حبّ الجاه والعزة الموهومة
مفاهيم قرآنية
عند عودة الناس من إحدى الغزوات إذ وردت واردة الناس1 ومع أحد المسلمين أجير له من المهاجرين يقود فرساً، فازدحم المهاجري مع رجل من بني عوف بن خزرج وهم من الأنصار على الماء فاقتتلا فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار؛ وصرخ الغفاري...
عدد الزوار: 109
﴿هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ * يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(المنافقون:7-8)
قصة الآية
عند عودة الناس من إحدى الغزوات إذ وردت واردة الناس1 ومع أحد المسلمين أجير له من المهاجرين يقود فرساً، فازدحم المهاجري مع رجل من بني عوف بن خزرج وهم من الأنصار على الماء فاقتتلا فصرخ الأنصاري: يا معشر الأنصار؛ وصرخ الغفاري: يا معشر المهاجرين؛ فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال وكان فقيراً فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك؟ واشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله: والذي يحلف به لازرنك ويهمك غير هذا. وغضب ابن أُبيّ وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أُبيّ قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئاًً من ذلك قط وإن زيداً لكاذب، وقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه. فعذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفشت الملامة من الأنصار لزيد. ولما استقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت.
هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكاً. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلاً فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا2.
حبّ السلطة من أعظم الأمراًض
إن من أعظم ما يُبتلى به الإنسان المؤمن ويؤدي إلى خروج هذا الإنسان من الإيمان إلى الكفر هو تعلّقه بالسلطة والجاه، فإنّه يفتك بكل مقومات إيمان المسلم وقد ورد في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ذئبان ضاريان أُرسلا في زريبة غنم، بأكثر فساداً فيها من حبّ المال والجاه في دين الرجل المسلم3.
وإنّما كان التعلّق بالرئاسة أخطر من التعلّق بالمال أو الدينار لأنّ الإنسان قد يبذل المال لأجل الوصول إلى السلطة والجاه دون العكس، فقد ورد في الرواية عن الإمام زين العابدين عليه السلام: إن في الناس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدنيا للدنيا، ويرى أن لذة الرئاسة الباطلة أفضل من لذة الأموال والنعم المباحة المحللة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة4.
وهذا خير شاهد على شدّة تعلق الإنسان بالجاه والسلطة، وكون ذلك من أقوى مكائد الشيطان وأشدها فتكاً بالإنسان.
آفات حبّ الرئاسة
1- التكبّر والفخر
إن من البلاءات التي يبتلي بها طالب الرئاسة وهو من أعظم المفاسد الأخلاقية التكبّر، فالإنسان المتعلّق قلبه بحبّ الرئاسة متى رأى الناس تمشي خلفه وتنصاع أوامره، أُصيب بذلك الداء فقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: إياكم وهؤلاء الرؤساء الذين يترأسون، فوالله ما خفقت النعال خلف رجل إلا هلك وأهلك5.
إن الشخص الذي يترأس الناس يبدأ بالتفاخر عليهم، وقد ورد في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: آفة الرئاسة الفخر6.
2- ظلم الناس
إن تولّي الرئاسة والسلطة يُلقي على عاتق الإنسان مسؤولية إقامة العدل بين الناس، وأي تقصير في ذلك يجعل الإنسان مسؤولاً أمام الله عز وجل عن ذلك، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول من يدخل النار أمير متسلط لم يعدل7.
ولا ينحصر مصداق هذه الرواية بمن يتولى رئاسة الدولة أو المناصب العليا، بل يشمل حتى المسؤوليات الصغيرة والتي يكون المتصدي لها مسؤولاً عن دائرة ضيقة من الناس أو من الأعمال.
3- النفاق
إنّ من المورثات التي تنتقل إلى من يحب الرئاسة النفاق، وهي أخطر ما يمكن أن يعيشه من يحب الرئاسة، أنّه وفي سبيل الرئاسة يسعى لمهادنة الناس واحداً بعد آخر، وأن يَظهر بوجهٍ حسنٍ أمام كل واحد منهم ولو كان ذلك مستلزماً لأن يكون ذا وجهين، وقد ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: ورأيت الرجل يطلب الرئاسة لعرض الدنيا ويشهر نفسه بخبث اللسان ليتقي وتسند إليه الامور8.
العزة الحقيقية والعزة الموهومة
أولا: العزة الحقيقية
العزة لله ولرسوله وللمؤمنين
العزة هي صفة تجعل الإنسان في مكانة ينال فيها الاحترام والتقدير، عن حق وبأسباب ورد عدّها في الروايات موجبة للعزة. فما هي موجبات العزة الحقيقية:
أعظم العز
1- العبودية لله
إذا أدرك الإنسان حقيقة الذات الإلهية، وعرف الله عزّ وجل حق المعرفة، فإنّه سوف يرى أعظم العز في أن يكون عبداًً لله عز وجل، وقد ورد في إحدى مناجاة أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداًً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً9.
