الفساد المالي والإقتصادي
مواعظ الكتاب
المال أمر يحتاجه الناس وهو في نفسه ليس مذموما أو ممدوحا، بل هو تابع في حكمه لمصدره ووجوه إنفاقه، وهذا يظهر من خلال الروايات منها ما عن الإمام الباقر عليه السلام - لما سئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فيها -: "هي خواتيم الله في أرضه،
عدد الزوار: 105
يقول الله تعالى في محكم كتابه:
﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾
1
تمهيد
المال أمر يحتاجه الناس وهو في نفسه ليس مذموما أو ممدوحا، بل هو تابع في حكمه
لمصدره ووجوه إنفاقه، وهذا يظهر من خلال الروايات منها ما عن الإمام الباقر عليه
السلام - لما سئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فيها -: "هي خواتيم الله في
أرضه، جعلها الله مصلحة لخلقه وبها تستقيم شؤونهم ومطالبهم، فمن أكثر له منها فقام
بحقّ الله تعالى فيها وأدّى زكاتها فذاك الّذي طابت وخلصت له، ومن أكثر له منها
فبخل بها ولم يؤدّ حقّ الله فيها واتخذ منها الآنية فذاك الّذي حقّ عليه وعيد الله
عزّ وجلّ في كتابه، قال الله:
﴿يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا
جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ
فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون﴾
2"3.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا خير فيمن لا يحبّ جمع المال من حلال، يكفّ
به وجهه ويقضي به دينه ويصل به رحمه"4.
ولكنّ المشكلة هي في سوء استفادت الناس من هذا المال، حيث نجدهم على أحوال شتّى،
وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أصناف من الناس وذكر في وصف الصنف
الثالث أنّهم: "يحبّون جمع المال ممّا حلّ وحرم، ومنعه ممّا افتُرض ووجب، إن
أنفقوه أنفقوا إسرافاً وبدارا، وإن أمسكوه أمسكوا بخلا واحتكارا، أولئك الّذين ملكت
الدنيا زمام قلوبهم حتّى أوردتهم النار بذنوبهم"5.
وبناء على الرواية الأخيرة وما يشاكلها من الروايات الّتي تذكر وجوه الفساد يمكن
الحديث عن وجوه الفساد المالي سواء من جهة تحصيل هذا المال أم من جهة إمساكه ومنع
الحقوق منه أم من جهة صرفه وطرق إنفاقه، وذلك ضمن جملة من العناوين:
جمع المال من الحلال والحرام
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾6. وقد
بيّن تعالى ما حرّم وما أحلّ من وسائل جمع المال. قال تعالى:
﴿وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾7.
فأمّا الحلال البيّن فلا حرج من الاستفادة منه. وأمّا الحرام البيّن فلا رخصة في
إتيانه -في حالة الاختيار-. وهناك منطقة بين الحلال البيّن والحرام البيّن، هي
منطقة الشبهات الّتي يلتبس فيها أمر الحلّ بالحرمة على بعض الناس، إمّا لاشتباه
الأدلّة عليه، وإمّا للاشتباه في تطبيق النصّ على هذه الواقعة أو هذا الشيء بالذات.
وقد جعل الإسلام من الورع أن يتجنّب المسلم هذه الشبهات ولكن أكثر الناس لا يكتفون
بالحلال بل يقدمون على الحرام ولا يعبأون بالشبهات، وهذا ما أدّى بهم إلى الوقوع في
حبائل الشيطان.
عن الإمام الصادق عليه السلام: "يقول إبليس لعنه الله: ما أعياني في ابن آدم فلن
يعييني منه واحدة من ثلاث: أخذ مال من غير حلّه، أو منعه من حقّه، أو وضعه في غير
وجهه"8.
من الوسائل المحرّمة في جمع المال
1 - الاعتداء على أموال الآخرين:
ويتمّ بأشكال مختلفة منها السرقة والغصب وتندرج تحت عنوان الظلم والمنكر.
