العقل البشري ومعرفة الله
فكر الشهيد مطهري
يؤكد العلماء العاملون في مجال تحليل العقل البشريّ، أنّ هذا العقل إنّما يدرك الأشياء ويتعرّف عليها من خلال مقارنتها بما يقابلها، ولا وسيلة له لمعرفة الأشياء سوى هذه الوسيلة.
عدد الزوار: 103
معرفة الأشياء
بأضدادها
يؤكد العلماء العاملون في مجال تحليل العقل البشريّ، أنّ هذا العقل إنّما يدرك
الأشياء ويتعرّف عليها من خلال مقارنتها بما يقابلها، ولا وسيلة له لمعرفة الأشياء
سوى هذه الوسيلة.
وعليه، فإنّ الإنسان سيقف عاجزاً عن إدراك الشيء الذي لا مقابل له حتى ولو كان
بمنتهى الجلاء والوضوح.
هذا هو المقصود من العبارة الشائعة على ألسن العلماء: "تُعرف الأشياء بأضدادها".
وكما في بيت شعرٍ مشهور:
ضدّان لمّا استجمعا حسُنا
والضدُّ يظهر حسنه الضدُّ
لو غمر النور هذا العالم، وكان الكون سابحاً في نور كليّ لا يحجبه ساتر ولا حائل،
بحيث ينتشر في جميع الأنحاء بدرجة متساوية، لعجز الإنسان عن إدراك هذا النور، ولما
علم بأنّ رؤيته للأشياء إنما يعود الفضل فيهاإليه. فلولا حلول الظلام لما عرف
الإنسان النور ولكان خفيّاً عليه.
إذاً هذا النور الذي هو أظهر وأوضح كلّ شيء، بل هو مُظهر الأشياء، "ظاهر في
نفسه مظهر لغيره"، فإن ظهوره لا يكفي ليدركه الإنسان، وإنما يدركه لأنه يأفل
ويزول ويحلّ الظلام المقابل له محلّه، وهذا النقص، وكما هو واضح، يرجع إلينا لا إلى
النور!.
وكذا لو عمّت الظلمة ولم يغمرها النور يوماً لما كنّا لندرك أنّنا في ظلمة أبداً،
فإدراكنا للنور والظلام هو بالمقابلة بينهما.
هكذا حال من يعيش بشكل دائم ومستمر في محيطٍ طيّب الرائحة، أو خبيثها، بحيث لا يخرج
من هذا المحيط أبداً، فإنّه لن يشمّ تلك الرائحة أبداً، أو من يعيش عمره لا يطرق
سمعه سوى نغمة واحدة، فإنّه يفقد الإحساس بها...
يقول أحد العلماء القدامى، إنّ هناك موسيقى رتيبة تنبعث دائماً من حركة الأفلاك،
ولكن بما انّ النّاس يسمعونها بلا انقطاع فإنّهم لا يسمعونها أبداً!!وللسبب عينه
يفقد الأغنياء إحساسهم باللذائذ، والفقراء شعورهم بالآلام... وسِق في هذا المجال
جميع الأمثلة: القدرة والعجز، العلم والجهل، الخير والشرّ...
السمكة والماء
وحكاية السمكة، التي عاشت طيلة حياتها في الماء من دون أن تخرج منه يوماً، معروفة،
حيث أنّها راحت تتساءل: ترى ما هو الماء الذي يتحدثون عنه ويقولون بأنّه سبب حياتنا؟!
وفي أيّ مكان يوجد هذا الذي يسمونه ماءً؟! لماذا لا أراه؟!
ولسوء حظها لم يُكتب لها أن تُدرك وتعرف هذا الماء الذي كانت تنعم فيه باستمرار إلا
عندما قدّر لها الوقوع خارجه، حينما ضاق نفسها لانعدام الماء، عندئذ فقط عند النقطة
المقابلة للماء أمكنها أن تعرفه.
