الدعاء
فكر الشهيد مطهري
للوهلة الأولى يمثّل الدعاء آلة يتوسّلها المؤمن لقضاء حوائجه، طامعاً في استجابة ربّه الكريم.. وفي الواقع فإنّ أسرار الدعاء أبعد من ذلك. فإنّ القلب إذا ما انضمّ إلى اللسان بانسجام، واهتزّت الروح عند الدعاء، فسيعيش الإنسان حالةً معنويّة عالية تستغرقه بكلّه،
عدد الزوار: 101آثار الدعاء
للوهلة الأولى يمثّل الدعاء آلة يتوسّلها المؤمن لقضاء حوائجه، طامعاً في استجابة
ربّه الكريم.. وفي الواقع فإنّ أسرار الدعاء أبعد من ذلك. فإنّ القلب إذا ما انضمّ
إلى اللسان بانسجام، واهتزّت الروح عند الدعاء، فسيعيش الإنسان حالةً معنويّة عالية
تستغرقه بكلّه، وتسمو حينها روحه فيدرك حقيقة جوهره وإنسانيّته الغالية، وإذ ذاك
فإنّه يزهد في تلك الأمور التافهة الحقيرة الّتي كانت تشغله وتقلق راحته، ويتحوّل
إلى إنسان مطمئنّ واثق بالله.
وإذا كان الإنسان يشعر بالمذلّة والهوان عندما يمدّ يد السؤال إلى غير الله، فإنّه
إذ يطلب من ربّه القدير يشعر بالعزّة والقوّة والإطمئنان، فالدعاء يهب الإنسان
العزّة، فينطلق في حياته غير راهب ولا متزلزل لأنّه برعاية عين لا تنام، وبين يديه
باب مفتوح للسائلين.
من هنا يتحوّل الدعاء إلى وسيلة وغاية، مقدّمة ونتيجة، طلب للإستجابة وقضاء
الحوائج، ومطلوب لكسب تلك الروحيّة العالية الّتي تورث اطمئنان القلب، وتلك العزّة
الّتي يمنحها هذا العمل الجليل.
لذا كان الدعاء لدى أولياء الله أحبّ الأعمال، فهو وسيلتهم لعَرْضِ طلباتهم
وأمانيهم على محبوبهم الحقيقيّ، مع ما يمنحه لهم من نجوى مع الله، فيدعون ويسهرون، قلوبُهم وأرواحهم حيّة لا يعتَوِرُها تعب ولا يستوقفها نَصَب.
وقد عبّر عن ذلك أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لكميل النخعيّ: "هجم بهم
العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، اسْتَلانوا ما استوعره المُترفون،
وأنِسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحِبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها مُعلّقة بالمحلّ
الأعلى"1.
وهذا بخلاف تلك القلوب الصدئة المقفلة المطرودة من رحاب الله.
الدعاء فطرة لدى الإنسان
في فطرة كلّ امرئ وفي نفسه طريق يسير به إلى الله سبحانه:
﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾2هذا الطريق يفتح قلب الإنسان عليه سبحانه ليلجأ إليه ويدعوَه ويعتمد عليه، إنّه
أمرٌ أصيل في فطرة الإنسان وطبيعيّ في وجوده، هذه الفطرة قد تغطّيها حُجُب الإثم
والشقاء، لكنّها لا تلبث أن تنجلي وتتحرّك وتبرز للعيان وذلك عندما تتعرّض للابتلاء
وتتقطّع بها الأسباب الّتي كان الاعتماد عليها، حيث يتوجّه الإنسان حينها إلى قدرةٍ
يعتقد بأنّها قادرة على غلبة وقهر الأسباب والعلل الظاهرة، وهو في ذلك إنّما يلتجأ
إلى الله القدير حيث يدعوه واثقاً بقدرته. فحتّى أشقى الأشقياء، نجده عند الابتلاء
وعندما تتقطّع به الأسباب قد انتابته هزّة تحرّك كيانه كلّه فيلجأ إلى الله سبحانه
وتعالى.