ويتمّ الاعتداء على أموال الناس أحياناً بصورة سرّية وبعيداً عن نظر صاحب المال،
كالسطو على البيوت وسرقة أموال الناس، ويطلق على هذا النوع من الاعتداء المالي
عنوان (السرقة). وأحيانا يسلبون من الآخرين أموالهم حيلة وتزويراً وله أشكال
مختلفة. وهذا كلّه محرّم بلا إشكال.
قال تعالى:
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا
كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾9.
2 - أكل مال اليتيم:
إنّ من الأعراف القبَلية أنّه إذا تيتّم الطفل في أسرة، ولم يكن هناك مرجع قانونيّ
أو سلطة قضائيّة رسميّة لتعيِّن قيّما رسميّا عليه، فإنّ كبيرها يصبح وليَّه
تلقائيّا.
وكان وليُّ اليتيم ـ الّذي يعيش في كنفه ورعايته ـ يرى الخيار التامَّ لنفسه فيتملك
جميع أموال الطفل اليتيم ولا يمنعه مانع من هذا العمل، وهو الاعتداء على ماله. من
هنا يؤكّد القرآن الكريم مراراً وبإصرار على أن لا يتصرّف الكبار في أموال اليتامى
أو لا يقتربوا منها إلّا لمصلحة اليتيم.
قال تعالى:
﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ
بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ
حُوبًا كَبِيرًا﴾10.
ونهى عن التصرّف بأموال اليتيم قبل أن يبلغ إلّا بأفضل صورة:﴿وَلاَ
تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ﴾11.
3 - التطفيف في الميزان:
يعتبر التطفيف في الميزان من أقبح أنواع الظلم في التبادل التجاري، وقد شدّد القرآن
الكريم النهي عنه. وآيات القرآن الكريم تحكي على لسان النبيّ شعيب عليه السلام أنّ
التطفيف في المكيال كان أحد المفاسد الشائعة في قومه. قال تعالى:
﴿وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ
وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ
الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ
وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين﴾12.
4- التدليس والغشّ:
وهما من المحرّمات لما يترتّب عليهما من مفاسد وينطبق عليهما عنوان أكل المال
بالباطل الوارد النهي عنه في الآية الكريمة.
وورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "مر ّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلمفي سوق
المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلّا طيّبا وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّ
وجلّ إليه أن يدسّ يديه في الطعام ففعل فأخرج طعاما رديًّا، فقال لصاحبه: ما أراك
إلّا وقد جمعت خيانة وغشًّا للمسلمين"13.
هذا وتتعدّد مظاهر الغشّ، ومنها:
أ ـ الغشّ في البيع والشراء:
ويكون الغشّ فيهما بمحاولة إخفاء العيب، وفي ذاتيّة البضاعة أو عناصرها أو كمّيتها،
أو وزنها أو صفاتها الجوهريّة كخلط الحنطة الجيدة بالرديئة وشوب اللبن بالماء
والذهب بالنحاس ونحو ذلك.
ب ـ الغشّ في الزواج:
كأن يعمد الخاطب إلى التظاهر بأنّه صاحب جاه وأنّه يملك من العقارات والسيّارات
الشيء الكثير وهو لا يملك في الحقيقة شيئاً.
ومن الغشّ كذلك أن يعمد بعض الناس إلى تزكية الخاطب عند من تقدّم لهم، ومدحه
والإطراء عليه وأنّه من الصالحين، مع أنّه ليس كذلك. كما أنّه من الغشّ إخفاء عيوب
المطلوبة للزواج وإظهار أنّها في صحّة مثلاً بينما هي مريضة بمرض لا شفاء منه أو
بها عاهة مزمنة.
5 - الربا:
وهو من المعاملات الماليّة الّتي نهى القرآن الكريم والسنّة الشريفة المسلمين بشدّة
عن ممارستها. قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ
مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ
بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ﴾14.