هذا مجرّد مثال يستخدمه العلماء لتقريب حقيقة أنّ العقل إنما يدرك الأشياء عَبر
أضدادها، وأنّ ظهور حقيقة واحدة، بلا وجود مقابل لها، لا تكفي لحصول الإدراك عند
البشر.
وهذا في الواقع نوع ضعف ونقص في جهاز الإدراك لدى البشر، كما هو واضح.
العقل ومعرفة الله
الله نور مطلق، نور ليس في أكنافه ذرّة ظلام، هو نور العالم كلّه.
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾1.
إنّه نور أزليّ سرمديّ، لا غروب له ولا أفول، نور عمَّ كلَّ الأشياء،
﴿... فَأينمَا تُولُّوا فثَمَّ وجهُ اللهِ...﴾2.
فهو الظاهر بشكل دائم ومطلق، بل ظهور كلّ شيء به:
"وبنور وجهك الذي أضاء له كلّ شيء.."3.
وجهاز إدراك الإنسان الذي لا يدرك الأشياء إلا بمقابلها كما سلف وذكرنا ، فإنّه لن
يكون في مقدوره أن يدرك هذا النور الإلهيّ الدائم بنفسه، ولن يدرك الذات الإلهيّة
الظاهرة بنفسها، إنّه يحتاج إلى المقابل والضدّ دائماً.
لو كانت الذات الإلهية تظهر مرة وتأفل أخرى جلّ الله وعلا عن ذلك لأدركها الإنسان
وعرفها بنفسها، أمّا والنور الإلهي دائم.
﴿.. لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ
نَوْمٌ...﴾4.
فسيكون العقل البشريّ قاصراً عن إدراكه بنفسه، فالأمر مشابه تماماً لما تقدم ذكره:
لعاش في نور دائم من غير ظلمة لما أدرك هذا النور، لو كان يشتمّ نوعاً واحداً من
الرائحة لما أحسّ بها، ولو لم يطرق سمعه سوى نغمة واحدة لما تنبّه إليها...
كذلك فإنّ مدارك البشر القاصرة لن تكون قادرة على إدراك نور ذات الله الدائم المحيط،
الأزلي الأبديّ، بنفسه...
وهذا معنى قول الحكماء الذين يقولون: "إنّ شدّة ظهوره جلّ وعلا ظهور في خفاء"..يا
من قد اختفى لفرط نوره الظاهر الباطن في ظهوره
فكيف يمكن للعقل أن يعرف الله؟
معرفة النفس مقدّمة لمعرفة الله يحتاج هذا العقل إذاً إلى المقابل للتعرّف على
الذات الإلهيّة الكاملة المطلقة، إنّه بحاجة إلى ظلمة تجعله يتنبّه إلى أنّه محاط
بالنور، فأين هي هذه الظلمة؟ إنّ الإنسان إذا التفت إلى نفسه، فإنّه سيرى ما فيها
من نقص وفقر وضعف وقصور، حينها سيدرك الصفات المقابلة لما في نفسه والتي تحيط به،
سيعرف الله بكماله المطلق، بغناه وقدرته.
هكذا يمكننا أن نفهم شيئاً ممّا ورد في الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه
وآله:"من عرف نفسه فقد عرف ربّه"5.
هذه سنّة التكوين، وهذا سر من أسرار ضعف الإنسان أن يعرف الله من خلال ما يقابله من
نواقص، إنّه القصور في جهاز الإدراك الإنساني.وكلما غاص الإنسان وتعمّق في معرفة
نفسه ونقصها، فإنّه سيترقى في سلّم معرفة ربّه وكماله المطلق، سيكون حينها قابلاً
لأن يعرف الله أكثر فأكثر.
معرفة الله بواسطة مخلوقاته
هذا ويمكن للإنسان أن يعرف الله بواسطة مخلوقاته وأفعاله، فهذه المخلوقات هي أنوار
خلقها الله وبعثها أشعة تهدي إليه.
