يتم التحميل...

الفراغ القاتل

مواعظ الكتاب

روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "خصلتان كثير من الناس مفتون فيهما، الصحّة والفراغ".الوقت والعمر والأيّام، الليل والنهار والدقائق واللحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله عزّ وجلّ عليه.

عدد الزوار: 105

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون1.

تمهيد
روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "خصلتان كثير من الناس مفتون فيهما، الصحّة والفراغ"2.
الوقت والعمر والأيّام، الليل والنهار والدقائق واللحظات رأس مال العبد، وهو نعمة من أعظم نعم الله عزّ وجلّ عليه.

وقد أقسم الله عزّ وجلّ بالزمان لأهميّته في العديد من آيات القرآن, فقد أقسم بالعصر، وبالليل والنهار، وبالفجر وبالضحى، فقال عزّ وجلّ: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر3.

وقال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى4.

وقال تعالى: ﴿وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى5.

وقال تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ6.
وقيمة الزمن تكمن في أنّ الله عزّ وجلّ جعله فرصة للإيمان، والعمل الصالح، وهما سبب السعادة في الدنيا والآخرة.

نعمة العمر
عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه؟ وشبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه؟ وعن حبّنا أهل البيت"7.

فيسأل العبد يوم القيامة سؤالين عن الزمن، عن عمره فيما أفناه عامّة، وعن شبابه فيما أبلاه خاصّة.

والمغبون هو الّذي باع شيئاً بأقلّ من ثمنه، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه، فالصحّة والوقت نعمتان عظيمتان، أكثر الناس لا يستفيد منهما ويضيّعهما ثم يندم عليهما، وخطر الأوقات والأنفاس كذلك مع كونهما رأس مال العبد وفرصة الأعمال الصالحة، أنّ عدد الأنفاس الّتي قدّرها الله عزّ وجلّ لنا غيب، فلا ندري متى تذهب أنفاس حياتنا.

قال أمير المؤمنين عليه السلام : "نفس المرء خطاه إلى أجله"8.

فالله عزّ وجلّ قدّر لنا عدداً محدداً من الأنفاس فكلما تنفّس العبد نفسا سجّل عليه، حتّى يصل العبد إلى آخر العدد المقدّر له، عند ذلك يكون خروج النفس وينتقل العبد من دار العمل ولا حساب إلى دار الحساب ولا عمل.

وإنّما يدرك العبد خطر الوقت والعمر إذا فقد هذه النعمة فعند ذلك يتمنّى أن يرجع إلى الدنيا لا من أجل أن يجمع حطامها وشهواتها، بل من أجل أن يجتهد في طاعة الله عزّ وجلّ.

قال تعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ9.

وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِير10.

فالعمر والوقت نعمة من الله عزّ وجلّ، فمن شكرها بطاعة الله عزّ وجلّ وأنفقها في سبيل الله تقول له الملائكة يوم القيامة: ﴿ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾11 ، وتقول له في الجنّة: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ12.

فينبغي على العبد أن يعرف خطر الأوقات واللحظات، وكان بعض الحكماء ممّن يقدر قيمة الوقت إذا جلس الناس عنده فأطالوا الجلوس يقول: "أما تريدون أن تقوموا، قد كان قبلكم أقوام أحرص على أوقاتهم من حرصكم على دنانيركم ودراهمكم".

الفراغ قد يكون جالباً للشرور والمفاسد
لا ينبغي للمؤمن أن يكون عنده فراغ، بل هو جادّ متهيّئ للقاء الله عزّ وجلّ فالأمم المتحضّرة في عالم المادّة تحسب الثواني لأنّها تسابق الزمن، والمؤمن أولى وأحرى وأجدر وأقدر.

لام الله المفرطين في أوقاتهم فقال جلّ اسمه: ﴿قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُون13.

عند كثير من الشباب فراغ لا يدرون كيف يصرفونه، عندهم كتب العلم والمعرفة ولكن بينهم وبين المطالعة عقبة بل عقبات..
ومن الأزمات الّتي نعاني منها عدم الإحساس بقيمة الوقت، ولا ندري كيف نستفيد منه وكأنّه عبء على ظهورنا نريد التخلّص منه, بل يقيم الكثيرون أعيادا لميلادهم، مع أنّ اللازم أن يحزنوا على فراق هذه الأيّام وتفويتها لأنّهم لم يستغلّوها كما ينبغي.