إنّ غريزة الدعاء والالتجاء إلى إله غير مرئيّ، هي من الغرائز البشريّة العليا،
الّتي لا بدّ أن يعرفها الإنسان ويعرف هدفها، فهي الهادية والمرشدة له، وكلّ غريزة
من هذا القبيل لا يكون وجودها عبثيّاً في الإنسان، بل وُجدت بناءً وتلبية لحاجة
ضروريّة لديه ألا وهي توجّه الإنسان إلى قدرةٍ قادرةٍ على غلبة وقهر الأسباب والعلل
الظاهرة، وبعبارة أخرى إلى الله القدير، ووُجدت هادية ومرشدة ليتحرّك هذا الإنسان
في سبيل سدّ تلك الحاجة.
وهذه الغريزة ما دامت موجودة فيه فإنّ لها واقعاً وحقيقة في الخارج. (فهي تشبه
إلى حدّ كبير بغريزة الرضاع لدى الطفل الوليد حيث يروح يبحث عن ثدي أمّه، ذلك الثدي
الّذي يناسب هذا الطفل ويحمل له الغذاء الضروري لحياته).
حالتان للدعاء
هناك حالتان يدعو الإنسان فيهما ربّه:
1- الانقطاع الاضطراريّ: وهو ذلك الدعاء الّذي يتوسّله الإنسان إذا ما ابتلي
بالمصائب والمحن، وأُوصدت في وجهه الأبواب وانقطعت به العلل والأسباب. حيث إنّه
يتوجّه تلقائيّاً وغريزيّاً إلى الله تعالى وهذا النوع من التوجّه نحو الله لا
يعتبر كمالاً إنسانيّاً.
2- الانقطاع الاختياريّ: وهو الدعاء في حالة رخاء الحال واطمئنان البال، حيث
يدعو الإنسان ربّه شاكراً ألطافه وخيراته، إذ يعلم أنّه هو الّذي أنعم عليه بهذه
النعم ومنّ بها عليه فيدعوه شاكراً لما سبق من أنعمه سائلاً أن يديمها عليه ويزيده
من فضله، أن يُبعده عن غضبه ويقرّبه من طاعته ليؤدّي حقّ شكره.
وهذا التسامي النفسيّ هو الّذي يُعتبر كمالاً لهذا العبد الشكور.
شروط الدعاء
إنّ للدعاء مجموعة شروط لا بدّ من توفّرها:
1- أن يدعو الله بكلّه، بحيث يتحوّل بكامل وجوده إلى صورة احتياج وطلب، إذ ما لم
يتّحد قلب الإنسان مع لسانه في انسجامٍ تامّ فلن يكون الدعاء دعاءً حقيقيّاً، وما
لم تكن كلّ جوارحه وجوانحه داعية وطالبة من الله فلا يكون الدعاء حقيقيّاً.﴿أمّن
يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء﴾3.
2- أن يدعو مع الاعتقاد الجازم بأنّ باب الرحمة الإلهيّة الواسع لا يغلق أبداً، كما
جاء في الحديث:"إذا دعوْت فظُنّ حاجتك بالباب"4.
وكما ورد في دعاء الإمام زين العابدين عليه السلام:"اللّهمّ إنّي أجد سبل
المطالب إليك مشرعة، ومناهل الرجاء لديك مترعة، والاستعانة بفضلك لمن أمّلك مُباحة،
وأبواب الدعاء إليك للصارخين مفتوحة. وأعلم أنّك للراجين بموضع إجابة، وللملهوفين
بمرصد إغاثة.."5.
3- أن لا يكون دعاؤه على خلاف سنّة التكوين ولا مخالفاً للشرع، إذ الدعاء هو طلب
العون للوصول إلى أهداف أقرّتها سنّة الكون والشريعة الإلهية، فلو طلب من الله
الخلود في الدنيا فلن يستجاب له، لأن دعاءه هذا ليس مصداقا حقيقيا للدعاء.
4- أن تكون أعمال الداعي غير مخالفة للشريعة، فعليه أن يكون نظيف القلب نقيَّه،
بحيث يكون في فعله وقوله منسجماً مع ما يقوم به من الدعاء، ففي الحديث عن الصادق
عليه السلام:"من سرّه أن يُسْتجاب له: فلْيطُب مكسبُه، وليخرج من مظالم الناس،
وإنّ الله لا يرفع إليه دعاء عبد وفي بطْنه حرام أو عنده مظلمة لأحد من خلقه"6.