فالحياة نور إلهيّ:
﴿﴿وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ
الْوَارِثُونَ﴾6.
والنهار نور إلهيّ:
﴿تُولِجُ
اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ
مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ...﴾7.
والرزق نور إلهيّ:
﴿...
وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَاب﴾8.
هو ربّنا تجلياته باهرة في هذا الكون، أوجد نظامه المتقن، خلق الكائناتِ
العجيبةَ وأرشدها إلى كمالها اللائق بها:
﴿... رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ
ثُمَّ هَدَى﴾9.
إنّه هو الذي ألهم النحل كيف تبني لنفسها بيوتاً في الجبال بهندسة خاصّة، مستخدمة
الأشجار وأغصانها:
﴿وَأَوْحَى
رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ
وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ
شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾10.
وإنّما يمكن معرفة هذه التجليات والمخلوقات والأنوار الإلهية لأنّها تشرق وتغرب،
تظهر مرّة وتغيب أخرى، موجودة في وقت معدومة في آخر...وبعبارة أخرى فإنّه يوجد لهذه
الأنوار الإلهيّة ما يقابلها، لذا يتمكّن الإنسان من إدراكها.
ثمّ إنّ الإنسان من خلال إدراكه لمخلوقات الله وتجليّاته فإنّه يدرك شيئاً من النور
الإلهيّ الذي لا غياب له، فالحياة، بكلّ ما لها من تجليّات، من نموّ وجمال، وحسن
تركيب ونظام، من حبّ وعاطفة وغرائز هادية، كلّها تكشف لنا عن ذات الله.
كلّ هذه آيات تعكس لنا الواحد الأحد.
من هنا يكثر القرآن ذكر الحياة وآثارها وتجلياتها وشؤونها، إنّها قبس من النور
الإلهيّ، لأنّها فعل الله جلّ وعلا، ترشد وتهدي إليه من تفكّر فيها.
بعض أمثلة القرآن الكريم
فالقرآن يستدلّ بهذا النظام الثابت الجاري على الحياة والممات، يستدل ببعث الحياة
في الأرض من جديد في كلّ عام:
﴿... وَتَرَى الأرض هامِدةً فإذا أَنْزَلْنَا
عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زوجٍ بَهِيج، ذَلِكَ
بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ يُحيِي المَوْتَى وأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شيءٍ
قَديرٌ﴾11.
يستشهد بظهور الجنين في النطفة وتكامله
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ
مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ
أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾12.
فكل هذه إفاضات تصل من الغيب، لتحثنا على التفكر في كنه هذا الخلق، وعلى التعمق فيه
حتى نرى الله في مظاهره الخلاقة.
فلو تعمقنا في هذا النظام لأوصلنا إلى أفق معرفة هي واسطة في معرفة الله.
فالقرآن يأخذ بيدنا ويسير بنا في طريق الحياة والطبيعة لنشرفَ على النور الذي يشعّ
على جسد المادة، على الكمال الذي يفيض عليها، لنقترب شيئاً فشيئاً مع القرآن من أفق
الملكوت، إذ الحياة بكل حالاتها هي فيض من نور الله وعطائه.
لكن تبقى حقيقة أنّ هذه المخلوقات الإلهيّة مجرّد إشعاعات من نور مطلق ذاتيّ، وهذه
الإشعاعات ليست مطلقة ولا دائمة، فإذا كانت هي وسيلتنا إلى معرفة النور الإلهيّ،
فإنّ معرفتنا له ستكون محدودة بمحدودية هذه الإشعاعات اللطيفة.. وسيكون إدراكنا لله
محدود، هذه المحدودية عائدة إلى محدودية إمكانياتنا وقدراتنا، إلى قصور عقلنا
البشريّ وجهاز الإدراك لدينا، حيث أنّ عقلنا عاجز عن إدراك ذات الله، ولا يدركه إلا
بواسطة أفعاله ومخلوقاته.