فالوقت يمضي سدى, لا مطالعة، لا ذكر، لا قراءة, لا عمل بل بطالة وتضييع بانتظار ما هو أشدّ وأدهى ﴿يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا14.

إنّ أخطر حالات الذهن يوم يفرغ صاحبه من العمل فيبقى كالسيارة المسرعة في انحدار بلا سائق، تجنح ذات اليمين وذات الشمال.
والسبب هو أنّ هذا الفارغ لا همّ له إلّا أن يقتل وقته كيفما كان، فهو لا يملك قيادة نفسه بل هو منقاد لكلّ ما يحقّق له تجاوز هذا الزمن ولو بما حرّم الله.

لذلك كان الفراغ من جملة الأسباب الداعية إلى ارتكاب المفاسد، ومن هنا كان الإمام زين العابدين عليه السلام يرشدنا في دعائه إلى خطورة الفراغ فيقول عليه السلام : "فإن قدّرتَ لنا فراغاً من شغل فاجعله فراغ سلامة, لا تدركنا فيه تبِعة, ولا تلحقنا فيه سآمة, حتّى ينصرف عنّا كتّاب السيّئات بصحيفة خالية من ذكر سيّئاتنا, ويتولّى كتّاب الحسنات عنّا مسرورين بما كتبوا من حسناتنا"15.

ويقول في دعاء مكارم الأخلاق : "اللّهمّ صلّ على محمّد وآله, واكفني ما يشغلني الاهتمام به, واستعملني بما تسألني غداً عنه واستفرغ أيّامي في ما خلقتني له"16.

الفراغ سبب للهمّ والغمّ
وذلك لأنّ هذا الفراغ يسحب لك ملفّات الماضي والحاضر والمستقبل من أدراج الحياة.
إنّ الفراغ أشبه بالتعذيب البطيء الّذي يمارَس في سجون مدّعي الحضارة,حيث يوضع السجين تحت أنبوب يقطر كلّ بضع ثوان قطرة، وفي فترات انتظار هذه القطرات يُصاب السجين بالجنون..

الفراغ محرّك لكلّ النوازع المكبوتة والرغبات الشهوانيّة
الفراغ ينعكس على صورة الفرد عند ذاته حيث يرى نفسه وقد أصبح بلا جدوى ولا منفعة، أصبح أنسانا بلا هدف وحياة بلا روح, لا معنى لوجوده ممّا يجعله يبحث عن الهروب والميل إلى الحيل النفسيّة بعيداً عن المواجهة وتحمل المسؤوليّة فتجده قد يستخدم المسكرات والمخدّرات والبحث عن الرذيلة علّه يجد متعة أو لذّة، ولقد بيّنت الأبحاث والدراسات الّتي أجريت على مرتكبي الجرائم والمخالفات أنّ الفراغ هو المحرك لكلّ النوازع المكبوتة والرغبات الشهوانيّة.

يقول الشاعر:

إنّ الشباب والفراغ والجدة            مفسدة للمرء أيّ مفسدة


إنّ استغلال الوقت واستثماره له فوائد عظيمة على الشابّ نفسه والأسرة والمجتمع، كما إنّ ضياع الوقت أو العبث قد يكون سبباً في تدهور شخصيّة الشاب.
إذاً: املأ وقتك ولا تستسلم للفراغ, صلِّ، اقرأ، طالع، اكتب، اعمل، تحرّك، انفع غيرك, حتّى تقضي على الفراغ فإنّ النفس إذا لم تُشغل بالطاعة شُغلت بالمعصية.

كيف نواجه الفراغ؟
لابدّ للمؤمن وهو يعيش في هذا المجتمع المحاط بالأجواء الموبوءة أن يحصّن نفسه ضدّ عوارض ومخاطر الفراغ، ولا بدّ له أن يخلق الأجواء الدينيّة المناسبة لهذا التحصين، عملاً بقوله تعالى ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ والتزاما بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته"17، وأوّل ما سنسأل عنه هو هذه النفس, أين وضعناها وفي أيّ طريق سلكنا بها؟

ويتمّ ذلك التحصين من خلال أمور منها:
1- الالتزام بالمواظبة على تلاوة بعض من آيات القرآن الكريم كلّ يوم بقدر الإمكان، أو أقلّه بالإنصات إلى مقرئيها بخشوع وتدبّر وتفكر، ففيها ﴿بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ18 ذلك أنّه "ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى، واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد بعد القرآن من غنى، فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم فإن فيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال فاسألوا الله به وتوجهوا إليه بحبّه ولا تسألوا به خلقه إنّه ما توجه العباد إلى الله بمثله، واعلموا أنه شافع مشفّع وقائل مصدّق وأنّه من شَفَعَ له القرآن يوم القيامة شفِّع فيه"19 وأنّه "من قرأ القرآن وهو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله عزّ وجلّ مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة"20. كما أنّ من المفيد استغلال أوقات الفراغ في مطالعة التفاسير القرآنيّة المعروفة.

