهذا ما يريده الإسلام للمجتمع الإسلاميّ، وبما أنّ هذه الأعمال تبتني على علومٍ وفنونٍ لا يمكن تحصيلها إلاّ بالتعلّم والدراسة كان تعلّم هذه العلوم واجباً تبعاً لوجوب تلك الأعمال، وبالاصطلاح العلمي يعتبر العلم باستثناء بعض المعارف الربوبيّة16 وسيلة لا غاية.

فتبيَّن أنّ العلم المطلوب تحصيله في الإسلام أعمّ من العلم الدينيّ، بل يمكننا القول بمل‏ء أفواهنا أنّ العلم الدينيّ لا ينحصر في علم العقائد والفقه والأخلاق ونحوها، بل العلم الدينيّ هو كلّ علمٍ ينفع الناس، ويرقى بالمجتمع إلى درجة الاكتفاء الذاتي في الاقتصاد والاجتماع والسياسة والأمن، فلا يحتاج المسلمون إلى استجداء تلك المهارات من هنا وهناك، ولا يضطرّون لتقديم كرامتهم وعزّتهم وحرّيّتهم ثمناً لما تقدّمه لهم الملل غير الإسلاميّة من الخبرات في المجالات العلميّة المختلفة.

تعلّم المرأة
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ بعض الناس يقفون في وجه تعلّم المرأة، معلّلين موقفهم هذا بأنّ أجواء المدارس لا تخلو من الفساد والانحراف، فكيف نأمن على بناتنا فيها؟!

والجواب: لا شكّ في أنّ الإسلام لم يميّز بين الرجل والمرأة من حيث وجوب طلب العلم، فكما أنّ طلب العلم واجب على الرجل هو كذلك على المرأة، وما ورد من التعبير بأنّ "طلب العلم فريضة على كلّ مسلمٍ" ما هو إلاّ تغليب لعنصر الذكورة، كما هو معروف في اللغة، وإلاّ فإنّ هناك الكثير من الأحكام الشرعيّة قد جاء في أدلّتها التعبير بالرجل أو المسلم فهل يحتمل اختصاصها بالرجل دون المرأة؟! ولا شكّ أيضاً في أنّ بعض الأعمال الحياتيّة لا يمكن أن تقوم بها على وجهها الصحيح إلّا النساء، بل جعل الإسلام بعض الأعمال من مختصّات النساء، ولم يسمح للرجال بممارستها إلاّ في حالات الضرورة القصوى، كالتوليد ونحوه، وهذا يعني أنّ الإسلام قد أجاز للمرأة، بل أوجب عليها، تعلّم المبادى الأساسيّة والعلوم الضروريّة للقيام بهذه الأعمال، وهذا لا يكون إلّا بدخول النساء إلى ساحات العلم والمعرفة.

نعم يجب علينا نحن المسلمون عامّةً أن نوفّر المدرسة والجامعة الملائمة أخلاقيّاً وتربويّاً لدراسة بناتنا فيها، فبدلاً من أن نعترض على تعلّم المرأة هروباً من أداء الواجب علينا، لا بدّ لنا أن نبذل كلّ جهدٍ في سبيل تأمين المكان المناسب لدراسة الفتاة بعيداً عن كلّ خطرٍ أخلاقيّ‏ٍ وتربويّ‏ٍ، وعلى الفتيات في هذا المجال أن يلتحقن بالفروع الدراسيّة المناسبة لشأنهنّ واستعدادهنّ، والمتوافقة مع حاجات المجتمع لهنّ.

الخوف من العلم
بعض الناس يخافون من انتشار العلم بين الناس، لأنّ ذلك سيقضي على منافعهم الذاتيّة الّتي أسسّوها على استغلال جهل الناس وبساطتهم، فيقولون: لو صار المجتمع متعلّماً، مع ما يمارسه بعض الناس من الفساد، لتعمّق الفساد، فالأُمّيّ الّذي يسرق القليل اليوم لن يكتفي به غداً وقد صار متعلّماً يعرف كيف يصل إلى أهدافه بيسرٍ وسهولةٍ.

والجواب: إنّ العلم وحده لا يضمن السعادة للناس، بل لا بدّ أن يقترن بالإيمان والالتزام، وحينها يكون علماً نافعاً، كما أنّ الصورة الّتي رسموها يمكن قراءتها بشكلٍ آخر، فكما أنّ اللصّ المتعلّم يختار ما يسرق بدقّة وعناية كذلك صاحب البيت المتعلّم يعرف كيف يحمي بيته من اللصوص، وكما أنّ العلم نور بيد اللصّ يبصّره طريقه كذلك هو نور بيد صاحب البيت يعرف به مكان اللصّ ويفضحه. فالعلم نور، إذا وجد مَنْ يستخدمه في الشرّ فلن يعدم من يستخدمه في الخير. أمّا الجهل فهو وبال محض، يستغلّه الشرّير لممارسة شروره، ويقف حائلاً بين المرء ومجابهة ما يُحاك له من المكائد والمؤامرات.