النتيجة
في الوقت الذي يؤكّد القرآن أنّ الله أظهر من كلّ شيء.﴿هُوَ
الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾13.
فإنّ طراز (طريقة) صنع الفكر والعقل البشريّ عاجز عن إدراكه بذاته، هو لا يدركه إلا
بواسطة ما يقابله، ولذا فإنّه يدرك الله عن طريق تجلياته في هذا العالم ومظاهره
التي أوجدها، التي تشرق تارة وتغيب أخرى. يعرفه عبر الأنوار المحفوفة بالظلمة، فيما
الله نور دائم لا غياب فيه..والنتيجة المحتومة أن تكون هذه المعرفة ناقصة
ومحدودة بمحدودية هذه الأنوار والتجليّات، وهذا النقص والمحدوديّة يعود إلى قصور
هذا الإنسان في قبال عظمة هذا الخالق.
الخلاصة
إنّ العقل البشري وإدراك الإنسان محدود، فهو لا يدرك الأشياء إلا بواسطة أضدادها،
وإذا لم يكن لثمة شيء ما يقابله ويضادّه، فإنّ العقل البشري سيقف عاجزاً عن
إدراكه.والإنسان يدرك النور والظلام بالمقابلة بينهما، وكذا القدرة والعجز لولا
العجز لما عرف للقدرة معنى، وقس على ذلك العلم والجهل، الخير والشرّ، إلى ما هنالك
من أشياء يدركها هذا العقل...
هذا النقص والقصور في العقل البشريّ ينسحب بشكل طبيعيّ على معرفته لله، فمع أنّ
الله نور مطلق محيط بالإنسان بشكل دائم، إلا أنّ هذا العقل القاصر لن يدرك هذا
النور بذاته، بل هو بحاجة إلى ما يقابله كي يستطيع إدراكه.
من هنا إنما بوسع العقل أن يدرك الذات الإلهية بالنظر إلى نفسه التي تحوي الصفات
المقابلة لصفات تلك الذات، فالنفس منتهى العجز والفقر والحاجة والضعف، والله منتهى
القدرة والغنى والاستغناء، هو الكمال المطلق.
كما يمكن للإنسان أن يعرف الله بواسطة أفعال الله ومخلوقاته، إذ هذه الأفعال
والمخلوقات توجد وتنعدم، فتحمل الصفات المتضادة والمقابلة لبعضها، وعليه يتمكن
الإنسان من إدراكها، ومع إدراكها، وما هي إلا قبس من النور الإلهيّ، فإنّه سينعم
بشيء من معرفة الله.
وإذا كان الإنسان مضطراً في معرفته لربّه، وبسبب القصور في جهاز إدراكه، إلى
الاعتماد على مخلوقات الله وتجليّاته، والتي تشرق حيناً وتغرب أخرى، ولا يمكنه
معرفة الذات الإلهية مباشرة، فإنّ معرفته ستكون محدودة بمحدودية هذه التجليات
والأنوار الإلهيّة، وبمحدودية إدراكه لها، فالإنسان المحدود يعرف الله ضمن حدود
إمكاناته.
* العقل البشري ومعرفة الله , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- النور:35.
2- البقرة:115.
3- دعاء كميل لأمير المؤمنين عليه السلام (راجع: مفاتيح الجنان، الباب الأوّل:
الفصل السادس، في ذكر نبذ من الدعوات، دعاء كميل).
4- البقرة:255.
5- بحار الأنوار: العلامة المجلسيّ، ج2، ص32، ح22 (طبعة دار الوفاء).
6- الحجر:23.
7- آل عمران،:27.
8- آل عمران:27.
9- طه-50.
10- النحل:68-69.
11- الحج:5-6.
12- المؤمنون:12-13-14.
13- الحديد:3.