5- أن لا يكون هو المسبّب للحالة الّتي يدعو الله تعالى أن يخلّصه منها، بأن تكون
هذه الحالة نتيجة منطقيّة وطبيعيّة لآثامه ومخالفاته، فتسلّط الأشرار على مقدّرات
المجتمع مثلاً نتيجة منطقيّة لتقصير الناس بوظيفتهم بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، اللّهمّ إلّا إذا أزال الناس أسباب هذه المشكلة، فتابوا وعادوا للأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، عندها ستعود إليهم الحالة الطبيعيّة في المجتمع:
﴿... إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا
بِأَنْفُسِهِمْ﴾7.
6- أن يدعو الله، وفي نفس الوقت يسعى في حاجته، فإنّ الدعاء والعمل مكمّلان
لبعضهما.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر"8.
فلا بدّ من الإستفادة من الوسائل التي هيّأها الله للإنسان ووفّرها له لكي يقضي بها حوائجه، ومن هنا جُعل من الّذين لا تستجاب لهم
دعوة: ".. رجل جالس في بيته يقول: اللّهمّ ارزقني، فيُقال له: ألم آمرك بالطلب؟!"9
، وهكذا بقيّة الأمور الّتي يكون الإنسان نفسه قادراً على حلّ مشكلتها بيده بالعمل
والتدبّر، لكنّه يقصّر عن ذلك فلا يعمل أبداً ويلجأ إلى الدعاء، فإنّ الدعاء لا
يقوم مقام العمل وإنّما هو مكمّل للعمل ومتمّم له.
استغلال فرص الدعاء
هناك فرص ونفحات خاصّة بالدعاء، ولذا تميّزتهناك فرص ونفحات خاصّة بالدعاء، ولذا
تميّزت بهذه الصفة، وكأنّها موسم العرض الخاصّ، وذلك كجوف الليل ويوم عرفة وليالي
القدر، وهي تمرّ مرّ السحاب فلا بدّ من استغلالها على أتمّ وجه، و﴿..لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾10،
حيث كان إذا حلّ الثلث الأخير من شهر رمضان، يطوي فراشه إلى آخر الشهر، إذ كان
يعتكف في المسجد وينشغل بالدعاء ومناجاة الخالق.
اعتراض البعض على الدعاء
يعترض البعض على الدعاء مرّة بأنه يتنافى والاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهي، وأنه ما أثر الدعاء طالما كلّ شيء في الكون يحصل بقضاء وقدر إلهي؟ وأخرى بأنّه يتنافى مع الاعتقاد بالحكمة الإلهية، وأنّ الدعاء طل لتغيير ما اقتضته الحكمة الإلهيّة من واقع.
وثالثة بأنّ الدعاء يتنافى مع الرضا والتسليم بمشيئة الله المطلوبين من الإنسان لا
سيّما المؤمن.
وفي الواقع إنّ كلّ هذه التساؤلات ناشئة من توهّم كون الدعاء أمراً خارجاً عن نطاق
قضاء الله وقدره، وأنّه على خلاف حكمته جلّ وعلا، والغفلة عن أنّه عين التسليم
بمشيئته سبحانه، فيما الدعاء من أجزاء القضاء والقدر، ومن أجزاء الحكمة الإلهيّة،
كيف لا والمصلحة الإلهيّة البالغة هي الّتي اقتضته وأمرت به:
﴿...ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ ..﴾11.
وقد حثّ الباري عليه مؤكّداً أنّه قريبٌ من المؤمن الّذي يدعوه:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي ...﴾12.
مراتب المؤمنين ولذة الدعاء
المؤمنون على مراتب:
أ- المؤمن الّذي يعتقد بوجود الله سبحانه، ويعرفه معرفة كاملة، لكنّه لا يمتلك حسّ
رؤية ألطاف الله وعنايته الّتي يفيضها في حياته الخاصّة واليوميّة، وهذه المرحلة
تسمّى بمرحلة "علم اليقين".
ب- المؤمن الّذي فضلاً عن معرفته واعتقاده، فإنّه يشاهد أثر توحيده وتوكّله
واعتماده على الله دون غيره، حيث يستشعر استجابة دعائه ويجد أثر التوكلّ والاعتماد
على الله في حياته الخاصّة، وهذا المؤمن يكون في مرحلة "عين اليقين".