فإذا أردنا أن يكون لنا دين صحيح، وخلاص من الفقر، ومجتمع راقٍ ولائق، علينا أن ننهض في حركةٍ علميّةٍ واحدةٍ تُخرجنا ممّا أصابنا من الجهل والتخلُّف، وإلاّ سنكون قد ساهمنا مريدين أو غير مريدين في تدمير الإسلام والمجتمع الإسلاميّ، وفي منح الآخرين السيطرة والسلطة على الواقع الإسلاميّ كلّه.

انعكاسات التخلّي عن مكافحة الجهل
في كلّ البلدان الّتي تعاني من الجهل والفقر والتخلُّف نجد حضوراً قويّاً لمجموعاتٍ أجنبيّة، قد قطعت آلاف الأميال للوصول إلى تلك البقاع المحرومة من الأرض، وتحمّلت العناء والمرارة، وكلّ ذلك في سبيل نشر العلم والاهتمام بالجوانب الصحّيّة والإنمائيّة في تلك البلاد.

ونحن لا نريد الخوض في بيان أهداف هؤلاء من حركتهم، ولكنّنا نقول: هؤلاء يصلون إلى أماكن ومناطق لم تطأها قدمُ داعِيةٍ ومبلِّغٍ ومرشِدٍ من قبلُ، الأمر الّذي يعني أنّ هؤلاء المتستّرين بغطاء المساعدة الإنسانيّة، والهادفين إلى نشر أفكارهم وعقائدهم، سوف يتمكّنون من مل‏ء قلوب وعقول المساكين والفقراء والبُسَطاء من الناس هناك بما يريدون، وهذا أمر طبيعيّ، فالإنسان رهين الإحسان، ومَنْ سيُنقذ إنساناً من الجهل والفقر والتعاسة سيمتلك قلبه وعقله وروحه وفكره حتماً، فبماذا سنعتذر إلى الله ورسوله إذا ما ارتدّ هؤلاء الفقراء عن الإسلام، محتجّين بأنّهم كانوا -ولأربعة عشر قرناً- مسلمين فلم يعرفوا سوى الجهل والفقر والتخلُّف حتّى جاء أتباع الديانات الأُخرى فأنقذوهم وعلَّموهم وأخذوا بأيديهم في طريق الحضارة والتقدُّم؟ وبماذا سنجيب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو سألنا هل عملتم بما قلته لكم من أحاديث في طلب العلم؟

أقلّ الجهد
وهُنا لا يقولَنَّ أحد إنّ علينا والحال هذه أن نتصدّى لهؤلاء ونمنعهم من الوصول إلى تلك البلاد وتعليم الناس والاهتمام بقضاياهم الصحّيّة والإنمائيّة، فإنّ هذا كلام مرفوض من قِبَل العالَم، ومن قبل الشعوب الإسلاميّة الّتي تعاني من الفقر والجهل.
نعم يمكننا أن نقول إنّ علينا أن نستنفر كلّ طاقاتنا، ونبذل جهدنا لنشر العلم في تلك البقاع وإخراج الناس هناك ممّا هم فيه من الفقر والجهل والشقاء، وحينها لن تجد تلك الجماعات مكاناً لها في عقولٍ صارت قادرةً على التمييز بين صديقها وعدوّها.

القرآن يحثّ على التسابق في فعل الخير
وقد أكّد القرآن الكريم على وجوب التسابق نحو فعل الخير، حيث وضع المسلمين في حركة منافسةٍ مع الأُمَم الأُخرى في استخدام ما آتاهم الله عزَّ وجلَّ لتحقيق الخير والسعادة للناس، فقال: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ17.

النتيجة
إذن علينا أن نبدأ، وكفانا خمولاً وانزواءً، وطريق الألف خطوة تبدأ بخطوة، وحين يؤمن الناس حقّاً بأنّ العلم والتعليم فريضة إلهيّة، كالصلاة والصوم ونحوهما، ويمارسون ذلك كفريضةٍ سنشهد المعجزات في حركة النهضة العلميّة.