والآيتان تشيران إلى أنّ الربا يؤدي إلى تكدّس الثروات وتمركزها بدون عمل وجهد
وبنحو غير مشروع، ويكون منشأ للخلل والفساد الاقتصادي في المجتمع عدا تبعاته
الأخلاقية القبيحة، حيث يدفع مجموعة من الأفراد نحو الكسل وطلب الراحة بدلا من
العمل والسعي النافع.
6 - إنفاق المال في غير وجه الحقّ:
وهذا يشمل صرف المال في الحرام أو في الحلال ولكن على نحو الإسراف والتبذير
يقول الإمام عليّ عليه السلام: "من كان له مال فإيّاه والفساد، فإنّ إعطاءك
المال في غير وجهه تبذير وإسراف، وهو يرفع ذكر صاحبه في الناس، ويضعه عند الله. ولم
يضع امرؤ ماله في غير حقّه وعند غير أهله إلّا حرمه شكرهم وكان خيره لغيره، فإن بقي
معه منهم من يريه الودّ ويظهر له الشكر فإنّما هو ملق وكذب"15.
وإذا كان لمال الغير حرمة تمنع التصرّف به إلّا بإذن مالكه. فإنّ لمال الإنسان نفسه
حرمة أيضا بالنسبة لصاحبه تمنعه أن يضيعه، أو يسرف فيه، وقد نهى الله تعالى
المؤمنين عن الإسراف والتبذير، كما نهى عن الشحّ والتقتير حيث قال سبحانه:
﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ
وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾16.
آثار الإسراف
هذا وللإسراف آثار ضارّة وهو قد يؤدّي إلى الانهيار في ساعات المحن والشدائد:
فالمسرف الّذي قضى حياته في الاسترخاء والترف فلم يألف المحن والشدائد لا يلبث أن
يضعف وينهار في الشدائد لأنّه لم يربي نفسه على تحمل الجوع والفقر والبلاء.
كما وأنّه لا يؤمن عليه من الوقوع تحت وطأة الكسب الحرام:
ذلك أنّ المسرف قد تضيق به السبل فلا يرعوي عن الدخول في الحرام حفاظا على حياة
الترف والنعيم الّذي ألفه، وقد يرتكب مختلف أنواع المفاسد كالسرقة والترهيب وأكل
المال بالباطل طمعا بما في أيدي الناس وتلبية لحاجاته الّتي اعتادها.
الطريق لعلاج الإسراف:
لا بدّ في محاربة الإسراف الّذي هو مرض خطير من مراعاة الأمور التالية، وهي:
1ـ التفكّر في الآثار والعواقب المترتبة على الإسراف وقد تقدم بيان بعضها.
2ـ مجاهدة النفس وحملها على الصبر عن شهواتها وتعويدها على تحمل المشاقّ والتخشّن.
3ـ معاينة سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهارعليهم السلام الّذين
ضربوا المثل الأعلى في الزهد والاكتفاء. بما قلّ من الطعام والشراب والمنام، وفي
ذلك حافز لنا على الاقتداء بهم.
4ـ الانقطاع عن صحبة المسرفين. فإنّ ذلك من شأنه أن يقضي على كلّ مظاهر الإسراف.
* قد جاءتكم موعظة ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- سورة التوبة، الآية: 34.
2- سورة التوبة، الآية: 35.
3- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص520.
4- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج1، ص20.
5- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج74، ص185.
6- سورة النساء، الآية: 29.
7- سورة البقرة، الآية: 275.
8- الخصال، الشيخ الصدوق، ص132.
9- سورة المائدة، الآية: 38.
10- سورة النساء، الآية: 2.
11- سورة الأنعام، الآية: 152.
12- سورةهود، الآيتان: 84- 85.
13- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج5، ص.
14- سورة البقرة، الآيتان: 278 - 279.
15- تحف العقول، الحرّاني، ص185.
16- سورة الأعراف، الآية: 31.
17- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج22، ص40.
18- سورة التوبة، الآيات: 75-78.