ج- المؤمن الّذي يرى نفسه في ارتباط مباشر مع الله، بل لا يرى نفسه شيئاً يذكر،
وهذا العبد يكون قد وصل إلى مرحلة "حقّ اليقين".
وهذا المؤمن هو الّذي يعيش حقيقة الدعاء ولذّة الانقطاع إلى الله، فإنّه يمارس
فنّاً في العبوديّة والإيمان أسمى من فنون الطبّ والهندسة والرسم، ويعيش لذّة تفوق
لذّة رؤية مريضه الّذي شُفي، أو بنائه الّذي شمخ، أو لوحته الّتي تزهر، فأثر الدعاء
لمن يتقنه لطف إلهيّ يغمر الإنسان عزّة تهزّ الشعور، تسامٍ روحيّ يستغرق الذات
كلّها، وما يُتقنُ الدعاء إلّا ذلك المؤمن الّذي صار من أهل القلب النيّر السليم،
ومن الّذين لم تمتلكهم وتغرّهم هذه الأسباب الظاهريّة، فصاروا على ارتباط مباشر مع
الله يعتمدون ويتوكّلون عليه.
نسأل الله أن يوفّقنا إلى أن ندعوه ونناجيه بتلك الحالة المعنويّة السامية.
الخلاصة
ليس الدعاء مجرّد وسيلة لقضاء الحوائج، بل غايته أسمى من ذلك، حيث إنّه يبثّ الروح
المعنويّة في كيان الإنسان الداعي، كما انّه يتحوّل إلى عزّة لهذا المؤمن.
والدعاء أمر فطريّ غريزيّ جُبل الإنسان عليه، وهذه الغريزة كبقيّة الغرائز في
الإنسان لها ما يسدّها وهو ذلك الأمر الّذي ترشد إليه، وهي ترشد وتهدي إلى الباري
عزّ وجلّ وتدلّ عليه كقدرة لا نهاية لها يلجأ إليها الإنسان حيث شاء.
إنّ أسمى حالات الدعاء هي تلك الحالة الّتي يدعو فيها العبد ربّه وهو مطمئنّ الخاطر
مرتاح البال، فإنّه بذلك يكون عبداً شكوراً، وهذا يعدّ كمالاً إنسانيّاً له.
للدعاء شروط أهمّها: أن يدعو بلسانه وقلبه وجميع كيانه، أن يكون الداعي على يقين
بأنّ الأسباب بيد الله، أن يكون دعاؤه موافقاً للشريعة والتكوين، أن تكون أعماله
موافقة للشريعة، أن لا يكون دعاؤه للخلاص ممّا كان هو المقصّر فيه، أن يعلم بأنّ
الدعاء لا يُغني عن العمل.
ويعترض بعض على الدعاء من ناحية كونه مخالفاً للقضاء والقدر، وللحكمة الإلهيّة،
وللتسليم والرضا، والجواب أنّ الدعاء هو جزء من القضاء والقدر، وهو عين الحكمة
الإلهيّة، والتسليم والرضا بمشيئة الله سبحانه.
والحمد لله ربّ العالمين
* الدعاء ، سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
1- نهج البلاغة. باب
المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة 139 (بحسب طبعة دار الهجرة، ط
1).
2- سورة الذاريات، الآية: 21.
3- سورة النمل، الآية: 62.
4- الكافي، باب اليقين في الدعاء، ج 1، ص 473 (بحسب مطبعة حيدري، ط 4).
5- دعاء أبي حمزة الثمالي (راجع: مفاتيح الجنان، أعمال أسحار شهر رمضان، دعاء أبي
حمزة الثمالي).
6- الكافي، باب الثناء قبل الدعاء، ج 9، ج 2، ص 48.
7- سورة الرعد، الآية: 11.
8- نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام، الحكمة 328، ص 673.
9- الكافي، باب من لا تستجاب له دعوة، ج 2، ص 2.
10- سورة الأحزاب، الآية: 21.
11- سورة غافر، الآية: 60.
12- سورة البقرة، الآية: 186.