الخلاصة

حثّ الإسلام على طلب العلم، إلاّ أنّ بعضاً زعموا أنّ العلم يتنافى مع الدِّين ليُبعِدوا الناس عنه، ولكنّهم افتُضِحوا عندما استطاع آخرون أن يجمعوا عمليّاً بين الدِّين والعلم.
ولكنّ المتأمِّل في حال المسلمين اليوم يدرك أنّ المسلمين قد تخلَّوْا عن الالتزام بأوامر الإسلام بطلب العلم ونشره، فوصلوا إلى ما هم عليه من الجهل.

من الأسباب الّتي جعلت المسلمين ينصرفون عن طلب العلم:
1- ما كرّسه الحكّامُ المسلمون من التمايز الطبقيّ بين أفراد المجتمع.
2- ما لُقِّنَه الناسُ من وجوب تقديس العلماء والتقرُّب إليهم بدل الاهتمام بطلب العلم نفسه.
3- ما أثاره بعض من أنّ المطلوب تحصيله من العلوم شرعاً هو العلوم الدينيّة فقط.والحقُّ أنّ الإسلام قد دعا إلى تحصيل كلّ علمٍ نافعٍ للناس، والأدلّةُ على ذلك كثيرة، منها:
1- دعوة القرآن إلى التأمُّل ببعض الموضوعات تُعرَف اليوم بالعلوم الطبيعيّة والفلكيّة والحياتيّة.
2- سكوتُ المعصومين عليهم السلام عن حركة الترجمة الّتي نشطت في عصرهم بشكلٍ مُلفِتٍ للنظر.
3- الأحاديث الكثيرة الّتي تحثُّ على طلب العلم ولو كان عند المنافق أو المشرك، أو في بلاد الكفر.
رفض البعض أن تكون المرأة كالرجل في وجوب طلب العلم عليها، بدعوى عدم وجود أمكنة لتعلُّم الفتيات بعيداً عن أجواء الفساد والانحراف.
والصحيح أنّه يجب علينا أن نؤمّن الأماكن الملائمة للمرأة، ونحقّق ما تدعو الشريعةُ إليه من وجوب تعلُّم المرأة بعضَ العلوم، لتقوم ببعض الأعمال الّتي هي من مختصّاتها.
وذهب آخرون إلى أنّ العلمَ ذو آثارٍ سلبيّةٍ على المجتمع، حيث سيتمكّن الأشرار من استخدامه للإيقاع بالناس أكثر فأكثر.

والجوابُ: كما قد يستفيد الشرير من العلم للوصول إلى أهدافه، فإنّ المتعلّم الصالح سيتمكَّن من التصدّي لمكائد الأشرار.
فالطريق الوحيد للنجاة من التخلُّف والشقاء أن نؤمن حقّاً أنّ طلبَ العلم ونشره فريضة، فنسعى للخروج من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة.

والحمد لله ربّ العالمين.

*فريضة العلم , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- وسائل الشيعة، ج 27، ص 26، باب؛ من أبواب صفات القاضي، ج 16.
3- بحار الأنوار، ج 2، ص 32، باب 9، من كتاب العلم، ج 20.
4- راجع لسان العرب، ج 11، ص 159.
5- بحار الأنوار، ج 2، ص 32، باب 9 من كتاب العلم، ح 20.
6- تفسير القمي، ج 2، ص 401، كشف الظنون لحاجي خليفة، ج 1، ص 78.
7- كشف الخفاء للعجلوني، ج 2، ص 44.
8- من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 380.
9- نهج البلاغة، ج 4، قسم الحِكَم: الحكمة 80.
10- سورة العلق، الآيات: 1ـ 5.
11- إنّ سبب تسمية هذه العلوم بالدينيّة أو الإسلاميّة لا لأنّها خاصّة بالمسلمين. فإنّ الأدب العربي أو المنطق أو البلاغة غير مختصّة بالمسلمين، وإنّما هذه العلوم تداولت على أيدي علماء الإسلام وراجت كثيراً وازدهرت لما لها من الأثر الكبير في فهم القرآن والحديث، وبهذا السبب أخذت الطابع الإسلامي.
12- سورة البقرة، الآية: 164.
13- راجع سورة الجاثية، الآيات: 3ـ 5، سورة فاطر، الآيتان: 27ـ 28، وغيرها آياتٌ كثيرة.
14- أمالي الطوسي، 625.
15- كنز العمّال، ج 10، ص 216: "مِنْ سُئل عن علمٍ نافعٍ فكتمه جاء يوم القيامة ملجماً بلِجام من نار".
16- كمعرفة الله والنفس والمعاد وما يتعلّق بذلك.
17- سورة المائدة، الآية: 48.

2014-11-18