منطق التبرير
مفاهيم قرآنية
لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ.
عدد الزوار: 102
﴿لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ﴾(التوبة:48-50).
قصة الآية
قال جماعة من المفسرين: إن النبي صلى الله عيه وآله وسلم كان يعبئ المسلمين ويهيؤهم لمعركة تبوك ويدعوهم للتحرك نحوها، فبينا هو على مثل هذه الحال إذا برجل من رؤساء طائفة "بني سلمة "يدعى "جد بن قيس" وكان في صفوف المنافقين، فجاء إلى النبي صلى الله عيه وآله وسلم مستأذناً أن لا يشهد المعركة، متذرعاً بأن فيه شبقاً إلى النساء، وإذا ما وقعت عيناه على بنات الروم فربما سيهيم ولهاً بهن وينسحب من المعركة!! فأذن له النبي بالانصراف. فنزلت الآية أعلاه معنفة ذلك الشخص! فالتفت النبي صلى الله عيه وآله وسلم إلى بني سلمة وقال: من كبيركم؟ فقالوا: جد بن قيس، إلا أنه رجل بخيل وجبان، فقال: وأي شئ أبشع من البخل؟ ثم قال: إن كبيركم ذلك الشاب الوضئ الوجه بشر بن براء "وكان رجلاً سخياً سمحاً بشوشاً"1.
منطق التبرير
منطق التبرير هو من الأمراًض التي يُبتلى بها الناس، ولعله يظهر بوضوح في التكاليف العامة، والتي نعبّر عنها بالواجبات الكفائية، كالجهاد، دفع الحقوق الشرعية، كفالة الأيتام وغير ذلك.
يلجأ الإنسان إلى التخلف عن القيام بواجبه، ولكنه يسعى ليقنع نفسه أولاً، وليقنع الآخرين ثانياً، بأنه لم يتخلف عن أي واجب، بل هو لم يقم بهذا الواجب لعذر يراه مبرراً، وهو غير مبرر في واقع الأمر. ولو رجع إلى قرارة نفسه، وخلا بنفسه لعلم أنه مجرد تبرير ضعيف، يسعى من خلاله للتستر على مخالفته للواجب.ولمنطق التبرير هذا نماذجه الكثيرة في مجتمعنا الإسلامي، فتجد شخصاً موظفاً في مكان ما، أو قد أوكل إليه القيام بمهمة من المهام، ولكنه في نفسه يتقاعس عن القيام بها، أو لا يرغب في ذلك، كسلاً منه أو لمشقتها، فيبدأ بتبرير ذلك، بأن فلاناً المتولي لمنصب من المناصب لا يقوم بها، أو أن أحد زملائه في العمل لا يقوم بها، وهذا هو منطق التبرير، ولكنه لا يلتفت من جهة إلى أن من يتذرع بهم لعل لهم عذرهم أو لعل عليهم واجبات أخرى، كما لا يلتفت من جهة أخرى، إلى أنه لو وقع اولئك في التقصير والتخلف عن أداء الواجب فهذا لا يبرر له أن يقع في الأمر نفسه.
منطق التبرير، ذنب يضاف إلى ذنب
إن الشخص الذي يسيطر عليه منطق التبرير، سوف يضيف إلى معصيته وتخلفه عن أداء الواجب، معصيةً أخرى وذنباً آخر، فإنّه عندما يبرر ما يرتكبه من معصية أو ما يتخلف عنه فهو يدعو الغير إلى أن يتخذ نفس ذلك المنطق، ليفعل ما يفعله، ولذا كانت المعصية التي يتجاهر بها الإنسان أعظم من المعصية التي يتستر بها، لأن التجاهر بالمعصية يحمل دعوةً لسائر الناس لارتكابها، وقد ورد في الرواية رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم فيما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عليهم السلام: إن المعصية إذا عمل بها العبد سراً لم تضر إلا عاملها، وإذا عمل بها علانية ولم يعير عليه أضرت العامة. قال جعفر بن محمد عليهما السلام: وذلك أنه يذل بعمله دين الله، ويقتدي به أهل عداوة الله2.