2- قراءة ما تيسّر من الأدعية والمناجاة والأذكار، فهي مذكّرة بالذنوب حاثّة على التوبة، داعية إلى اجتناب السيّئات والتزوّد بالحسنات، وهي معراج المؤمن إلى بارئه، أمثال أدعية الصحيفة السجّاديّة للإمام زين العابدين عليه السلام.

3- كثرة التردّد إلى المسجد خاصّة عندما نشعر بالضيق والفراغ الشديد فما أجمل من أن نقضي وقتنا في بيت الله نشكره على نعمه ونحمده على بلاءه ونسأله الرحمة والهداية، فعن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في وصيّته له، قال: "يا أبا ذر إنّ الله يعطيك ما دمت جالساً في المسجد بكلّ نفَس تتنفّس فيه درجة في الجنّة، وتصلّي عليك الملائكة، ويكتب لك بكلّ نفس تنفّست فيه عشر حسنات، ويمحى عنك عشر سيّئات"21..

4- قراءة الكتب والمجلّات والصحف الإسلاميّة والعلميّة للاستفادة منها، وكذا مشاهدة البرامج التلفزيونيّة المفيدة والهادفة.

5- اتخاذ أصدقاء صالحين في الله، يرشدهم ويرشدونه، ويقوّمهم ويقوّمونه، ويقضي معهم أوقات الفراغ بالمفيد، ويتخلّص بهم من قرناء السوء، ومن العزلة وسلبيّاتها، فقد روى الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث، ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الإسلام مثل أخ يستفيده في الله"22 ، وعن ميسَر قال: قال لي الإمام أبو جعفر الصادق عليه السلام: "أتخلون وتتحدّثون وتقولون ما شئتم؟ فقلت : أي والله إنّا لنخلوا ونتحدّث، ونقول ما شئنا فقال: أما والله لوددت أنّي معكم في بعض تلك المواطن، أما والله إنّي لأحبّ ريحكم وأرواحكم وإنّكم على دين الله ودين ملائكته فأعينوا بورع واجتهاد"23.

6- محاسبة الإنسان نفسه كلّ يوم، أو كلّ أسبوع، عمّا فعله وعن وقته وساعات حياته أين أمضاها، فإن كان خيراً شكر الله على ذلك واستزاد منه، وإن كان شرَّا استغفر وتاب عنه، وعزم أن لا يعود إليه كرّة أخرى، فقد أوصى النبيّ الكريم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذرّ بذلك قائلاً له: "يا أبا ذرّ حاسب نفسك قبل أن تحاسب، فإنّه أهون لحسابك غداً، وزن نفسك قبل أن توزن، وتجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على الله خافية... يا أبا ذرّ لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه.."24.

* قد جاءتكم موعظة , سلسلة الدروس الثقافية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- سورة المؤمنون، الآية: 115.
2- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج81 ، ص170.
3- سورة العصر، الآيات: 1- 3.
4- سورة الليل، الآيتان: 1- 2.
5- سورة الضحى، الآيتان: 1- 2.
6 - سورة الفجر، الآيتان: 1- 2.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج7، ص258.
8- م. ن، ج70، ص128.
9- سورة المنافقون: الآيتان: 10- 11.
10- سورة فاطر، الآية: 37.
11- سورة النحل، الآية: 32.
12- سورة الحاقّة: الآية: 24.
13- سورة المؤمنون، الآيات: 112- 115.
14- سورة النبأ، الآية: 40.
15- الصحيفة السجّاديّة، الدعاء 11.
16- م. ن، الدعاء 20.
17- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج72، ص38.
18- سورة الأعراف، الآية:203.
19- نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام، ج 3، ص 91.
20- الكافي، الشيخ الكلينيّ ، ج 2 ، ص603.
21- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ، ج 12، ص 233.
22- م. ن، ج4، ص117.
23- الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج2،ص187.
24- وسائل الشيعة، الحرّ العامليّ،ج16، ص98.

2014-10-10