وقال تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ﴾( فاطر:10)
2-الطاعة لله
إذا كان كل ما في هذا الكون خاضع لله عز وجل وطوع إرادته، فإن العزّ الذي يناله الإنسان لا يكون إلا بالطاعة لمن بيده أمر هذا الكون، ولذا ورد في الروايات بيان طريق نيل العزّة من خلال سلوك طريق الطاعة فعن الإمام الصادق عليه السلام: من أراد عزا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان فلينتقل من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعته10.
وعن الإمام علي عليه السلام: لا عزّ كالطاعة11.
ثانيا: العزّة الموهومة
1- العزة بالمال والدنيا:
يظن الكثير من الناس أن العزيز هو الذي يملك المال والدنيا، يتصرف كما يشاء ويمتنّ على الآخرين بالعطايا، وهو مفهوم خاطئ فلربّ فقير في المال غني في نفسه، بينما صاحب المال يعيش الذل، لحرصه على المال، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سئل: أي ذلّ أذل؟ قال: الحرص على الدنيا12.
كما ورد في روايات أخرى ذم الطمع بالدنيا وأنه موجب للذل، فعن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: ثمرة الطمع ذل الدنيا وشقاء الآخرة13.
2- العزة بالعشيرة
إن العصبية العمياء قد تقود الإنسان إلى المهالك، فهو يرى في العشيرة عزّةً وإن كانوا قوماً لا يعرفون الله عز وجل، وهذا ما حاول أن يفتخر به عبد الله بن أبي، في الحادثة التي نزلت فيها الآية وهذه العصبية المذمومة هي التي تعرّضت لها الروايات فقد ورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام لما سئل عن العصبية: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراًً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم14.
فهذا إبليس أراد أن يعتزَّ بأصله وأنّه من نار فوقع في أعظم المعاصي وقد ورد في رواية عنه عليه السلام أيضاً: اعترته الحميَّة، وغلبت عليه الشقوة، وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال15.
للمطالعة
ورد في كتاب بحار الأنوار
(اعلم أن المتكبر عليه هو الله أو رسله أو ساير الخلق، فهو بهذه الجهة ثلاثة أقسام الأول التكبر على الله، وهو أفحش أنواعه ولا مثار له إلا الجهل المحض والطغيان، مثل ما كان لنمرود وفرعون. الثاني التكبر على الرسل والأوصياءعليهم السلام كقولهم: "أنؤمن لبشرين مثلنا" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" "وقالوا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتواً كبيراً" وهذا قريب من التكبر على الله عز وجل، وإن كان دونه، ولكنه تكبر عن قبول أمر الله. الثالث التكبر على العباد، وذلك بأن يستعظم نفسه، ويستحقر غيره فتأبى نفسه عن الانقياد لهم، وتدعوه إلى الترفع عليهم، فيزدريهم ويستصغرهم ويأنف عن مساواتهم، وهذا وإن كان دون الأول والثاني فهو أيضاًً عظيم من وجهين: أحدهما أن الكبر (والعزة والعظمة لا يليق إلا بالمالك القادر فأما العبد الضعيف الذليل المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء، فمن أين يليق به الكبر) فمهما تكبر العبد فقد نازع الله تعالى في صفة لا تليق إلا بجلاله، وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى " العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته " اي أنه خاص صفتي ولا يليق إلا بي، والمنازع فيه منازع في صفة من صفاتي، فإذا كان التكبر على عباده لا يليق إلا به، فمن تكبر على عباده فقد جنى عليه، والوجه الثاني أنه يدعو إلى مخالفة الله تعالى في أوامره، لأنَّ المتكبر إذا سمع الحق من عبد من عباد الله، استنكف عن قبوله... وذلك من أخلاق الكافرين والمنافقين، إذ وصفهم الله تعالى فقال: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون" وكذلك يحمل ذلك على الأنفة من قبول الوعظ كما قال تعالى: "وإذا قيلَ لهُ اتقِ الله أخذته العزة بالإثم"16.
*منازل الآيات، إعداد ونشر جمعية المعارف اسلامية الثقافية، ط1، نيسان2009، ص7-14.
1- الواردة: هم الناس الذين يأتون الى مواضع المياه.
2- تفسير الميزان السيد الطباطبائي ج 19 ص 283 – 284.
3- جامع السعادات محمد مهدي النراقي ج 2 ص 36.
4- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 2 ص 84.
5- الكافي الشيخ الكليني ج 2 ص 297.
6- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1007.
7- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 66 ص 393.
8- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 52 ص 258.
9- روضة الواعظين الفتال النيسابوري ص 109.
10- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 68 ص 178.
11- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 3 ص 1958.
12- معاني الأخبار الشيخ الصدوق ص 198.
13- ميزان الحكمة محمد الريشهري ج 2 ص 1741.
14- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 70 ص 288.
15- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 74 ص 303.
16- بحار الأنوار العلامة المجلسي ج 70 ص 194-196.