منطق التبرير وانعدام التوبة
إن المذنب المعترف بذنبه يفتح الله عز وجل له باب التوبة، فلو دخل في هذا الباب لتمكن من أن يكفر عن ذنبه الذي ارتكبه، ولكن المذنب الذي لا يقرّ بذنبه بل يعتمد منطق التبرير لذنبه، فلن يدخل من خلال التوبة للتكفير عن ذنبه، لأنّه ومن خلال منطق التبرير لا يقرّ بذنبه إطلاقاً، فكيف يتوب؟
ولذا نقرأ قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾(التوبة:102).
وورد عن لإمام الباقر عليه السلام: والله ما ينجو من الذنب إلا من أقر به3.
بل إنّ ما ورد في الروايات يؤكد على أن الإقرار بالذنب هو باب للمغفرة ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام: لا والله ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين: أن يقروا له بالنعم فيزيدهم وبالذنوب فيغفرها لهم4.
منطق التبرير والإصرار على الذنب
من أعظم المخاطر التي يقع فيها المعتمد على منطق التبرير، هو أن يقع في إثم آخر وهو الإصرار على الذنب، فقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: الندم استغفار، الإقرار اعتذار، الإنكار إصرار5.
إن المصر على ذنبه، والذي يسعى للتستر على ذنبه بمنطق التبرير، وهو يعلم يقيناً أن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية، وأنه يعلم حقيقة ما يقوم به، يكون ممن يرتكب كبيرا لأنه يأمن بذلك من مكر الله، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: الإصرار أمن، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون6.
منطق التبرير والاستخفاف بالذنب
من المخاطر أيضاً التي تحيط بمنطق التبرير، أن يعيش الذي يعتمد على هذا المنطق حالة من الاستهانة والاستخفاف بالذنب. وهذا ما ورد التحذير عنه لأنه من المفاسد التي تجر الإنسان من معصية إلى أخرى، وفي يوم القيامة سوف يُسأل الانسان عن كل ما اقترفه صغيرا كان أو كبيرا، ففي الرواية عن رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم: يا بن مسعود، لا تحقرن ذنبا ولا تصغرنه، واجتنب الكبائر، فإن العبد إذا نظر يوم القيامة إلى ذنوبه دمعت عيناه قيحا ودما يقول الله تعالى "يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرمحضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا"7.
فلا بد وأن يشعر الإنسان بالمسؤولية تجاه ما ارتكبه من ذنب، بل أن يشعر بثقل الذنب وإن كان صغيرا، ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم: إن المؤمن ليرى ذنبه كأنه تحت صخرة يخاف أن تقع عليه، والكافر يرى ذنبه كأنه ذباب مر على أنفه8.
بل إنّ من التوفيق الإلهي الذي يحيط بالإنسان أن يتذكر ذنبه، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا أراد بعبد خيراً جعل ذنوبه بين عينيه ممثلة والإثم عليه ثقيلاً وبيلاً، وإذا أراد بعبد شراً أنساه ذنوبه9.
للمطالعة
هاروت وماروت ملكان إلهيان جاءا إلى الناس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين، وكان هدفهما تعليم الناس سبل إبطال السحر، وكما إن إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم الناس أصول السحر، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر. وسقط أولئك اليهود في الفتنة، وتوغلوا في انحرافهم، فزعموا أن قدرة سليمان لم تكن من النبوة، بل من السحر والسحرة. وهذا هو دأب المنحرفين دائماً، يحاولون تبرير انحرافاتهم باتهام العظماء بالإنحراف. هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي، فأخذوا العلم من الملكين واستغلوه على طريق الإفساد لا الإصلاح، لكن قدرة الله فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه: فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. لقد تهافتوا على اقتناء هذا المتاع الدنيوي وهم عالمون بأنه يصادر آخرتهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق. لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون. لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي، وغرقوا في مستنقع الكفر والانحراف ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون10.
*منازل الآيات، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، نيسان2009، ص87-92.
1- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 6 ص 73.
2- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 3 ص 1947.
3- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 341.
4- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 341.
5- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 1 ص 341.
6- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 993.
7- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 74 ص 101.
8- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 991.
9- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 991.
10- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الشيخ ناصر مكارم الشيرازي ج 1 ص 316.